مجلة الرسالة/العدد 57/في الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 57/في الأدب العربي
أبو العتاهية
بقلم عبد الحليم عباس
لا اعرف. ما هو هذا الشيء الذي يجذبني إلى قراءة هذا الشاعر، ومعاودة هذا القراءة الفينة بعد الفينة.
فليست جودة شعره هي كل شيء، فهناك من يفوقه طلاوة لفظ، وصحة أداءه، وسمواً في الشاعرية.
لا لأنه يعيد لنا صورة حقبة رائعة للمجد العربي، والحضارة العربية، التي نما في أحضانها وتقلب في أعطافها، والتي تغذي فينا هذه العزة القومية، التي نشعر أنها مثلومة، كلما رأينا الوطن نهباً مقسما مهيض الجناح. . . هناك غيره من الشعراء، يمثلون أروع الحقب، وأزهى الأزمنة للفتح الإسلامية ثم نحن لا نستطيب احاديثهم، ولا نستملح سيرهم بهذا المقدار. . . ولعل السبب يعود إلى هذه العواطف والفكر، التي يبعثا فيك هذا الشاعر، والى هذا التركيب النفساني، الذي يبعث فيك صدى متضارب النغمات، ومزيجاً من العواطف فيها السخرية المشوبة بالعطف، وفيها الضحكة العالية، تنطلق لتقطعها عواطف الرثاء والرحمة. . . وليس هذا بالقليل، وآية متعة أسر للنفس، واخصب للفكر، من أن تفخر وترثى وتتفكه وتعبث. ثم تستعبر لتعود فتضحك ملء أشداقك. إنها الحياة مصغرة في سيرة شاعر ما أحراها منا بدراسة مستفيضة.
نسب أبي العتاهية وعصره
قوام النقد في العصر الحديث
النقد الحديث يقول أن العبقري ثمرة عصره، غذتها هذه الأصلاب، وهذه البطون تتلقفها، وهي تنسل من الاجيال، وتتمشى ببطء إلى زمنها المقدور وميقاتها المحثم، فللبحث في خصائص العباقرة، يجب أن تتناول قبل كل شيء البحث في أزمانهم، وتحليل هذه العوامل التي تتضافر على خلقهم. ثم مقياس إبداعهم الفني، وما يتركون من آثار، بمقاييس الجمال والفن المتواضع عليها في أزمانهم. . .
ولا مشاحة في أن هذه النظرية ارتفعت بالنقد إلى حيث أصبح مأمون الجانب من عبث الأهواء، وتقلب الميول، وألقت ضياء على هذه الدياجير التي كانت تعتور الباحث، وتتكاءد المنقب؛ بيد إنها من وجهة ثانية جادت على العبقري، ولم تحسب لهذا السر يودع في نفسه حسابا في أبحاثها، فليس الزمن، وليست قوانين الوراثة، هي كل شيء في إيجاد العبقري وتكوين رسالته. وإنما هو سر غامض مستعص حله كغيره من هذه الأسرار التي تحيط بهذا العالم الأكبر والأصغر، والتي يحاول العقل جهده إماطة اللثام عنها، ثم لا يجد غنيمة بعد الكد إلا سلامة القفول. . . وإلا فأي شيء هذا الذي يخلق الاثنين من صلب وأحد، وفي زمن بعينه، ثم تتسامى نفس أحدهما وتفتح أفكاره، فإذا هو يغذي الإنسانية بزاد المعرفة، ويتسامى بها، ويزيد في ذخيرة الخلود. وأما الثاني فيعيش خاملا مغمورا ويندس في سواد الناس. . . فقمين بنا أن نحسب لهذا حسابا في أبحاثنا. . . ثم نحسب لهذا المزاج والتركيب النفسي في الشاعر، وهو اثر من آثار هذه الهبة ألقته القوة المجهولة، في نفس الفنان وركبت أعصابه على مثال خاص، ليتلو رسالته ويهتف بلحنه على نغمة مرقومة ونحو خاص: حسابا عله لا يقل أهمية عن عوامل الزمن وقوانين الوراثة. . .
وما أحرانا ونحن نبحث بحثا مقتضبا عن الشاعر - أبي العتاهية - أن نغفل - ولو إلى حين - عوامل العصر والوراثة لنتكلم عن مزاجه، وحسبنا أن نعلم عن العصر والأصل. . . أن أبا العتاهية تحدر من أصل وضيع، ومن الموثوق انه اشتغل ببيع الفخار، ورافق المخنثين. أما الزمن فيكفينا أن نعلم انه من هذه الأزمان التي كان تنكر كل فضيلة، والتي يطلق عليها كلمة المتشائمة والتي كانت لاشك، والإغراق في المجون اظهر مميزاتها.
مزاج أبي العتاهية
وأول ما يطالعك من مزاج أبي العتاهية هذا التناقص، وهذا الاضطراب، فيما يأخذ ويدع، وفيما ينهج من سبل.
فلقد تجاذبت نفسه طرفي النقيض، وكان يرى الدنيا ويلابس الوجود على هدى نزعتين بينهما من الاختلاف ما بين النقيض ونقيضه. . . فهو آونة مندفع بتيار اللذة مستغرق بهذا المجون، الذي وصل بعصره حد الشناعة، وطورا تتقمصه أرواح الزهاد، فيلبس المسوح ويهجر اللذائذ، وتتملكه تملكا عنيفا فكرة الخوف من الموت. فإذا هذه الدنيا باطل، وإذا هو موف من الصلاح على الغاية. . . حتى ليحار فيه أهل عصره، وقد تصل بهم الحيرة إلى حد أن يحيلوا أمره إلى العبث، ويرموه بالتدجيل، والحق أن ليس في هذا عبث ولا تدجيل، وان الأمر صادر عن عقيدة خالصة طهور، وهذا التناقض قريب المرد إذا رحنا نستوضح خافيه على ضياء مزاحه، حتى لنرى أن قد تقاربت هذه المتناقضات، فإذا هي تنبع من عين واحدة. . .
فأبو العتاهية - لم يكن مستقيم المزاج وإنما هو مضطربة، وقد طغى فيه الجانب العاطفي، ولم تتح له نشأة صالحة، ولا بيئة هادئة، تخفف من حدة هذا الاضطراب، وتأخذ بزمام هذه العاطفة إلى حيث يتمكلها العقل، ويفرض عليها سلطانه، وقد بلغ من طغيان هذه العاطفة أن أصبح الشاعر عرضة لانفعالات مخيفة مستهجنة في عرف العقل، والعاطفة الصحيحة، كان يتخذ - مثلا - لباسه من قوصرتين يدخل رأسه في إحداهما. ويدخل رجليه في الأخرى، كل ذلك زهادة في الدنيا وكرها لنعيمها، ولكن أية سخرية تتملكن إذا رأيته يلقيهما بعد حين ليتخير على المنى، ويجري مع الغواية، وليسيم سرح اللهو، على أن ينفض يده كرة أخرى من نعيم الدنيا، ويجلس حجاماً لأبناء الفقراء، يبتغي المثوبة، ويطلب الباقيات الصالحات، ثم تكون آخر أمنياته. وقدمه في حياض الموت أن يسمع غناء مخارق.
كل ذلك جائز في عرف هذا المزاج المضطرب وليس بمستغرب منه، وإنما المستغرب ان يمشي وفاق نظام معين، وخطة مقررة. . . وإذا عرفنا هذا من أبي العتاهية، فقد عرفناه ظاهرا وباطنا، وأصبح سيرنا معه مأمون الغرابة. وأصبح لهذه الخطرات المستغربة علتها الأصيلة المعروفة المنبع والمورد. وأصبحنا نرقب منه في كل أمر شذوذا وانحرافا إلى ضده. فإذا رأيناه مثلا ينعى على الناس حرصهم ويقول:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلَّ الحرص أعناق الرجال
ارتقبنا منه ان يكون نادرة في الحرص.
وإذا نهض ليرى الناس صغارة دنياهم وحقارة بدرهم وأموالهم.
إن مال المرء ليس له ... منه إلا حظه الحسن
كل حي عند ميتته ... حظه من ماله الكفن
عرفنا انه أعجوبة الزمن، ونادرة العصر، في البخل والتقتير. . . عاتبه صديق له على هذا البخل المنقطع النظير وقال له: أن الناس يزعمون انك من شدة بخلك، وفرط تكالبك على حطام الدنيا لا تأكل اللحم - أو الأصح تشتريه - إلا في العيدين، فتأوه أبو العتاهية وقال: والله لقد ظلموني. وأني قد اشتريت لحما وتوابل في يوم عاشوراء.
على أننا نرى هذا البخل في حاجة إلى كلمة خاصة، فلقد كان من المنتظر أن يهب أبو العتاهية ولو مرة ليتلف هذا المال ويبذره جريا مع هذا المزاج، ولكنه لم يفعل هذا ولا جال بنفسه: وعلة هذا تعود إلى أمرين، أولهما انه نشأ في صميم الفقر، وذاق غصته، وعرف ان المادة هي كل شيء في قيم الرجال.
ما الناس إلا للكثير الما ... ل أو ما دام في سلطانه
وكان سيئ الظن بالناس، يخشى عادية الفقر، ويخشى ان طاح به غدر الزمان ألا يجد أخاً معينا.
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجك فوه
والسبب الثاني، انه أرضى مزاجه الغريب، بمناضة الناس وشدة حرصه وتكالبه، فكلما عن له ان يتلف ماله ذكر سوء المنقلب. فيندفع غلوا في التقتير.
وابو العتاهية سوداوي المزاج من نوع خاص يميل إلى ما يميلون إليه، ولكن أعصابه ما كانت لتقوى على السير على منهاجهم. فهو يتبرم بالناس وينشد الوحدة.
برمت بالناس وأخلاقهم ... وصرت أستأنس بالوحدة
ولكنه لا يقوى على وحشة الوحدة. فيعود ليندفع بشدة في صخب الاجتماع، فهو ضعيف الأعصاب من جهة، ومضطربها من جهة ثانية، واصدق مظهر يدل على ضعف أعصابه ما كان من أمره في شأن الدين. فقد زعم أهل عصره انه كان زنديقا، وقد انتابه الشك في أمر العقائد، وجاراهم في هذه النظرة رجال النقد الحديث، ولكنهم لم يبينوا لنا مدى هذه الحيرة في أمر الدين، ومقدار هذا الشك. فهو قد شك وحار، ولكنه شك الطفل وحيرته، تروعه الأشباح وتتملك وعيه الهواجس، فلا يجد بدا من الاستسلام فيروح يتعلق بالدين تعلق الخائف. ويستسلم إلى خرافاته استسلام العجائز.
إلهي لا تعذبني فإني ... مقرُّ بالذي قد كان مني فمالي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وانظر إليه لتتحقق صدق هذه النظرة وهو يناجي الموت، فما كان ليقف عنده وقفة المعري يسأله ويستوحيه عن أسراره وغوامضه، وإنما هي وقفة الخائف الرعديد، تلجمه روعة الموقف وتأخذ عليه الدهشة مسارب الفكر، فإذا كل ما يهجس بخاطره ويدور بخلده، خشوع عميق، ووصف مقتضب للموت يلوذ بعده، إلى إظهار التوبة والضراعة.
كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح لبنى الدنيا من الدنيا غبوق وصبوح رحن في الوشن وأصبحهن عليهم المسوح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح ويزيد في رخاوة هذه الأعصاب واضطرابها أن أبا العتاهية لم ينل حظا وافيا من الثقافة، وكان أيضاً ضعيف الخبرة بالدنيا لم يمر عليه من التجارب، ما يصقل هذه العاطفة المستوفزة.
ولمعترض ان يقول: كيف يكون ضعيف الخبرة، قليل التجربة من طفحت بأمثاله كتب الأدب وأسفاره. فهو قد نظم أرجوزة فحسب، أودعها مئات بل آلاف الأمثال والحكم الرائعة، وصحيح هذا، بيد أن هذه الأمثال ونحن نقلبها ونعيد تلاوتها، لا نجدها تدل على علم مستفيض وخبرة واسعة، فكلها في معنى وأحد، وان تجاوزته فإلى معان متشابهة مطروقة، فهو يرى أن الدنيا ما برح مقدورا عليها الفناء، فخير زاد للمرء التقي، أو السمعة الحسنة، ومن يقل غير هذا؟
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
هي المقادير قلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
كأن كل نعيم أنت ذائقه ... من لذة العيش يحكى لمعة الآل
وهكذا دواليك من العبر الرخيصة القريبة المتناول، والتي لا تحتاج إلى سعة في العلم ولا سمو في التفكير كالتي تجري على لسان المتنبي مثلاً: وإنما نحتاج إلى هذا اللسان الذرب، والشاعرية السمحة. ومن أولى بها من هذا الذي كان يتناول الشعر من كمه كما يقول الأصمعي، ولعل هذا هو السبب الذي يعود إليه كثرة السقط في شعره.
شرقي الأردن
عبد الحليم عباس