مجلة الرسالة/العدد 661/الأدب في سيرة أعلامه

مجلة الرسالة/العدد 661/الأدب في سيرة أعلامه

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1946



ملْتن

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 2 -

بين عهدين: منشأ البيوريتانية

وما ذلك المذهب الذي جر على اتباعه كراهة مخالفيهم زمنا، والذي قدر له أتخر الأمر أن يظفر بخصومه جميعا ويسيطر على البلاد حقبة من الزمن؟

إذا أردنا أن نعرف كيف نشأت البيوريتانية في إنجلترة، وجب ان نرجع إلى تلك الحركة التي انبعثت في أوربا في أوائل القرن السادس عشر، والتي اصطلح المؤرخون على تسميتها الإصلاح الديني ففي هذه الحركة الإصلاحية أرومة البيوريتانية، على أن نراعي في نظرنا إلى حركة الإصلاح الديني مشاعر الإنجليز التي هي نتيجة ما أحدثته بيئتهم من اثر في ميولهم ومزاجهم وفلسفة حياتهم؟ لتبين كيف استجاب فريق منهم لدعوة الاصلاح، نرى من ذلك أن استجابة هذا الفريق على نحو اختصوا به هو روح البيوريتانية؛ فما كانت البيوريتانية في إنجلترة إلا صورة معينه من صور الإصلاح الديني العام الذي شملت دعوته أوروبا في النصف الأول من القرن السادس عشر.

كانت هذه الحركة الإصلاحية ثمرة من ثمار النهضة الأوربية العامة ومظهرا من مظاهرها فقد نفذ نور النهضة إلى كل ركن من أركان الحياة ومنها الدين؛ وما كان لوثر بطل الدعوة الإصلاحية في ألمانيا وأول رجل تحدى البابوية إلا معبرا في الواقع عن معان وآمال كانت تهجس في نفوس كثيرة من المفكرين غيره، وإنما كان له فضل البدء والسبق في مضمار الجهاد، وكان بدء دعوته سنة 1517.

وكانت دعوة لوثر في جوهرها ثورة على دعوى البابوية أنها تحكم مفوضة من أمور الدين والدنيا، وعلى امتيازات القساوسة واطماعهم، وعلى ما ورثته المسيحية من مظاهر الوثنية القديمة؛ فهي من ناحية وثبة على سلطان الكنيسة ومن ناحية أخرى رغبة في العودة بالدين إلى جوهره الخالص من شوائب البدع والضلالات. . .

رأى لوثر أن في وسع كل مؤمن أن يتصل بربه مباشرة لا عن طريق قسيس كما تزعم الكنسية، بل إن في وسع كل امرئ أن يكون قسيسا إذا اخلص قلبه لله. وأنكر لوثر عقيدة الكنيسة في العشاء الرباني إنكارا شديدا، فما يقبل عقله أن صلاة القسيس لدى قربان من الخبز والنبيذ على المذبح تحيله فعلا إلى مادة المسيح نفسه لحما ودما. وطعن لوثر اشد الطعن على زعم البابا انه يملك الغفران والحرمان، وسخر اعظم السخرية من بيع الكنيسة صكوكا تمحو الذنوب والآثام. وخطا لوثر خطوة إيجابية فترجم الإنجيل إلى الألمانية، وطلب إلى الناس أن يكون مصدرهم الإنجيل وحده لا تعاليم الكنيسة. وتداول الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم ولم يأخذوه عن القساوسة وشاع فيهم هذا الكتاب عامتهم وخاصتهم بفضل ما استحدث من وسائل الطباعة فرأوا مبلغ ما دخل على الدين من زيف، وعجي الناس إذ وجدوا في الإنجيل أن القديس بطرس نفسه لم يعصم من الخطأ وأنه أنب على أخطائه. وإذا كان هذا شان بطرس القديس فما بال رجال الدين، وقد بعدوا عن المسيح وعهده هذا البعد الزمني، يزعمون العصمة لأنفسهم من الأخطاء؟

وأمعن لوثر في إظهار مبلغ ما صار إليه رجال الدين من إقبال على الدنيا وبعد عن الزهد، فما يهم الرجل منهم إلا جمع الهبات والصدقات، وانهم ليديرون الأراضي الموقوفة على الكنيسة منذ الاقطاع، ويشغلون أنفسهم بأمور دنيوية بحتة، ويتدخلون في الشؤون السياسية يطمعون أن تكون له سلطة كما للأمراء سلطة، حتى قلد نسوا رسالتهم الروحية ولم يبق لهم إلا مظهر يتجلى في ملابسهم وفيما يشخصون فيه من طقوس الأدعية والصلوات وما إليها مما لا يعد من جوهر الدين ولا من رسالته العليا. وألقى لوثر تبعة هذا الفساد على عاتق البابوات الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الدنيوية في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى مخالفين بذلك آباء المسيحية ولأولين الذين كانوا يدعون ما لقيصر وما لله لله. . .

ولم يكن مرد ما أحدثه من عظيم الأثر في ألمانيا ثم في أوروبا كلها إلى آرائه وحدها، ولكنه اثر في الأذهان اعمق الأثر بمسلكه كذلك؛ بهذه الجرأة البالغة التي خيل إلى الناس أنها اعظم من أن تكون صيحة بشر؛ فهذا أحد رجال الدين يتحدى البابا ويسخر من الكنيسة، وكان من يفكر بينه وبين نفسه آن أحد القساوسة يخطئ بله البابا نفسه يأثم بهذا إثما لا يمحوه إلا التوبة والندم!

وكثيرا ما يؤثر العظماء في الناس بأعمالهم ولو لم يقولوا شيئا فتكون أعمالهم ابلغ من كل مقال، هذا لوثر بقوله وعمله، فهو لا يتردد أن يحرق رد البابا على آرائه وفعل ذلك على أعين الناس، ثم يقابل قرارا البابا بكفرانه وطرده من رحمة الكنيسة، بكل ما في وسعه من عدم مبالاة وسخرية. . . ويعد عمل لوثر هذا في الحق فصلا رائعا في تاريخ حرية الفكر منذ أن بدا الناس يعشقون حرية الفكر وينادون بحرية الفكر، وستظل وثبته وقوته وجرأته حديثا عذبا تجري به الألسن وتبتهج له النفوس كلما اتجه الناس بأذهانهم إلى ذلك الأمل الحلو اعني به انطلاق الفكر من قيوده. . .

عصفت دعوة لوثر بسلطة الكنيسة وزلزلت القساوسة ومكنت لحرية الفرد اكبر تمكين، فلكل امرئ الحق أن يفكر في أمر دينه تفكيرا حرا لا يتقيد فيه بقيد؛ وكانت ترجمة للإنجيل إلى الألمانية فتحا ونورا، بهر العقول، وحرك النفوس الجامدة، وكشف للناس العقيدة الأولى نقية من شوائب الوثنية سليمة من ضلالات الكنيسة.

وما لبثت دعوة الإصلاح أن نهض بها زعماء غير لوثر، نخص منهم بالذكر كلفن الفرنسي الأصل الذي أحدثت آراؤه من عميق الأثر في أوروبا كلها ما لم تبلغ إلى مثله أراء لوثر نفسه.

وقد بدأ هذا الداعي دعوته سنة 153، وكانت أول خطوة خطاها هي توجيه الطعن إلى كنيسة روما وإظهار معايبها على نحو ما فعل لوثر.

ولئن اثر لوثر بإقدامه وحميته وتحديه وفصاحته، فلقد اثر كلفن بفلسفته القوية، ومنطقه الصارم الواضح الذي لا عوج فيه، ثم بمبادئه الخلقية التي استمسك بها ولم يسمح في تنفيذها بأية هوادة.

آمن كلفن بعقيدة القدر المحتوم؛ فكل إنسان مقدر عليه أمره من قبل أن يبرأ؛ والناس من اجل ذلك فريقان: فريق هدى وفريق حقت عليه الضلالة، وليس يتسنى في هذا العالم أن يعرف من هم أهل النعيم ومن هم أهل الشقاء، اعني لا نستطيع أن نحكم على امرئ أمن الذين شقوا هو أم من الذين سعدوا.

وإذا كان لوثر قد مكن لحرية الفرد وشعوره بذاتيته وكيانه، فإنه في الوقت نفسه مكن لسلطة الأمراء، وذلك لأنه استعان بهم واعتمد عليهم واستغل رغبتهم في التخلص من سلطان الكنيسة ومطالب الكنيسة. أما كلفن فقد كانت فلسفته ترمى إلى التحرر من كل سلطة استبدادية، سواء أتمثلت في الكنيسة أم في الأباطرة والملوك والأمراء؛ وكانت نزعته ديمقراطية ترمي إلى الاعتماد على جمهور الناس، وكان يرى أن القوى هو الله وحده وان الذي يخشى هو الله وليس غير الله؛ فالناس جميعا ملوكهم وسوقتهم أمام قوة الله سواء، وليس على الأرض من يتمتع بما يسمى حقا إلهيا وإنما الحاكمون هم ممثلو إرادة المجموع، وكان يرمي بآرائه هذه إلى تدعيم نظامه الكنسي الذي كان قوامه قوما يختارون من عدد من القساوسة وعدد من غير رجال الدين لإدارة الكنائس الكلفية، فلا سلطة على كنائسه لبابا ولا لأمير.

وثبتت عقيدة الخوف من الله وحده في نفوس اتباعه عدم الخوف من غيره بل والتمرد على كل مستبد من ذوي الطغيان؛ ولكن إذا كانت هذه الحرية حقا للفرد، فعليه فيما يقابلها واجب يتلخص في اتباع المبادئ الخلقية التي رسمها كلفن، وكان صارما كل الصرامة في تنفيذها. وعنده أن الفضائل تطلب لذاتها أولا قبل أن تطلب طمعا في ثواب أو خوفا من عقاب.

حرم كلفن الخمر والميسر والرقص والخلاعة وأعمال السحر والشعوذة والربا الفاحش وفرض لكل منها عقوبة صارمة وجعل عقوبة الزنا الموت، وكانت وظيفة كنائسه إرشاد الناس ومراقبتهم وأخذهم بالشدة إذا فرطوا في جنب الفضيلة.

شاعت اللوثرية والكلفنية في أوروبا، ثم انتقلت آراؤهما إلى إنجلترة؛ فكان أثرها هناك على صورة خاصة توضحها مشاعر الإنجليز واثر البيئة في تلك المشاعر.

ونقصد اثر البيئة الطبيعية وما يتصل بها من مؤثرات مناخية، فما لا شك فيه أن لهذه البيئة فعلها في تكوين مزاج أهلها على نحو معين، ثم فعل الوراثة متمما لفعل البيئة فتتكون مشاعر الأمة بمرور الزمن وهذه المشاعر هي مزاجها العام.

وكان لبيئة الضباب والسحاب والبرد الشديد ولأعاصير الهوج والغالات الموحشة والبحر المخوف أثرها في بث نوع من الظلمة العابسة والجد الصارم يشبه أن يكون كآبه في مشاعر الإنجليز والأمم التيوتونية على العموم؛ وقر في مشاعرهم أن صعوبة الحياة وقسوتها ضرب من القدر يقاوم في شجاعة وتحد، ويذعن له في رضى واستسلام؛ وذلك على خلاف ما كان في الطرف الجنوبي الشرقي لأوروبا مثلا حيث الشمس والدفء والنور كانت تبث المرح والحيوية في مشاعر الإغريق، وتميل بهم إلى متع الحياة ومسراتها.

فلما تحررت العقول نتيجة للنهضة الأوربية العامة، لم يكن عجبا أن يتجه الإنجليز بعقولهم المحررة إلى أمور الدين أكثر مما اتجهوا إلى مسائل العلم والفلسفة والفن، وأحدثت آراء كلفن أثرها العميق في نفوسهم وعلى الأخص رأيه في القدر المحتوم الذي لا سبيل قط إلى تغيير حكمه.

وعم تيار النهضة فغمر الحياة العامة وأشاع فيها البهجة والمرح والجمال والزينة، والرغبة في الاستمتاع بجمال الحياة ولذاذاتها، فكان منه ربيع حافل يتمثل في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير

ولكن الربيع لم يطل؛ وما ذلك إلا لأنه كان أمرا طارئا على مشاعر الأمة غريبا على مزاجها العام. وما أسرع ما استيقظت تلك المشاعر من حلم العصر الأليزابيثي فكانت يقظتها هي البيوريتانية وفلسفتها التي أخذت تسيطر على المجتمع الإنجليزي. والفرق بين ما أنتجته العقول في الأدب والفن في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير وبين ما أنتجته في العصر البيوريتاني أو عصر ملتن، يرينا مدى التغير الذي اخذ يطرأ على الحياة بعد حلم النهضة. ولقد لوحظت شواهد ذلك التغير في فن شكسبير نفسه في أخريات ايامه، وتجد أمثلة لذلك في روايتيه (العاصفة) و (قصة الشتاء).

هذه اليقظة من الحلم البهيج الفاتن، أو هذه الفلسفة التي عادت بمشاعر الأمة إلى طبيعتها هي روح البيوريتانية، ولكن رد الفعل كان شديدا؛ فداخل الحياة الإنجليزية نوع من التزمت الشديد كان أكثر مما تطيق النفوس في مواطن كثيرة، والبرهان على ذلك ما شاع في الأمة من سرور مع الملكية العائدة بعد زوال عهد كرمويل.

وقد رأينا كيف ظهر البيوريتانز كجماعة أول الأمر حين أصدرت الملكة اليزابيث مرسوم توحيد العبادات عام 1559، ورأى فريق من رجال الدين انه كان ينبغي أن يكون المرسوم أكثر تخلصا من مظاهر روما والكنيسة البابوية، فهؤلاء هم البيوريتانز. ونستطيع أن نلمح اثر اللوثرية والكلفنية في رغبة هذا الفريق في التخلص من مظاهر الكنيسة البابوية. ولقد كان لغضبة هنري الثامن على البابا وفصله كنيسة إنجلترة عن كنيسة روما أثره كذلك في نفوس هذا الفريق، فلئن كان ذلك الفصل من حيث الرياسة فحسب، مع بقاء العقيدة الكاثوليكية وطقوسها على ما هي عليه، إلا انه زعزع هيبة البابا في نفوس الإنجليز إلى مدى واسع، وجعل نزعة الإصلاح تستند إلى دعوى مشايعة السلطة الحاكمة ضد البابوية.

واخذ يزداد عدد هؤلاء الذين رغبوا في التخلص من مظاهر البابوية، وأخذت تشيع فيهم مبادئ الإصلاح الديني العام وعلى الأخص آراء كلفن وتعاليمه الخلقية، فلم ينته القرن السادس عشر حتى كان منهم فئة دينية رأينا كيف سميت باسم البيوريتانز؛ وأصبح لهذه الفئة نظرة إلى الحياة خاصة بها، لا في العقيدة الدينية وحدها، ولكن في السياسة كذلك وآداب المجتمع والأدب والفن؛ ولما تم لهم السيطرة السياسية استطاعوا أن يأخذوا المجتمع بمبادئهم أخذا قويا لا هوادة فيه، ولكنهم غلوا في تلك المبادئ غلوا كبيرا حتى تجاوزوا ما تطيقه مشاعر الأمة.

(يتبع)

الخفيف