مجلة الرسالة/العدد 772/بين شيخ وشاب وفتاة

مجلة الرسالة/العدد 772/بين شيخ وشاب وفتاة

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1948



للأستاذ ثروت أباظة

أما الشاب فأديب قانع من الأدب بتذوقه وتلذذه. قرأ أكثر ما كتبه المتقدمون، فلما كتب المتحدثون عزف عن القراءة، ولم يجد ما يبرر به هذا العزوف إلا أن يقول لم يعد في البلد أدب، أصبح هم الكاتب أن يكتب عن الحب والمرأة، كأن الدنيا قد خلت من كل شيء إلا الحب والمرأة. . فلم يعد فيها مجال للمثل العليا ولا نصيب للموعظة الحسنة. . أين كتاب الأدب القديم وشعراؤه؟ أين فلسفة المعري، وحكمة أبي تمام، وأمثال المتنبي؟ أين روائع ابن العميد، وبدائع عبد الحميد، ورقائق ابن الزيات؟ رحم الله الأدب!

وهكذا كان يعزي الشيخ نفسه عناجتوائها حديث الشباب، حديث الحب والمرأة.

وأما الشاب فهو ابنه، أراده على أن يكون أديباً فكان، ولكنه كان على غير طراز أبيه. . كان الأب يؤثر الأدب القديم ويجب أن ينهل ابنه من موارده، فأخذ يحفظه الأشعار المختارة لعباقرة الجاهلية والإسلام؛ ولكن ابن القرن العشرين لم يكن ليحتمل أن يقرأ كل كلمة مرتين: مرة في الكتاب ومرة في المعجم. فكره الأدب القديم بعد أن تزود منه ما يكفيه أساساً ونبراساً. ولما رأى أبنه تارك الأدب لو بقى مقصوراً على قدميه سمح لح أن يقرأ ما يشاء، فقرأ أكثر ما كتب في الأدب الحديث.

وأما الفتاة فهي زوجة الشاب، وهي أيضاً أديبة بفطرتها، لم توجه نفسها توجيهاً معيناً، ولكنها مع ذلك ذات حس فني دقيق وذوق أدبي مرهف.

أسرة تربطها أواصر القرابة والنسب، ثم توثق هذه الرابطة بينها رابطة الأدب. . أحببت هذه العائلة وأصبح من بواعث الغبطة في نفسي أن أزورها كلما تهيأت لي الفرصة. . وكان أن ذهبت، فوجدت (الرسالة) بين أيديهم، وكانت بها الحلقة الثالثة من (قصة فتاة). . وهي التي يصف فيها الأستاذ الزيات الفتاة حبيسة في الغربة، تلح عليه أن يجاوبها حباً بحب، لا حباً بنصيحة. ويصفها بقصتها مع الجاموسة، ثم بروايتها مع ابن البستاني.

رأيت الشيخ يتوثب على كرسيه، وقد رده الحنق شاباً؛ ورأيت الفتاة مهتاجة فكأنما هي صاحبة القصة، وكأن (س) اسمها الحقيقي؛ ورأيت الشاب يكتم فرحة تفيض على محياه، فبدا في وقاره وكأنه الشيخ. . . وعجبت أن يغضب الشيخ والفتاة لسبب واحد؛ إذ العادة أنه إذا غضب الشيخ رضيت الفتاة، وإن رضى غضبت. ولكن السبب، وإن اتحد في جوهره وهو المقال، تشعب في عرضه، قال الشيخ:

- لو لم يكن هو صاحب الرسالة لوثقت أن هذا المقال مزور عليه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد كان أسلوبه وأدبه عزائي عما أصابني في الأدب الحديث. إنه وحده الذي كان يظهر جمال الأدب الجديد حين يكسوه بالأدب القديم، أيكتب هو أيضاً عن الحب؟ وأي حب! وعن الشهوة؟ وأي شهوة! لا، لا يصلح قلم الزيات لهذا الأمر. . ثم التفت إلي وقال: قل له يرجع إلى ما كان عليه فإنه أولى به وأحرى.

قالت الفتاة: لا بأس يا عماه أن يكتب في الحب، ولكن أهكذا يكون حب الفتاة؟ أهي لا تحب إلا بهذه الصورة التي رسمها لها؟ إن الكاتب حين يكتب عن جنس بذاته يختار من بينه شخصية تتفق عناصرها وأغلب أفراد هذا الجنس

أفتاته (س) هي نموذج الفتاة العصرية؟ أكل فتاة عصرية ترى في الخطبة تجريباً وتدريباً ومتعة، وأن هذا التجريب يكون. . . لم يدعها الشاب تتم الحديث بل اندفع قائلاً:

- حسبك. . حسبك. . فو الله ما غضب لجنسك الجروح أن يتهم، ولكن غضبت لأنه يكشف الستار عن خبيئته، ويبدد ذلك الوهم الذي يرين على دخيلته. تضحكن على الرجال فتدعين غموضه وإيغاله في الاستخفاء. . وضللنا نحن المساكين نقع في حبائلكن ونرتمي في شباككن، محاولين الوصول إلى ما تخفيه نفوسكن حتى نتمكن بعد ذلك من إقامة الحياة في سننها الواضح. . ولكن أبيتن هذا علينا. حتى جاءت فتاة فكشفت عن أهم جزء من ذلك السر، فغضبت أنت وثرت. . ولكنك لم تعرفي كيف توجهين ثورتك، مع إنها واضحة الهدف.

رأيت النقاش يطول فقلت:

- لقد والله ذكرتموني بالمستمعين إلى شاعر الربابة، حين كانوا ينصبون المعركة قبل أن يعرفوا النهاية. . انتظروا قليلاً حتى نكمل القصة.

وكملت القصة خريفاً وكانت قد ابتدأت ربيعاً. هكذا كملت حقيقة، أما على صفحات الرسالة فقد كملت أمس. فذهبت إلى هناك، فإذا الشيخ ضاحك، وإذا الفتاة جذلة، وإذا الشاب يكفكف من فرح الشيخ، ويخفف من سرور الفتاة. . قال الشيخ: - ألم أقل إن الزيات لا يمكن أن يكتب في الحب لمجرد الحب. . لقد صدقضني فيه. إن القصة نصيحة مبذولة للفتيات من رجل خبر الدنيا وجربها. . وأبى أن يقصر تجاربها على نفسه. ألم تر إليه يقص قصة بلانكيت والخراف ثم الذئب ورواية الفتاة والشبان ثم الذئب أيضاً. إنها نصيحة احسن تغليفها حتى تخفف على السمع وتصل إلى القلب.

قالت الفتاة:

- لقد نالت تلك الفتاة جزاءها. . ولئن كشفت عن أسرار جنسها فإن أخاها قد أخذ بالثأر؛ وما أظن مآلها إلا الموت المحقق قال الشاب: (رويدك يا أبي! وحسبك يا زوجتي! فإن الرجل وإن ختم قصته بالنصيحة، فما ذاك بمانع القصة أن تهدف إلى أهدافها الأخرى. فهي فن قبل أن تكون إرشاداً، وهي تحليل نفسي قبل أن تكون هديا. . أما أنت فما هذا الكلام الغريب؟ تعزين نفسك بأن البنت قد نالت جزاءها، فهل ذلك هو الرد على حقيقة ما قالته عنكن! لشد ما تهرفن أيتها النسوة حين تفحمكن الحجة. حاول الشيخ أن يجيب، وحاولت الفتاة أن تغضب، ولكنني قطعت عليهما القول والغضب:

- إن القصة حلوة ومرة؛ يستطيع كل منكم أن يلتذ هذه الحلاوة وأن يكابد تلك المرارة. لينظر كل أليها من الناحية التي ترضيه. ولئن هذه النواحي فإن ثمة زاوية لو نظرتم منها جميعا ًما اختلفتم: القصة قصة الفن والأسلوب أسلوب الزيات.

ثروت أباظة