مجلة الرسالة/العدد 772/ظواهر في حياتنا الأدبية

مجلة الرسالة/العدد 772/ظواهر في حياتنا الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1948



للأستاذ أنور المعداوي

في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. وتستطيع أن تسمى كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج! ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية عندنا في هذه الأيام؛ فالنقد الأدبي في مصر هو (نقد الأغمار) كما سماه الأستاذ العقاد وأصاب في التسمية. ولقد تناول الأستاذ العقاد هذه المشكلة في معرض حديثه عن أحد الكتب التي ظهرت حديثاً حول فتنة عثمان، تناولها من زاوية الإشارة ولفت الأنظار، لا من زاوية النفاذ إلى مكامن العلل والأسباب، ومن هنا كانت اللفتة العابرة في حديثه أشبه بلقطة (الكاميرا) السريعة التي تجيد اختيار الزاوية عند التقاط الصورة. . . أما أنا فأحب أن ألتقط الصورة من زواياها المتعددة لأستطيع أن أعرض للمشكلة لوحة لا تنقصها وفرة (الرتوشن)! أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهو من ضعاف الملكة وقاصرى الأداة. هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعنى به الضمير الأدبي. . . وهو وحده مشكلة المشكلات وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لاوجود له؟ لاشيء يجدي على الإطلاق، لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجوز، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . . وماذا نفعل وأصحاب الضمير الأدبي في مصر هم فئة من ذوى الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا ذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يدعو إلى الهتاف؟! الضمير الأدبي في مصر هو مشكلة المشكلات. وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان الناقدين، وأنهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون احترام الآخرين. . . إنهم لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض! النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . وأقوال مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق، فهو قد يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد الأدبي؛ ولكنه يخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق؛ نملك لأن موهبة الذوق الفني عنده لم تنضج كل النضوج، والنقد في أصدق صوره وأكملها لا يقوم إلا على التوفيق بين القاعدة والمثال. . . وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة، ونعنى بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. . . وهناك المثقف الذي مجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن ضميره لقاء غرض من الأغراض!

هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام، وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سابقاتها خطورة، وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صفة التخصص؛ فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئاً في فن القصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يجب أن يقوم البناء الفني للمسرحية وعن التاريخ الأدبي وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور! ومما يبعث على الأسى والأسف أن بعض الأدباء ممن كانوا يحذقون صناعة النقد قد انصرفوا عنها إلى الكتابة في الصحف اليومية جرياً وراء المادة، غير مبالين بالفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال منذ سنين!

ونترك النقد الأدبي لنتحدث عن مشكلة أخرى هي مشكلة القصة المصرية الحديثة. . . وأول شيء نقرره هو أن القصة عندنا لا تزال تخطو فتتعثر، سواء في ذلك القصة الطويلة أو القصيرة التحليلية أو الموضوعية، التاريخية أو الذاتية، ومرجع هذا إلى أن كتابنا القصصيين لا يسيرون على القاعدة التي وضعها مارك سوان حين قال: (يجب أن يكون للقصة تصميم فني كذلك الذي يضعه المهندس المعماري للبناء؛ أو كتلك المذكرات التي يعدها المحامي قبل مباشرة إحدى قضاياه). . القصة عندنا ينقصها التصميم الفني؛ ينقصها كيف تبدأ، وكيف تسير، وكيف تنتهي؛ دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث! وكتاب القصة عندنا ينقصهم الفهم الصادق لأصول الفن القصصي في كثير من الأحيان؛ فمنهم من يعتقد أن الواقعية في القصة مثلا هي أن ينقل عن الواقع، المادي المحس، نقلاً يتركز في لفظ أو يتمثل في عبارة! الواقعية هي أن تنقل الحياة إلى الورق - لا كما كانت - ولكن كما يمكن أن تكون. . . الواقعية هي أن تسير الحادثة مع مجرى الحياة. . . الواقعية هي أصدق في التعبير بحيث لا يطغى الخيال على الواقع، ولا يجوز الفن على الطبيعة. الواقعية بمعنى آخر هي الدقة في تصوير انعكاس الحياة على حواس الفنان. فأين كتاب القصة المصرية من هذه المعاني؟! إنهم لا يفرقون في كثير من الأحيان بين أصول القصة التحليلية والموضوعية، ومن هنا تجدهم يحفلون في كل قصة من هذا اللون أو ذاك بالنهاية المفتعلة والعقدة المنافية لمجرى الحياة، ليحدثوا شيئاً من المفاجأة يثيرون به إعجاب القارئ، ولو كانت تلك المفاجأة على حساب الفن. . . مع أن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والأهواء، لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت؛ لأن هدفها الأول هو وضع العواطف الإنسانية تحت مجهر التحليل النفسي!

وتلمس إلى جانب ما ذكرت بعض الظواهر الأخرى التي لا تزال تترك أثرها العميق في بناء القصة المصرية، تلمس الحوار المصنوع، لأن كتابنا القصصيين يتخيلون أن فن الحوار يتمثل في اللفظ الأنيق، والمعنى الرشيق، والعبارة الموشاة، دون أن يرجعوا إلى الحياة ليروا أن كانت تطيق هذا كله أو لا تطيقه. الفن في الحوار في الصناعة اللفظية، ولكنه إنطاق الشخوص بما يمكن أن تنطقها به الحياة، فلا يتحدث أحد الخدم مثلا كما يتحدث سارتر أو كسير كجورد، ولا ينطق أحد الجهلاء كما ينطق بيكون أو ديكارت! وتنظر فتجد أكثرهم يحركون في قصصهم شخوصاً من صنع المخيلة لا من صنع الحياة، مخيلتهم هي التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، فاكون النتيجة زيفاً في العمل الفني يبعد القارئ عن جو الواقعية الذي تنشده كل قصة يرجى لها البقاء؟ وتبحث عن تصوير الجو الشرقي والروح المصرية فلا تقع عليه في كثير مما أخرجه كتاب القصة في السنين الأخيرة. وهذا راجع إلى السطو على الفكرة في القصة الغربية ونقلها بمهارة إلى القصة المصرية كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم، تماماً كما تأتي من غانيات باريس فتنزع عنها آخر ما ابتكرته محال الأزياء الباريسية ثم تلبسها (الملاءة اللف!) قد تكون أجمل، وقد تكون أكثر فتة، ولكنها تتعثر في مشيتها ولا تستطيع أن تواصل السير. وكيف تستطيع وهذا اللباس الغريب يحد من حرية الجسم ورشاقة الحركة؟!

وكثير من قصاصينا تنقصهم صفة الخروج إلى الحياة. . . ومن هنا تفوح من قصصهم رائحة (الجدران المغلقة)، ونعني بها تلك الأركان المنعزلة التي يقبعون فيها ليرسموا للحياة لوحة تستمد ظلالها وأضواءها وألوانها من جو المحال العامة والأندية الخاصة. . . الفنان الحق ومن يخرج إلى الحياة ليستخدم كل حواسه في تذوق معانيها، ونقل كل ما يمكن أن يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، والفن - كما قلت غير مرة - ما لم يتصل، بالحياة فهو همود وجمود وموت!

وإذا ما انتقلنا إلى المشكلة الثالثة وهي مشكلة المسرحية المصرية الحديثة في أي لون من ألوانها سواء كان هذا اللون هو الدرامة أو الميلودرامة أو الكوميديا، وجدنا أن خطوات العمل الفني فيها أكثر تعثراً منه في القصة، ومرجع هذا أيضاً إلى أن من يعالجون كتابة المسرحية في مصر أناس لا يلمون كل الإلمام بأصول الفن المسرحي. إن نجاح المسرحية يتوقف إلى حد بعيد على توفيق الكاتب في اختيار الفكرة أولاً، ثم على تهيئة الجو المسرحي لفكرته تهيئة تعتمد أول ما تعتمد على بعث الحياة والحركة في الحوار، وفيما يعرض من نماذج بشرية يتعمد في تحريكها عن جو الدُّمى وقطع الشطرنج، وعلى عنصري التشويق والمفاجأة، وعلى لتسلسل الفني في عرض الحوادث عرضاً لا تحس فيه انقطاع الصلة بين الفن والحياة أما أساس العمل الفني في المسرحية فهو (الصراع)؛ النفسي والفكري والفني كما يقسمه واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث هنريك إبسن، وأما الصراع النفسي فهو ذلك الذي يكون بين ميول نفسية، والفكري هو ذلك الذي يكون بين ميول ذهنية، والفني هو ذلك الذي يتمثل في عملية الحوار، من ناحية صدق الصلة بينه وبين كل شخصية تلعب دورها على المسرح. كل هذه الدعائم لابد من توفرها ليتم البناء الكامل للمسرحية الناجحة، وقد تجد بعض هذه الدعائم متوفراً في المسرحية المصرية؛ ولكن مصدر إخفاقها هو خلوها في كثير من الأحيان من عملية (الصراع) بأركانه الثلاثة مجتمعة، وبخاصة الصراع النفسي، فليس منه إلا ومضات قليلة مبعثرة تشع هنا وهناك.!

هذه هي الظواهر التي خرجت بها من دراستي لبعض جوانب حياتنا الأدبية في السنين الأخيرة، وهي ظواهر تستطيع كما قلت لك أن تلمس في كل منها مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج!

أنور المعداوي