مجلة الرسالة/العدد 919/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 919/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 919
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1951



للأستاذ عباس خضر

رسائل الرافعي:

في سنة 1912 كان الأستاذ محمود أبو رية أديباً ناشئاً، وقد أعجب بالأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فاتصل به عن طريق المراسلة، حتى نمت العلاقة بينهما وصارت صداقة ومودة. كان أبو رية يكتب إلى الرافعي يسأله عن كثير من شؤون الأدب ومسائله، فيجيبه برسائل تحتوي على كثير من الآراء واللمحات إيجاز تقتضيه طبيعة الرسائل الخاصة، وكان الرافعي يرسل نفسه على سجيتها في هذه الرسائل لا يكاد يخفي شيئاً من نوازعه وخواطره.

وقد ظفر الأدب من تلك المراسلة بهذا الكتاب (رسائل الرافعي) الذي أصدره أخيراً الأستاذ محمود أبو رية، مشتملاً على 218 رسالة انتقاها من بين ما كتب إليه الرافعي (لما فيها من فوائد جليلة للأدب والمتأدبين يله ما تحتوي عليه من تفصيل شامل لتاريخه الأدبي وغير الأدبي) كما قال في مقدمة الكتاب. وقد عنون لها بما يدل على أهم ما فيها، ورتبها ترتيباً زمنياً، يبدأ من سنة 1912 إلى سنة 1934، فجاءت (فلما) يعرض أطرافها من حياة الرجل الشخصية والأدبية وملامح من تيارات الحركة الأدبية في مصر طيلة تلك الفترة ممن الزمن. والقيمة الكبرى لهذه الرسائل هي أنها تصوير صادق لنفسية الرافعي ودوافعه الأدبية، وفيها إلى جانب ذلك تلك الفوائد الأدبية التي أشار إليها الأستاذ أبو رية، وفيها أيضاً إشارات كثيرة إلى ما كان بين الأدباء في ذلك الزمان من مجاذبات يلونها الرافعي بعاطفته الخاصة، إذ كان يقف من أكثر أدباء الجيل موقف المخاصم المنافح، وقد أحسن الأستاذ أبو رية بحذف بعض العبارات القاسية التي وصف وعبر بها عن أولئك الأدباء، والاكتفاء بالخفيف المقبول منها. وفي الرسائل كلها روح لطيف ممتع، هو روح الطبيعة المطلقة غير المتحرجة، إذ أن كاتبها لم يكن يقدر - ولا شك - أنها ستنشر على الناس.

في هذا الكتاب يبدو الرافعي (وراء الكواليس) كما يعبرون بلغة المسرح. . فهو يحدث أبا رية عن مؤلفاته ومقالاته، لم كتب هذا أو ذاك، وما وقعه، ومتى يكتب مقال كذا أو يشرع في تأليف كذا، ويحدثه مع ذلك عن آلامه وأمراضه ومنها ما ناله بسبب الكتابة. . . إلى آخر هذه الملابسات. ومما يستشفه القارئ من هذه الرسائل، اعتزاز الرافعي بأدبه اعتزازاً يبلغ به درجة الغرور، ومحبته السافرة للتقريظ وأثناء؛ فهو يرى أنه - وحده - أديب الزمان، وسائر ما يكتبه الأدباء (تدجيل صحفي) لم يكد يسلم من تجريحه أحد من أعلام الأدب في عصره، وهو يحدث أبا رية عن حملاته الأدبية وكيف أنها نسفت من نازلهم أو أنه سيكتب عن فلان ما لن تقوم له بعده قائمة، ويتمنى أن يتفرغ للنقد نحو سنتين أو ثلاث ليهدم العصر كله من جميع نواحيه الضعيفة ويبني عليه أدباً جديداً، ولقد كان ذلك رأيه في الوقت الذي بلغ فيه الأدب المصري الحديث أعلى ما بلغه من القوة والازدهار، ولقد كتب هو في النقد فكانت كتابته أقرب إلى الشتم والهجاء وخاصةً ما كان يسميه (السفافيد) التي كان يشري عليها من يمزق لحومهم:

وهكذا نرى الرافعي في هذه الرسائل يعد نفسه فارس الحلبة، ويرى أنه وحده الواقف في الميدان، وهو يصرح بذلك في هذه الرسائل الخاصة، وكان حياؤه ولباقته وفطنته تمنعه من هذا الادعاء في أدبه العام. ولعل ذلك راجع إلى ما كان يراه من تقدير الناس لغيره أكثر منه، فهو يحاول أن يعوض هذا النقص بلسانه في الخفاء، وإن لم ينقل به في العلن:

وهو يحب الثناء ويطلبه، يطلب من أبا رية أن يكتب عن كتبه في الصحف، ويسر كل السرور من تقريظ المقرظين، بل هو يجعل الثناء عليه مقياساً لقيمة المثنى. وهو لا يرى أدبه أحسن من الأدب المصري الحديث فقط، بل يفضل بعض كتبه ومقالاته على ما كتب الأقدمون، وعلى ما كتب كتاب الغرب مثل برجسون وشكسبير ولا مرتين.

وبعد فقد أحسن الأستاذ محمود أبو رية بإخراج هذا الكتاب القيم الممتع الذي إضافة له لوناً طريفاً إلى كتب الأدب.

ضبط الكتابة العربية:

ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة في (ضبط الكتابة العربية) بإحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي الماضية، وقد بسط فيها المصاعب التي تعترض ضبط الكتابة العربية على صورتها الحالية، مما يؤدي إلى الخطأ في نطق الكلمات وتعذر القراءة الصحيحة، لا على عامة المتعلمين فقط، بل إن المختصين في اللغة لا يستطيعون الضبط التام إلا باطراد اليقظة ومتابعة الملاحظة ومزيد التأني.

وبعد أن جال الأستاذ تيمور بك في نواحي هذه المشكلة، عرج على ما أقترح لها من حلول فبين عدم صلاحها، وخاصة أنها إما تباعد بين الشكل القديم المألوف والوضع المقترح أو تثقل العمل المطبعي وتعقده، ذاهباً إلى أن الإجراء الذي يمكن أن نكفل له قبول الأمة العربية في جملتها، هو أن يكون لمشكلة الكتابة العربية حل لا تتغير به الحروف القائمة ولا تتنكر معه صورتها المألوفة.

ثم أبدى الأستاذ ما يقترح من حل، قائلاً: أرى أن نقتصر من صورة واحدة، من الصور المتعددة التي منها المفرد ومنها ما يقبل الاتصال بحسب أول الكلمة ووسطها وآخرها وبحسب وقوع الحروف في بنية الكلمة المركب بعضها فوق بعض، وأن نتخذ علامات الضبط المتعارف التي يجري بها الاستعمال، وأقترح أن تكون الصورة التي تقتصر عليها من صور الحروف هي الصورة التي تقبل الاتصال من بدء الكلمات، وهي التي يسميها أهل فن الطباعة: حروفاً (من الأول)، على أن تختار الكاف المبسوطة وتظل حروف الألف والدال والذال والراء والزاي والواو والتاء المربوطة واللام ألف - باقية على صورتها في حالت إفرادها.

وقدم الأستاذ مثالاً للطريقة التي يقترحها، منه ما يلي:

(أريد أن نقتصر من صور الحروف عليه بصورة واحدة).

ويرى قراء الرسالة هذا البحث القيم منشوراً في هذا العدد والذي قبله. وقد التقيت بالأستاذ تيمور بك وحدثته في أمر هذه الطريقة من حيث ما يلقاه الذين اعتادوا الكتابة الحالية من مصاعب في الكتابة الجديدة، فقال إن هذه الطريقة خاصة بالمطبعة، أما الكتابة باليد فتظل على حالها، أسوة بما يجري في اللغات الأوربية.

ولكن ألاحظ أن الكتابة الأوربية اليدوية تشتمل على حروف الضبط كما تشتمل عليها الكتابة المطبعية، بخلاف ما تكون عليه الحال في الكتابة العربية المقترحة، فيكون الشبه من حيث الشبك وعدمه فقط.

ورأى أن أهم اعتراض يوجه إلى تلك الطريقة، أن عمال الصف في المطبعة لن يستطيعوا صف الكلمات مشكلة وهي مكتوبة لهم مهملة، فإذا كلفنا الكاتبين المطبعين أن يشكلوا لقوا في ذلك جهداً وعنتاً، ولا يخفى مع هذا أن أكثرهم لا يعرفون ضبط كثير من كلمات اللغة، وكم يستر عدم الشكل من جهل!

مسرحية الجلف ومريض الوهم.

جالت (فرقة المسرح المصري الحديث) جولتها الأولى على مسرح الأوبرا الملكية في شهر نوفمبر الماضي، إذ قدمت مسرحيتي (أبن جلا) لتيمور و (البخيل) لموليبر، وقد حدثت القراء عنهما في ذلك الوقت. وهاهي ذي تبدأ جولتها الثانية على مسرح الأزبكية، لتقدم في حفلة واحدة مسرحيتي (الجلف) لتشيكوف و (مريض الوهم) لموليير، وهما من إخراج الأستاذ زكي طليمات وقد بدأت يوم السبت الماضي.

قدمت أولاً (الجلف) وهي تمثيلية قصيرة تستغرق نحو خمسين دقيقة، تظهر في منظر واحد تبدو به السيدة الشابة (بوبوف) في ثياب الحداد على زوجها المتوفى منذ سبعة أشهر، وهي على رغم ذلك تبكي وتنشج حزناً عليه، وهذا أيضاً على رغم أنه كان يخونها ويهملها أحياناً، كما تقول في مناجاة صورته. ويقتحم عليها هذه العزلة رجل ثائر يطالبها بدين كان له على زوجها، وهو يستعمل في مطالبته العنف وعدم المبالاة بما يحسن في مخاطبة النساء، بل ينهال عليها وعلى جنس النساء شتماً وتقريعا، كل ذلك لأن يريد دينه اليوم وهي تستمهله إلى بعد غد. وتنشب بينهما مشادة يدعوها فيها إلى المبارزة. . أليس (جلفاً)؟

ويأخذ تشيكوف (مؤلف المسرحية) في معالجة الموقف بحيث يجعل الميل والاستلطاف يداخلها فيجتاز بهما البرزخ الدقيق الذي بين الكره والحب. . فينطقان بعبارات الثورة والغضب وهما يشعران بالحب، فلا ينزل الستار عليهما إلا حبيبين.

فالصراع في المسرحية بين حالتين لدى كل من الجلف والسيدة بوبوف، فالأول جرب النساء وأقتنع أنهن لا يستحققن الاهتمام، ولكنه يجد نفسه أمام امرأة تغزو قلبه من جديد؛ والأرمل المتغالية في الحداد على زوجها وقد اعتزلت الناس لا تستطيع مقاومة هذا المقتحم الجبار، ويخيل إلى أن المؤلف فتح لها الباب إلى هذا الحب الجديد بأن زوجها كان يخونها ويهملها.

ومما تبطنته المسرحية، الالتفات إلى ما تطالب به المرأة من مساواة الرجل، فلتكن المبارزة من قليل المساواة التي تطلبها: كما يقول الجلف مبرراً خشونته وقسوته.

وقد قامت ملك الجمل بدور السيدة بوبوف، فاثبتت قدرتها على تمثيل العواطف الدقيقة، وقام محمد السبع بدور الجلف فأجاد، وأظهر ما في إجادته أنه كان يبرز الانتقالات المختلفة في الموقف الواحد بتعبير الإلقاء والحركة. ومثل احمد الجزيري (لوكا) الخادم العجوز فقام به على وجه لا بأس به.

ثم قدمت بعد ذلك مسرحية (مريض الوهم) فاستغرقت بقية الوقت ومريض الوهم هو السيد (ارجان) الذي يعتقد أنه مريض وأن (حياة له بغير الطب والأطباء، على حين يبدو في غاية الصحة والعافية. وهو لذلك يريد أن يعقد الأواصر بينه وبين الأطباء كي يولوه عنايتهم، ويصل به الأمر إلى أن يحاول التضحية بسعادة أبنته (انجليكا) إذ يريد أن يزوجها بالطبيب (توما) غير عابئ بحبها للشاب (كليانت) الذي أغرمت به وأغرم بها. وتظهر مع مريض الوهم الخادمة (توانيت) التي تعنى به، وهذه الخادمة تقف على دخائل هذه الأسرة وخاصة موقف السيدة (بلينا) من زوجها مريض الوهم الذي تخدعه بإظهار الحب له والعناية به وتتحايل على استلاب ماله والتخلص من ابنتيه إذ تشير عليه بإدخالهما الدير. وتعمل الخادمة (توانيت) على إصلاح هذه الأسرة فتحل مشاكل أفرادها بتدبيرها الموفق، فتظل تساير الرجل في ميوله وتسخر منه أحياناً. ويأتي غليه أخوه (بيرالدو) الذي يخالفه في الفقه بالأطباء، فينتقد مسلكه ويحمل على الأطباء ويؤكد له أنه في صحة جيدة، ومما يدل على أنه في غاية الصحة أن أدوية الأطباء لم تؤثر فيه ولم تقض عليه إلى الآن: وتعمل (توانيت) على ذلك أيضاً من ناحية أخرى وبأسلوبها الخاص من حيث الاحتيال وتدبير المفاجآت. وينتهي الأمر بأن يقتنع السيد أرجان أنه يستطيع هو أن يكون طبيباً. ولا يكلفه ذلك إلا أن يلبس المعطف والقبعة ويحفظ بعض الأسماء اللاتينية وينطقها كما ينطق بها هؤلاء الأطباء الذين لا يفضلونه ولا يزيدون عنه علماً.

تصور المسرحية - إلى جانب تحليل نفسية مريض الوهم - دجل الطب وشعوذة الأطباء في عصر موليير قبل التقدم العلمي في العصر الحديث. وقد قدم نماذج عجيبة من الأطباء وسخر بهم وأضحك منهم. ولا بد أن كان لهذه المسرحية في وقتها وقع عظيم لأنها تعالج ناحية كانت ظاهرة في ذلك العصر، ومع أن تلك الظاهرة غير موجودة الآن فإن البراعة في تصوير الشخصيات، وتكرر شخصية مريض الوهم في العصور المختلفة، وسياق المآسي الإنسانية في أغلفة الفكاهة - كل ذلك يكسبها جدة وقوة في كل وقت.

وقد مثل مريض الوهم عدلي كاسب، وكان ملائماً للدور كل الملاءمة، فأندمج فيه. ومثلت الخادمة (توانيت) سناء جميل وهي فتاة تمتاز بالحيوية والقوة في تمثيلها. ومثل (كليانت) صلاح سرحان فكان قوياً في موقفه وقد استطاع بقوته الجدية التي يتطلبها موقفه أن يثبت بجانب الشخصيات الفكاهية الطاغية، مثل سعيد أبو بكر الذي مثل (توما) والذي فجر الضحك من أعماق الجمهور، ومثل أحمد الجزيري الذي مثل الطبيب الأكبر والد (توما) وقد كان الجزيري هنا أحسن منه في مسرحية (الجلف) واستطاع عبد الغني قمر أن يفني في شخصية المسجل العجيبة رغم ما فيها من تعقد والتواء. وقامت زهرة العلى بدور (انجليكا) فكانت معبرة في مواقفها المختلفة وقد تحسن إشباعها للنطق العربي عن ذي قبل وقامت سميحة أيوب بدور الزوجة المخادعة الناعمة، وأعتقد أن الدور كان يتطلب منها أكثر مما بذلت. وقام محمد السبع بدور أخي مريض الوهم، فلم يحسن فيه بمقدار ما أحسن في دور (الجلف) مع أنه كان يتحدث عن آراء موليير في الطب والأطباء، فلم يف تمثيله بأهمية الدور.

وجهد الإخراج في هاتين المسرحيتين يتجلى في الممثلين والممثلات أنفسهم، فإن الأستاذ زكي طليمات يخرجهم كما يخرج الرواية، وقد أحسن تنسيقهم على المسرح، واجتهد في تحسين المناظر وتجديد الأثاث البالي الذي عرف به مسرح حديقة الأزبكية. ولكني لاحظت أشياء صغيرة في منظر مسرحية (الجلف) فهناك مكتب أعتقد أن في (سوق العتبة) ما هو خير منه. . وإطار مرآة يحيط بغير مرآة. . . ومع ذلك فقد كان البطلان ينظران فيه. . وقد أمسكت السيدة بحبل معلق بجدار الغرفة لتستدعي الخادم والمفروض أن الحبل متصل بجرس في الداخل ولكن لم يسمع أي صوت لهذا الجرس.

ولا يستطيع القلم أن يمسك عن الكتابة قبل أن يزجى التحية إلى هذه الفرقة التي أنستنا أنها ناشئة، وقبل أن أبدى الإعجاب بهذه الروح التي تشيع فيها فتجعل كل فرد منها يعمل لإنجاح الجميع، وقبل أن أعرب عن سروري ببدء. حياة جديدة للمسرح المصري.

عباس خضر