مجلة الرسالة/العدد 951/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 951/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 951
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1951



للأستاذ عباس خضر

معالي الدكتور طه حسين باشا:

تلقيت البلاد يا معالي الوزير، بعد رحلتك في أوربا، فرحة مستبشرة، لما انطوت عليه نفوس أهلها من العرفان لفضلكم في نهضتها التعليمية التعميمية، مطمئنة إلى أنكم مواصلون ما أخذتم على عاتقكم من هذا العمل التاريخي الجسيم.

وعدت ألينا أيها العميد العزيز بعد الصيف الذي يحكم علينا دائما أن نتراخى، وقد نهرب منه إلى هنا وهناك، ولا نستطيع على رغم ذلك أن نهمل دعاء الحياة إلى مشاغلها وأهدافها، ولكننا اعتدنا أن نؤجل الكثير من الأعمال ريثما تذهب حدة القيض ويأتي بعدها ما يتقدم بنا إلى موسم النشاط.

عدت ألينا في بداية ذلك الموسم، ونشطت في نفوسنا آمال الجماعة التي جريت على العمل لخيرها، فأهلا ومرحبا بك أولا، أما ثانية فلدي أحاديث شتى في مسائل التعليم وشؤون الأدب والأدباء، أحب أن أحدثكم بها، كما اعتدت أن افعل في أحيان قدومكم من أسفاركم الموفقة المثمرة، وأنا اشعر أني بذلك اقدم لكم تحية قدومكم ألينا، وهي تحية عجيبة لما تنطوي عليه من الطلب، مما لا يكون عادة في التحيات الطيبات، ولكني مصر عليها، ومن حسن الحظ أني أتوسم إيثاركم إياها على التحايا الخاليات المخليات.

تغلبت يا معالي الوزير على العقبات المالية في تسيير التعليم ونشره، فكافحت ضيق الميزانية، وحاججت وزارة المالية، لتعليم الشعب كله، ولو رجعنا إلى بدء عملكم في سبيله ذكرنا ما كان يقال بل ما كان يخامرنا من الإشفاق. كان يقال أما تسرفون في التصريحات وفي الأمل، وكنا نشفق من وعورة الطريق. وأصبحنا الآن لا نستكثر على همتكم شيئا ولا نشفق عليكم من المطالبة حتى بالمستحيل. .

تغلبت على العقبات المالية، فأدنيت ثمار التعليم من الجميع وأنت الآن بصدد تنظيم الشكل، ولكن هناك وراء ذلك كله اللباب. . وهو روح التعليم ومادته وطريقه. هناك المناهج المكتظة بما يثقل ولا يجدي، والخالية مما يفيد، وهناك الطريقة الآلية التي تعني بالتلقين والاستيعاب دون الهضم والامتصاص والتمثيل.

وأنتم حينما تأخذون في هذا السبيل المؤدي إلى تقويم مناهج التعليم وبعث الروح فيه، ستعترضكم عقبات من نوع مغاير للعقبات المالية، هي عقبات في عقول المتولين المباشرين لشؤون التعليم، أعني حفظ النظم الجامدة، وورثة الأساليب الاستعمارية، أعني من هؤلاء وأولئك الجامدين والتافهين، الذين يعدون المناهج، ويؤلفون الكتب ويفتشون على المدرسين. . الخ.

لقد أطللتم على تلك الناحية من الإصلاح، من خلال التشريع الذي أعددتموه لإلغاء امتحان النقل بالمدارس، ولكن هذا لا يكفي، بل أنه لا يتفق مع المناهج والطرائق الحالية، بل مع تلك التعليقات، لأن إلغاء الامتحان مع بقاء ذلك لا ينتج غير كسل المعلمين وجهل التلاميذ.

إنك يا معالي الوزير الأديب عقلية جديدة على وزارة المعارف، وأقول لك - وقد حرضتني أو شجعتني على مثل ذلك - إن اكثر معاونيكم في الوزارة ليست عقليتهم من جنس عقليتكم، وإنما هم يحترفون وسائل الوصول، وإن سحب هؤلاء حولكم تحجب كثيرا من العناصر الصالحة.

وادعوا الله مخلصا ألينا يوفقكم ويعينكم على التغلب على العقبات العقلية، كما وفقكم وأعانكم على العقبات المالية.

وبقية حديثي إليكم هذا الأسبوع، يا عميد الأدباء، في مسألة تخص أحد إخواننا الأدباء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، فقد أصدرتم قبل سفركم إلى أني قرار بترقيته إلى (مراقب مساعد) في الإدارة العامة للنشاط الاجتماعي والرياضي، وحدثت قراء الرسالة إذ ذاك بهذا الصنيع الكريم لأديب قضى في خدمة الأدب العربي قرابة ثلاثين سنة، وعرفه قراء العربية ناقدا ومحققا وقاصا بارعا وعددنا ذلك مما جريتم عليه في مودة الأدباء وخدمتهم سواء في الوزارة أو في خارج الوزارة.

وكان المفروض ألينا يأخذ ذلك القرار الكريم طريقه إلى التنفيذ من مكتب المستشار الفني لوزارة المعارف، ولكنه قبع في هذا المكتب ولا يزال قابعا حتى كتابة هذه السطور. ولست ادري أنسيته سعادة المستشار؛ أم هو يحبسه لغرض لا نعلمه. الأنوار الذي أنا على يقين منه ألينا معاليكم أصدرتم هذا القرار لينفذ ويعمل به.

وتفضلوا معاليكم بقبول خالص المودة ووافر الإجلال.

جغرافية البلاد العربية:

ذكرت من قبل في توصيات اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، أن هذه اللجنة أوصت أن تخصص الجامعة جائزتين لتشجيع التأليف تمنحان سنويا، الأولى لأحسن كاتب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق أهداف الجامعة العربية العامة، والثانية لتكليف مؤلف عربي أو اكثر بوضع كتاب يستكمل وجها من أوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة الحياة العربية وإنتاجهم الفكري وحضارتهم.

وقد جالت بخاطري ناحية من نواحي النقص في التأليف تنطبق عليها الفقرة الأخيرة التي تتضمن الجائزة الثانية، تلك هي (جغرافية البلاد العربية) التي لا توجه إليها العناية الكافية في التعليم عندنا، وهي أيضا مثل من أمثلة النقص في برامج التعليم الذي أشرت إليه في الموضوع السابق الذي وجهته إلى معالي وزير المعارف. وأذكر أن توصيات المؤتمر العربي الثقافي الأول تضمنت وجوب العناية بجغرافية البلاد العربية، ولكنا لا نزال نهمل هذه الناحية، أو نحن لا نوليها حقها في معاهدنا، وأقول في هذه المناسبة أن برنامج التعليم في مصر وفي سائر البلاد العربية لم تفتح أبوابها بعد لتوصيات المؤتمرات واللجان الثقافية، كما تبين ذلك من مناقشات المؤتمر الأخير، على رغم أن وزارات المعارف بالدول العربية تمثل فيها، وعلى رغم الخطب الطنانة الرنانة التي تلقى بها!

أليس من المخجل أن يطوف مدرس الجغرافية بتلاميذه العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا دون أن يعرج على البلاد العربية التي مصر جزء منها فيعرفهم على ما اتفقنا على تسميته (الوطن العربي الأكبر)؟ والى ذلك الإهمال المعيب في تعليم الجغرافية في معاهدنا يرجع جهلنا الفاضح بالبلاد العربية، وقد كان هذا الجهل مطبقا قبل أن تتناول الصحف المسائل العربية المختلفة التي أثيرت في السنوات الأخيرة. واذكر مثلا أن سلطان الحج زار مصر منذ سنين وكتبت عنه الصحف، ولم نكن نعلم قبل ذلك أين لحج هذه التي يزورنا سلطانها!

وبعد فليت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية تبدأ بهذا الموضوع في تكليف من يؤلف للجائزة الثانية.

وأعتقد أن خير من يقوم بهذه المهمة الدكتور سليمان حزين بك المدر العام للثقافة بوزارة المعارف، وإن من وضع الأمور في مواضعها أن يسند إلى هذا الأستاذ الكبير الذي برع في فنه الجغرافي، والأشراف على تعليم الجغرافية أو الارتفاع به في وضع مناهج للمدارس والتأليف فيها، فإن ذلك أجدى من اشتغاله بمواعيد حضور الموظفين وانصرافهم بإدارة الثقافة وما إلى ذلك من الشؤون البعيدة عن أستاذيته.

كلوا وأعملوا:

شغلت الصحف في الأسبوعين الماضيين بأنباء المواطنين الذين اضربوا عن الطعام واعتكفوا بنادي الكتلة الوفدية، طلبا لإلغاء معاهدة سنة 1936، وأخذت هذه الحركة شكلا جديا وطنيا، لاهتمام الصحافة ولتأييد الكثيرين للمضربين، وقد تألفت لجنة لهذا التأييد. وأرادت الحركة أن تكبر حينما دعا الداعون جميع المواطنين إلى الإضراب عن الطعام يوما من الأيام. .

كان ذلك فعلا مظهرا من مظاهر إرادة الشعب للتخلص من هذه المعاهدة التي يشعر إنها من نكد الدنيا عليه. ولكن الحق أنني لم استسغ هذا العمل أو بتعبير أدق (اللاعمل) مع احترامي للدوافع الوطنية التي دفعت هؤلاء المواطنين إلى هذا الإضراب وتقديري لقدرتم على مشقة الحرمان.

الإضراب عن الطعام وسيلة سلبية الغرض منها حمل الآخرين على عمل معين، يلجا إليها الأطفال مثلا للإعراب عن غضبهم كي يحملوا الأمهات والأباء على إجابة رغباتهم؛ وكثيرون من الأباء والأمهات يقفون موقف الحزم من أولادهم الغاضبين على الطعام لكيلا يعتادوا ذلك. . ويلجأ إليها بعض الوطنيين كي يحركوا الضمير الإنساني العام الذي دلت الحوادث على فقده. . أو ليحملوا مواطنيهم على الاتفاق في وجهة وطنية معينة، وكان هذا غرض (غاندي) من صومه.

ولست أشبه مواطنينا الذين اضربوا، بالأطفال، وإنما ذلك من باب استيفاء الصور الواقعة، وقد علمنا أن الضمير الإنساني لا وجود له، بدليل أننا لم نكسب بإضرابهم، ولم يكن ينتظر أن نكسب لو متنا جميعا من الجوع، أي عطف أو تأييد من آية دولة من الدول، في آية هيئة من الهيئات العالمية!.

أما التشبيه بغاندي فلا موضع له، فكلنا - حكومة وشعبا متفقون على وجوب إلغاء المعاهدة، فلا معنى لذلك الإضراب إلا المطالبة بالإلغاء قبل الدراسة الكاملة للموضوع، ولن يهمل الموت المضربين حتى تتم هذه الدراسة، فتكون النتيجة الانتحار.

ذلك كله على فرض الإضراب عن الآكل وسيلة سليمة، ولولا المشاعر الوطنية التي دفعت أولئك الذين أضربوا، لوصفت هذا العمل بالصفات التي لا تسرهم. وما أشد حاجتنا إلى العمل الإيجابي لخير وطننا، واقل ما نحتاج إليه لهذا العمل أن نأكل لنقوى.

إن هذه الوسيلة السلبية الهزيلة لا ينبغي أن يشجع عليها بالنشر، ولا ينبغي أن تؤيد بالخطب وتأليف اللجان، ولا بأي نوع آخر من التأييد، إلا إذا جاز التشجيع على الانتحار وتأييده!.

والمسألة كلها إنما كانت بالتشجيع والتأييد. . وليس جديراً بهما إلا من يأكل ويعمل.

عباس خضر