مجموعة الرسائل والمسائل/أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة


قاعدة أهل السنة والجماعة

(في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة)

قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى وتقدس (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).

وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي في الخوارج " أنهم كلاب أهل النار " وقرأ هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم. وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية - وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ".

والخوارج هم أول من كفر المسلمين بالذنوب. ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق.

وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه.

فصل في أن الصلاة خلف مستور الحال جائزة بإجماع أهل السنة

ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهله العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل الإسلام بلا خلاف عندهم.

وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحد أنه لا تصح إلى خلف من عرف حاله.

ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.

فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعا وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.

فصل في أن أهل السنة لا يكفرون مسلما بذنب وبدعة ولا يمنعون الصلاة خلفه

ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

الأحاديث في المسلم الذي له حقوق في الإسلام وحرمته

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي لما خطبهم في حجة الوداع " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " وقال " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه " وقال " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله " وقال " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال " أنه أراد قتل صاحبه " وقال " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " وقال " إذا قال المسلم لأخيه لا كافر فقد باء بها أحدهما " وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

المسلم المتأول في تكفير غيره أو قتاله لا يكفر وأدلة ذلك

وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " فقال النبي " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ " وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضا: من حديث الأفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: أنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم أنك منافق، ولم يكفر النبي لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي ذلك لما أخبره وقال " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا.

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل. ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي سأل ربه " أن لا يهلك أمته بسنة عامة أعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك " وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا.

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو من تحت أرجلكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) قال " هاتان أهون ".

وجوب اتفاق المسلمين وحظر تفرقهم بالاختلاف والذنوب

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال النبي " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة " وقال " الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " وقال " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم ".

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي في الصحيح " يؤم القوم أقرأم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة. فإن كان في الهجرة سواء فأقدمهم سنا " وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا وكان قد رد بدعة ببدعة.

المصلي خلف الفاجر والمبتدع لا يعيد كأصحاب الأعذار والجاهلين

حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان صح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.

وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلا بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفكر) هو الحبل فقال النبي " إنما هو سواد الليل وبياض النهار " ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.

وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت، وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين " ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ".

فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدرا.

فصل في الإجماع على قطع المسلم بالشهادتين وما يجوز الاستثناء فيه

أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن ذلك حق يجزم به المسلمون يقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علمه المسلم وجزم به فهو يقطع به وإن كان الله قادرا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء، وإذا قال المسلم أن أقطع بذلك فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال إن الله لا يقدر على مقل إماتة الخلق وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق هم قوم أحدثوا ذلك من عندهم ولم يكن هذا الشيخ ينكر هذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون في الإيمان كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويستثنون في أعمال البر، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. ومراد السلف من ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمر الله ورسوله، فيشك في قبول الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثني لأن الأمور جميعها إنما تكون بمشيئة الله كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله) مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه.

جهل من كرهوا القطع في كل شيء، وقبول التوبة من كل كفر وذنب

وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور، ثم جاء بعدهم قوم جهال فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى عن النبي أو عن أصحابه أو واحد من علماء المسلمين أنه كره لفظ القطع في الأمور المجزوم بها فقد كذب عليه. وصار الواحد من هؤلاء يظن أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن مرزوق ولا أصحابه في حياته ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ مطلقا، بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم.

كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سب الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب ورووا عن النبي أنه قال " سب أصحابي ذنب لا يغفر " وهذا الحديث كذب على رسول الله لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن لأن الله تعالى قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا في حق من لم يتب. وقال في حق التائبين (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله لا يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) فثبت بكتاب الله وسنة رسوله أن كل من تاب تاب الله عليه.

ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر أو مجنون أو معلم أو مفتر وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي صرح، وكان قد ارتد وكان يكذب على النبي ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن، ثم تاب وأسلم وبايعه النبي على ذلك.

قبول توبة من سب الصحابة

وإذا قيل: سب الصحابة حق لآدمي: قيل: المستحل لسبهم كالرافضي يعتقد ذلك دينا، كما يعتقد الكافر سب النبي دينا. فإذا تاب وصار يحبهم ويثني عليهم ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات. ومن ظلم إنسانا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبل الله توبته. لكن إن عرف المظلوم مكنه من أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أصحهما أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل بل يحسن غليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته. كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم والحسنات يذهبن السيئات. كما أن الكافر الذي كان يسب النبي ويقول إنه كاذب إذا تاب وشهد أن محمدا رسول الله الصادق المصدوق وصار يحبه ويثني عليه ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته والله تعالى (يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وقد قال تعالى (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير).

((آخر كلام شيخ الإسلام بن تيمية، قدس الله روحه الزكية، وأسكننا وإياه بمنه الغرف العلية. وصلى الله على محمد وصحبة وسلم)).

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله