محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثانية والثلاثون


كتاب النذور

ومما ذكرنا مسائل فيها خلاف قديم ، وهي - : من نذر الصدقة بجميع ماله ، ومن نذر أن ينحر نفسه ، ومن نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو مسجد إيلياء ، أو الركوب ، أو النهوض إلى مكة ، أو إلى موضع سماه من الحرم ، ومن نذر عتق عبده إن باعه ، أو عتق عبد فلان إن ملكه . فأما الصدقة بجميع المال فقد ذكرنا من قال : لا شيء في ذلك من الصحابة والتابعين إذا خرج مخرج اليمين - وهو قولنا . وقالت طائفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله في المساكين فعليه أن يتصدق به كله ، صح ذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رجلا سأله فقال جعلت مالي في سبيل الله ؟ فقال ابن عمر : فهو في سبيل الله . وروينا عن سالم ، والقاسم بن محمد ، أنهما قالا في هذه المسألة : يتصدق به على بعض بناته . وصح عن الشافعي ، والنخعي ، أنهما كانا يلزمانه ما جعل على نفسه - وهو قول عثمان البتي ، والشافعي ، والطحاوي ، وأبي سليمان ، قال هؤلاء : فإن أخرجه مخرج اليمين فكفارته كفارة يمين إلا أبا سليمان فقال : لا شيء في ذلك . وقالت طائفة : يتصدق بجميعه حاشا قوت شهر فإذا أفاد شيئا تصدق بما كان أبقى لنفسه - وهو قول زفر بن الهذيل ، ورأى فيه إذا أخرجه مخرج اليمين كفارة يمين . وقالت طائفة : يتصدق بثلث ماله ويجزيه - : روينا ذلك عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب - وصح نحوه عن الزهري - وهو قول الليث بن سعد . وقالت طائفة : فيه كفارة يمين - : روينا ذلك أيضا عن عكرمة ، والحسن ، وعطاء . وروينا ذلك قبل عن عائشة أم المؤمنين ، وعمر ، وجابر ، وابن عباس وابن عمر - وهو قول الأوزاعي . وقالت طائفة - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أنه سئل عمن جعل ماله هديا في سبيل الله عز وجل ؟ فقال : إن الله تعالى لم يرد أن يغتصب أحدا ماله ، فإن كان كثيرا فليهد خمسه وإن كان وسطا فسبعه ، وإن كان قليلا فعشره . قال قتادة : الكثير ألفان ، والوسط ألف ، والقليل خمسمائة . وقالت طائفة - ما روينا بالسند المذكور إلى قتادة ، قال : يتصدق بخمسه . وقالت طائفة : يتصدق بربع العشر - كما روينا ذلك آنفا عن ابن عباس وابن عمر وهو قول ربيعة ، وسوى بين من حلف بصدقة جميع ماله أو بصدقة جزء منه سماه وإنما روينا ذلك عنهم في اليمين بذلك . وروينا عن عبد العزيز بن الماجشون أنه استحسن قول ربيعة هذا . وقالت طائفة - كما روينا من طريق ابن جريج ، وعمر بن ذر ، كلاهما عن عطاء فيمن قال : إبلي نذر ، أو هدي ، أنه يجزيه بعير منها . قال ابن جريج عنه : لعله يجزيه إن كانت إبله كثيرة . وقال ابن ذر عنه : يهدي جزورا ثمينا ، ويمسك بقية إبله . وأما المتأخرون فلهم أقوال غير هذا كله - : قال أبو حنيفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله نذرا ، أو على سبيل اليمين ، فإنه يلزمه أن يتصدق من ماله بكل نوع تجب فيه الزكاة فقط ، كالمواشي ، والذهب والفضة ، سواء كان معه من ذلك نصاب تجب في مثله الزكاة ، أو كان أقل من النصاب - ولا شيء عليه في سائر أمواله . قال أبو محمد : ولا ندري ما قولهم في الحبوب وما يزرع ، والثمار ، والعسل ؟ فإن الزكاة في كل هذا عنده نعم ، وفي كل عرض إذا كان للتجارة وهو قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن - وهذا قول في غاية الفساد ولا يعرف عن أحد قبل أبي حنيفة ولا متعلق له بقرآن ولا بسنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول سلف ، ولا قياس ، وموه بعضهم بأن قال : المال هو الذي فيه الزكاة لقول الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } . قال أبو محمد : الصدقة المأخوذة إنما هي من جملة ما يملك المرء ، وما اختلف قط عربي ، ولا لغوي ، ولا فقيه ، أن الحوائط ، والدور تسمى : مالا ، وأموالا - وأن من حلف أنه لا مال له وله حمير ، ودور ، وضياع ، فإنه حانث عندهم ، وعند غيرهم - : وقال أبو طلحة لرسول الله أحب أموالي إلي بيرحاء { وقال رسول الله لكعب بن مالك أمسك عليك بعض مالك ؟ فقال : إني أمسك سهمي الذي بخيبر } . ويلزم على قولهم الفاسد أن لا تجزئ صدقة أصلا إلا بمال فيه زكاة أو بمقدار الزكاة فقط . وقال مالك : سواء نذر ذلك أو أخرجه مخرج اليمين إن قال : مالي كله صدقة على المساكين أجزأه ثلثه ، فإن قال : دوري كلها صدقة على المساكين وضياعي كلها صدقة على المساكين ، وثيابي كلها صدقة على المساكين ، ورقيقي كلهم صدقة على المساكين ، فلم يزل هكذا حتى سمى نوعا نوعا حتى أتى على كل ما يملك - : لزمه أن يتصدق بكل ذلك أوله عن آخره ، لا يجزيه منه الثلث إلا أنه يؤمر ولا يجبر . فلو قال مكان المساكين على إنسان بعينه - : لزمه أن يتصدق عليه بكل ذلك ويجبر على ذلك . وقالوا : فلو نذر ، أو حلف أن يتصدق بماله كله ، إلا دينارا أنه تلزمه الصدقة بجميعه إلا دينارا - : وهذا قول في غاية الفساد ، لأنه لا قرآن يعضده ، ولا سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول نعلمه عن أحد قبله ولا قياس ، ولا رأي له وجه ؛ بل هو مخالف لكل ذلك . ونسألهم عمن نذر أن يتصدق بماله كله إلا نصف دينار ، أو درهما حتى نبلغهم إلى الفلس ، وحبة الخردلة ؟ وقال ابن وهب : إن كان ماله كثيرا تصدق بثلثه ، وإن كان يسيرا فربع عشره ، وإن كان علقة قليلة ، فكفارة يمين - وهذا أيضا قول لا وجه له . قال أبو محمد ليس لشيء من هذه الأقوال متعلق يحتاج إلى ذكره إلا قول من قال من قال : يتصدق بجميعه ؛ وقول من قال : يتصدق بثلثه ، وقول من قال : كفارة يمين فقط . فأما من قال : كفارة يمين ، فإنهم احتجوا بالخبر الثابت عن النبي من قوله { كفارة النذر كفارة يمين } . قال علي : وهذا خبر لا حجة لهم فيه لأن النبي قال { : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } ؛ فلا يخلو النذر بصدقة المال كله من أن يكون طاعة لله تعالى فيلزم الوفاء به ، أو يكون معصية فلا يلزمه أصلا إلا أن يأتي نص صحيح في ذلك بحكم ما فيوقف عنده ، فبطل تعلقهم بقوله عليه السلام { : كفارة النذر كفارة يمين } - ولهذا الخبر وجه ظاهر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى . وأما من قال : يتصدق بجميعه فإنهم قالوا : هو نذر طاعة فعليه الوفاء به . قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، بل ليس هو نذر طاعة على ما نبين إن شاء الله تعالى ؟ وأما من قال : يجزيه الثلث ، فإنهم احتجوا بخبر : رويناه من طريق أبي داود نا محمد بن يحيى نا الحسن بن الربيع نا ابن إدريس قال : قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن { عبد الرحمن بن عبد الله بن مالك عن جده في قصته إذ تخلف عن تبوك قال : قلت : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني أمسك سهمي من خيبر } . وبخبر : رويناه من طريق ابن شهاب : أن حسين بن السائب بن أبي لبابة أخبره { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله - عز وجل - أن أهجر دار قومي ، وأساكنك ، وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } . ومن طريق ابن شهاب - : أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة عن أبي لبابة بمثله . ومن طريق الزهري أخبرني ابن المسيب فذكر الحديث ، وفيه { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله ، وأن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } . قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به ، وكله لا حجة لهم فيه ؛ لأنها كلها مراسيل ، والأول منقطع ؛ لأن ابن إدريس يذكر أنه سمعه من ابن إسحاق . وأما تمويه المالكيين بالاحتجاج بهذا الخبر فعار عظيم عليهم ؛ لأنهم مخالفون له كله بتلك التقاسيم الفاسدة ، وبأنهم يرون عليه الوفاء بصدقة نصف ماله إذا نذره - وفي هذا الخبر خلاف ذلك ، والتسوية بين النذر بصدقة جميعه ، وصدقة نصفه - فبطل أن يكون لهذا القول متعلق . قال علي : فإذا بطلت هذه الأقوال إلا قول من قال : يتصدق بجميعه ؛ لأنه طاعة منذورة - فههنا نتكلم معهم إن شاء الله تعالى ، فنقول - : قال الله تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } . وقال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } . وقال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } فلام الله تعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك . ومن طريق البخاري نا أحمد بن صالح نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال : سمعت { كعب بن مالك - فذكر حديث تخلفه عن تبوك - وأنه قال لرسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ فقال رسول الله أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك } . ومن طريق مسلم عن أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح عن ابن وهب بإسناده مثله ، وزاد فيه فقلت : إن أمسك سهمي الذي بخيبر . ومن طريق أبي هريرة عن رسول الله  : { أن خير الصدقة ما ترك غنى ، أو تصدق عن غنى ، وابدأ بمن تعول } . ومن طريق أبي هريرة عن النبي  : { ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ، فهكذا وهكذا } . والأحاديث ههنا كثيرة جدا . ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الظفري عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : { كنا عند رسول الله إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال : يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ، ما أملك غيرها ؟ فأعرض النبي عنه مرارا - وهو يردد كلامه هذا - ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها ، فلو أنها أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال عليه السلام : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد فيتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى } . ومن طريق عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه ، وفي آخره : أنه عليه السلام قال : { خذ عنا مالك ، لا حاجة لنا به } . ومن طريق سفيان بن عيينة بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : { دخل رجل المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ، ثم حث عليه السلام على الصدقة فطرح الرجل أحد الثوبين فصاح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال خذ ثوبك } . ومن طريق حكيم بن حزام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى } . فهذه آثار متواترة متظاهرة بإبطال الصدقة بما زاد على ما يبقي غنى ، وإذا كان الصدقة بما أبقى غنى خيرا وأفضل من الصدقة بما لا يبقي غنى ؛ فبالضرورة يدري كل أحد أن صدقته بتلك الزيادة لا أجر له فيها ، بل حطت من أجره فهي غير مقبولة ، وما تيقن أنه يحط من الأجر ، أو لا أجر فيه من إعطاء المال فلا يحل إعطاؤه فيه ؛ لأنه إفساد للمال وإضاعة له وسرف حرام ، فكيف ورده عليه السلام الصدقة بذلك بيان كاف ؟ فإن ذكروا قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } . وقوله عليه السلام إذ سئل { أي الصدقة أفضل ؟ فقال : جهد المقل } . وقوله عليه السلام { سبق درهم مائة ألف كان لرجل درهمان تصدق بأجودهما } . وبقوله تعالى { : والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم } . وبحديثي أبي مسعود { كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالصدقة ؛ فينطلق أحدنا فيتحامل فيجيء بالمد ، وصدقة أبي عقيل بصاع تمر } فهذا كله صحيح وحجة لنا لا لهم . وأما قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } فليس فيه أنهم لم يبقوا لأنفسهم معاشا ، إنما فيه أنهم كانوا مقلين ، ويؤثرون من بعض قوتهم . وأما قوله تعالى : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } فمثل هذا أيضا . وأما قولهم " جهد المقل " ففي حديث أبي هريرة هذه اللفظة الموصولة بقوله عليه السلام { : وابدأ بمن تعول } فبين هذا القول أنه جهده بعد كفاف من تعول . وكذلك حديثا أبي مسعود أيضا ، وإنما كان لرجل درهمان فتصدق بأجودهما ، فكذلك أيضا ، وقد يكون له ضيعة أو له غلة تقوم به فتصدق بأحد درهمين كانا له ولم يقل عليه السلام : إنه لم يكن له غيرهما ؟ فإن ذكروا صدقة أبي بكر بما يملكه ؟ قلنا : هذا لا يصح ؛ لأنه من طريق هشام بن سعد ، وهو ضعيف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت { عمر يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال : فجئت بنصف مالي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله } . قال أبو محمد : ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ؛ لأنه بلا شك كانت له دار بالمدينة معروفة ودار بمكة - وأيضا : فإن مثل أبي بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليضيعه فكان في غنى . فصح بما ذكرنا أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله مجملا ، أو منوعا على سبيل القربة إلى الله تعالى ، لم يلزمه أن يتصدق منه إلا بما أبقى لنفسه ، ولأهله غنى ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعب بن مالك وغيره . فإن ذكروا حديث سعد في الوصية ؟ قلنا : هو عليكم ؛ لأن أمر الوصية غير أمر الصدقة المنفذة في الحياة باتفاق منا ومنكم - وأيضا فقد منعه عليه السلام من الصدقة بنصفه ، وأنتم لا تقولون هذا ، وليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ؛ ولو ترك ألف ألف دينار أو أكثر - ويرد ما زاد على ذلك ، وأنتم لا تقولون : برد ما نفذ من الصدقة بأكثر من ثلثه في حياته - وبالله تعالى التوفيق .

وأما من نذر نحر نفسه أو ابنه - : فروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت القاسم بن محمد بن أبي بكر يقول : سئل ابن عباس عمن نذر أن ينحر ابنه ؟ فقال : لا ينحر ابنه ، وليكفر عن يمينه ، فقيل لابن عباس : كيف تكون في طاعة الشيطان كفارة ؟ فقال ابن عباس { الذين يظاهرون } ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت . قال أبو محمد : لا حجة لابن عباس في هذه الآية . أول ذلك - : أنه لم يجعل هو في طاعة الشيطان التي شبهها بطاعته في الظهار ، الكفارة التي في الظهار ويكفي هذا - ثم لو طرد هذا القول لوجبت في كل معصية كفارة يمين - وهذا لا يقوله هو ولا غيره . وقد صح عنه فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام ، أنها لا تحرم بذلك ، ولم يجعل فيه كفارة - وهذا أصح أقواله - : وقد روينا عنه غير هذا من طريق ابن جريج عن عطاء ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال ابن عباس { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } { وفديناه بذبح عظيم } فأمره بكبش ، قال عطاء : يذبح الكبش بمكة ، قال ابن جريج : فقلت لعطاء : نذر لينحرن فرسه أو بغلته ؟ فقال : جزور أو بقرة ؟ فقلت له : أمره ابن عباس بكبش في نفسه ، وتقول في الدابة جزور ؟ فأبى عطاء إلا ذلك . قال أبو محمد : وليس في هذه الآية أيضا حجة لابن عباس ؛ لأن إبراهيم عليه السلام لم ينذر ذبح ولده ، لكن أمره الله تعالى بذبحه فكان فرضا عليه أن يذبحه ، وكان نذر الناذر نحر ولده أو نفسه معصية من كبار المعاصي ، ولا يجوز أن تشبه الكبائر بالطاعات . وأيضا - فإننا لا ندري ما كان ذلك الذبح الذي فدي به إسماعيل عليه السلام ، فبطل هذا التشبيه - وروينا عنه قولا ثالثا أيضا - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه قال في رجل نذر أن ينحر نفسه ، قال : ليهد مائة ناقة . ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت سالم بن أبي الجعد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : إني كنت أسيرا في أرض العدو فنذرت إن نجاني الله أن أفعل كذا ، وأن أنحر نفسي ، وإني قد فعلت ذلك ؟ قال وفي عنقه قد فأقبل ابن عباس على امرأة سألته وغفل عن الرجل ، فانطلق لينحر نفسه ، فسأل ابن عباس عنه ؟ فقيل له : ذهب لينحر نفسه ، فقال علي بالرجل ؟ فجاء ، فقال : لما أعرضت عني انطلقت أنحر نفسي ؟ فقال له ابن عباس : لو فعلت ما زلت في نار جهنم ، انظر ديتك فاجعلها في بدن فأهدها في كل عام شيئا ، ولولا أنك شددت على نفسك لرجوت أن يجزيك كبش - وهذه آثار في غاية الصحة . ومن طريق قتادة عن ابن عباس : أنه أفتى رجلا نذر أن ينحر نفسه ، فقال له : أتجد مائة بدنة ؟ قال : نعم ، قال : فانحرها ، فلما ولى الرجل قال ابن عباس : أما لو أمرته بكبش لأجزأ عنه . ومن طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار : أن عكرمة أخبره أن رجلا أتى إلى ابن عباس فقال له : لقد أذنبت ذنبا لئن أمرتني لأنحرن الساعة نفسي والله لا أخبركه فقال له ابن عباس : بلى ، لعلي أن أخبرك بكفارة ، قال فأبى ، فأمره بمائة ناقة - وهذا أيضا إسناد صحيح . وروينا من طريق ساقطة فيها ابن حبيب الأندلسي : أن عليا ، وابن عباس ، وابن عمر أفتوا فيمن نذر أن يهدي ابنه ؟ أن يهدي مائة من الإبل قال ابن حبيب : وحدثني ابن المغيرة عن الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر أنهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك ؟ فقالوا : ينحر بدنة ، فإن لم يجد فكبشا . قال أبو محمد : فهذه أقوال عن ابن عباس صحاح ليس بعضها أولى من بعض ولا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس وغيره لم يعصم من الخطأ ، ومن قلدهم فقد خالف أمر الله تعالى في أن لا نتبع ما أنزل إلينا ، ولكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم فضائل ومشاهد تعفو عن كل تقصير وليس ذلك لغيرهم . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذرا لا ينبغي له ذكر ؛ لأنه معصية ؟ فأمره أن يوفيه - ثم سأل عكرمة ؟ فنهاه عن الوفاء به ، وأمره بكفارة يمين فرجع إلى سعيد بن المسيب فأخبره ؟ فقال سعيد : لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره ، فرجع إلى عكرمة فأخبره ؟ فقال له عكرمة : إذ بلغتني فبلغه ، أما هو فقد ضربت الأمراء ظهره ، وأوقفوه في تبان شعر ، وسله عن نذرك أطاعة لله هو أم معصية ؟ فإن قال : معصية لله ، فقد أمرك بالمعصية ؟ وإن قال هو طاعة لله ، فقد كذب على الله ، إذ زعم أن معصية الله طاعة له ؟ قال أبو محمد : وروينا من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن رشدين بن كريب مولى ابن عباس { أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني نذرت أن أنحر نفسي ؟ فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهدي مائة ناقة ، وأن يجعلها في ثلاث سنين ، قال : فإنك لا تجد من يأخذه منك بعد أن سأله : ألك مال ؟ فقال : نعم } . وقد خالف الحنفيون ، والمالكيون ما روي عن الصحابة في هذا ، فلا ما يوهمون من اتباع الصحابة التزموا ، ولا النص المفترض عليهم اتبعوا ، ولا بالمرسل أخذوا ، وهم يقولون : إن المرسل والمسند سواء - : وأما أبو حنيفة فقال : من نذر نحر ولده ، أو نحر نفسه ، أو نحر غلامه ، أو نحر والده ، أو نحر أجنبي ، أو إهداءه ، أو إهداء ولده ، أو إهداء والده - فلا شيء عليه في كل ذلك ، إلا في ولده خاصة ، فيلزمه فيه هدي شاة - وهذا من التخليط الذي لا نظير له - ووافقه على كل ذلك محمد بن الحسن ، إلا أنه قال : وعليه في عبده أيضا شاة . واضطرب قول مالك ، فمرة قال : من حلف فقال : أنا أنحر ابني إن فعلت كذا ، فحنث ، فعليه كفارة يمين - : ومرة قال : إن كان نوى بذلك الهدي فعليه هدي ، وإن كان لم ينو هديا فلا شيء عليه ، لا هدي ولا كفارة . ومرة قال : إن نذر ذلك عند مقام إبراهيم ، فعليه هدي ، وإن لم يقل عند مقام إبراهيم ، فكفارة يمين . وقال ابن القاسم صاحبه : إن نذر أن ينحر أباه ، أو أمه ، إن فعلت كذا وكذا ، فالحكم في ذلك كالحكم المذكور في الابن أيضا . وكذلك إن نذر ذلك بمنى ، أو بين الصفا والمروة ، فكما لو نذره عند مقام إبراهيم - وهذه أقوال في غاية الفساد وخلاف للسلف . وقال الليث بن سعد : من قال : أنا أنحر ابني عند البيت ، فعليه أن يحج ، ويحج بابنه ويهدي هديا . وقال الحسن بن حي : من قال : أنا أنحر فلانا عند الكعبة ، فإنه يحجه ، أو يعمره ، ويهدي ، إلا أن ينوي أحد ذلك فيلزمه ما نوى فقط - : وهذه أقوال لا برهان عليها ، فلا وجه للاشتغال بها . وقال أبو يوسف ، والشافعي ، وأبو سليمان : لا شيء عليه في كل ذلك إلا الاستغفار فقط . قال أبو محمد : وهذا هو الحق لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } . وقال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ولم يأمره في ذلك بكفارة ، ولا هدي { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } . { وما كان ربك نسيا } . روينا من طريق ابن جريج قال : سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء أن رجلا أتى إلى ابن عمر فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال له ابن عمر : أوف ما نذرت ، فقال له الرجل : أفأقتل نفسي ؟ قال له إذن تدخل النار ، قال له : ألبست علي قال : أنت ألبست على نفسك ؟ قال أبو محمد : وبهذا كان يفتي ابن عمر ، صح أن آتيا أتاه فقال : نذرت صوم يوم النحر ؟ فقال له ابن عمر : أمر الله تعالى بوفاء النذر ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم النحر . وأن امرأة سألته ؟ فقالت : نذرت أن أمشي حاسرة ؟ فقال : أوفي بنذرك ، واختمري . وقد ذكرنا قبل عن ابن عباس : سقوط نذر المعصية جملة وبهذا نقول .

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب النذور
كتاب النذور (مسألة 1115) | كتاب النذور (تتمة 1 مسألة 1115) | كتاب النذور (تتمة 2 مسألة 1115) | كتاب النذور (مسألة 1116 - 1126)