محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الحادية والأربعون


كتاب الصيام

وأما من نسي أنه صائم في رمضان ، أو في صوم فرض ، أو تطوع : فأكل ، وشرب ، ووطئ ، وعصى ؛ ومن ظن أنه ليل ففعل شيئا من ذلك فإذا به قد أصبح ؛ أو ظن أنه غابت الشمس ففعل شيئا من ذلك فإذا بها لم تغرب - : فإن صوم كل من ذكرنا تام لقول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ولقول رسول الله  : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . حدثنا بذلك أحمد بن عمر بن أنس العذري قال ثنا الحسين بن عبد الله الجرجاني قال ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي أخبرتنا فاطمة بنت الحسن الريان المخزومي وراق أبي بكر بن قتيبة ثنا الربيع بن سليمان المؤذن المرادي ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله  : { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبدان أنا يزيد بن زريع ثنا هشام هو ابن حسان - ثنا ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي قال : { إذا نسي أحدكم فأكل ، أو شرب فليتم صومه ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ثنا أيوب هو السختياني - وحبيب بن الشهيد كلاهما عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال { : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم ؟ فقال : الله أطعمك وسقاك } . ورويناه أيضا عن أبي رافع ، وخلاس عن أبي هريرة عن النبي . قال أبو محمد : فسماه رسول الله صائما ، وأمره بإتمام صومه ذلك فصح أنه صحيح الصوم - وبه يقول جمهور السلف ؟ روينا من طريق وكيع عن شعبة عن عبد الله بن دينار قال : استسقى ابن عمر وهو صائم ، فقلت : ألست صائما ؟ فقال : أراد الله أن يسقيني فمنعتني ؟ . ومن طريق أبي هريرة : من شرب ناسيا أو أكل ناسيا فليس عليه بأس ، إن الله أطعمه وسقاه ؟ وعن علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت مثل هذا . ورويناه أيضا عن عطاء ، وقتادة ، ومجاهد والحسن ، وسويا في ذلك بين المجامع ، والآكل ، وعن الحكم بن عتيبة مثله ، وعن أبي الأحوص ، وعلقمة ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهم ؛ إلا أن بعض من ذكرنا رأى الجماع بخلاف الأكل والشرب ، ورأى فيه القضاء . وهو قول عطاء ، وسفيان : قال أبو محمد : وقال مالك : القضاء واجب على الناسي ؟ قال علي : وما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا أنهم قالوا : الأكل ، والجماع ، والشرب ينافي الصوم ؟ فقيل لهم : وعلى هذا فالأكل والشرب ينافي الصلاة وأنتم تقولون : إن ذلك لا يبطل الصلاة إذا كان بنسيان فظهر تناقضهم فكيف وقولهم هذا خطأ ؟ وإنما الصواب أن تعمد الأكل والشرب والجماع والقيء ينافي الصوم لا الأكل كيف كان ، ولا الشرب كيف كان ، ولا الجماع كيف كان ، ولا القيء كيف كان ، فهذا هو الحق المتفق عليه ، والذي جاءت به النصوص من القرآن والسنن . وأما دعواهم فباطل ، عارية من الدليل جملة ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من رواية فاسدة ، ولا من قياس ، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، بل هذا مما نقضوا فيه وتناقضوا فيه ، لأنهم يعظمون خلاف قول الصاحب إذا وافقهم . وخالفوا هاهنا طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف ، وقالوا : الكلام ، أو الأكل ، أو الشرب في الصلاة بنسيان لا يبطلها ، وأبطلوا الصوم بكل ذلك بالنسيان وهذا تناقض لا خفاء به ؟ وأما أبو حنيفة فتناقض أيضا ، لأنه رأى أن الكلام ، أو الأكل ناسيا ، أو الشرب ناسيا تبطل الصلاة بكل ذلك ويبتدئها ، وخالف السنة الواردة في ذلك ، ورأى الجماع يبطل الحج ناسيا كان أو عامدا ورأى أن كل ذلك لا يبطل الصوم ، واتبع الخبر في ذلك ، ورأى الجماع ناسيا لا يبطل الصوم ، قياسا على الأكل ، ولم يقس الآكل نائما على الآكل ناسيا ؛ بل رأى الأكل نائما يبطل الصوم ، وهو ناس بلا شك ، وهذا تخليط لا نظير له ؟ وادعى مقلدوه الإجماع على أن الجماع والأكل ناسيا سواء ؛ وكذبوا في ذلك ؛ لأننا روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : قلت لعطاء : رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان ؟ فقال عطاء : لا ينسى هذا كله عليه القضاء ؛ لم يجعل الله له عذرا ، وإن طعم ناسيا فليتم صومه ولا يقضيه ، الله أطعمه وسقاه وبه يقول سفيان الثوري . ورأى ابن الماجشون على من أكل ناسيا أو شرب ناسيا القضاء وعلى من جامع ناسيا القضاء والكفارة وهذه أقوال فاسدة وتفاريق لا تصح - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ومن أكل وهو يظن أنه ليل أو جامع كذلك أو شرب كذلك فإذا به نهار إما بطلوع الفجر وإما بأن الشمس لم تغرب - : كلاهما لم يتعمد إبطال صومه ، وكلاهما ظن أنه في غير صيام ، والناسي ظن أنه في غير صيام ولا فرق ، فهما والناسي سواء ولا فرق . وليس هذا قياسا - ومعاذ الله من ذلك - وإنما يكون قياسا لو جعلنا الناسي أصلا ثم شبهنا به من أكل وشرب وجامع وهو يظن أنه في ليل فإذا به في نهار ، ولم نفعل هذا بل كلهم سواء في قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وفي قول رسول الله  : { إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وهذا قول جمهور السلف - : روينا من طريق عبد الرزاق : ثنا معمر عن الأعمش عن زيد بن وهب قال : أفطر الناس في زمن عمر بن الخطاب فرأيت عساسا أخرجت من بيت حفصة فشربوا ، ثم طلعت الشمس من سحاب ، فكأن ذلك شق على الناس ، فقالوا : نقضي هذا اليوم فقال عمر : لم ؟ والله ما تجانفنا لإثم وروينا أيضا من طريق الأعمش عن المسيب عن زيد بن وهب . ومن طريق ابن أسلم عن أخيه عن أبيه ولم يذكر قضاء ؟ وقد روي عن عمر أيضا القضاء ، وهذا تخالف من قوله ، فوجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه عند التنازع ، من القرآن والسنة ، فوجدنا ما ذكرنا قبل ، مع أن هذه الرواية عن عمر أولى لأن زيد بن وهب له صحبة ، وإنما روي عنه القضاء من طريق علي بن حنظلة عن أبيه . وروينا من طريق شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة عمن تسحر نهارا وهو يرى أن عليه ليلا ؟ فقال : يتم صومه . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أنه لم يطلع فليس عليه القضاء ؛ لأن الله تعالى يقول : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن البصري فيمن تسحر وهو يرى أنه ليل ، قال : يتم صومه . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو داود - هو الطيالسي - عن حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد فيمن أكل يرى أنه ليل فإذا به نهار ، قال : يتم صومه . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، ومعمر ، قال ابن جريج : عن عطاء ، وقال معمر : عن هشام بن عروة عن أبيه ، ثم اتفق عروة وعطاء فيمن أكل في الصبح وهو يرى أنه ليل : لم يقضه ؛ فهؤلاء : عمر بن الخطاب ، والحكم بن عتيبة ، ومجاهد ؛ والحسن ، وجابر بن زيد أبو الشعثاء ، وعطاء بن أبي رباح ، وعروة بن الزبير - وهو قول أبي سليمان . وروينا عن معاوية ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وهشام بن عروة ، وعطاء ، وزياد بن النضر ، وإنما قال هؤلاء : بالقضاء في الذي يفطر وهو يرى أنه ليل ثم تطلع الشمس وأما في الفجر فلا ، مثل قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وما نعلم لهم حجة أصلا . فإن ذكروا ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : { أفطر الناس على عهد رسول الله ثم طلعت الشمس } . قال أبو أسامة : قلت لهشام : فأمروا بالقضاء ؟ فقال : ومن ذلك بد ؟ فإن هذا ليس إلا من كلام هشام ، وليس من الحديث ، فلا حجة فيه . وقد قال معمر : سمعت هشام بن عروة في هذا الخبر نفسه يقول : لا أدري أقضوا أم لا ؟ فصح ما قلنا . وأما من أكره على الفطر ، أو وطئت امرأة نائمة ، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها ، أو صب في حلقه ماء وهو نائم - : فصوم النائم ، والنائمة ، والمكره ، والمكرهة : تام صحيح لا داخلة فيه ، ولا شيء عليهم ، ولا شيء على المجنونة . والمغمى عليها ، ولا على المجنون والمغمى عليه ؛ لما ذكرنا من قول رسول الله  : { إن الله تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . والنائم والنائمة مكرهان بلا شك غير مختارين لما فعل بهما ؟ وقال زفر : لا شيء على النائم ، والنائمة ولا قضاء كما قلنا ، سواء سواء ، وصومهما تام - وهو قول الحسن بن زياد . وقد روي أيضا عن أبي حنيفة في النائم مثل قول زفر . وقال سفيان الثوري : إذا جومعت المرأة مكرهة في نهار رمضان فصومها تام ولا قضاء عليها وهو قول عبيد الله بن الحسن . وبه يقول أبو سليمان ، وجميع أصحابنا . والمجنون ، والمغمى عليه غير مخاطبين ، قال رسول الله  : { رفع القلم عن المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يحتلم } . والمشهور عن أبي حنيفة أن القضاء على النائم والنائمة ، والمكره والمكرهة ، والمجنون والمجنونة ، والمغمى عليهما وهو قول مالك . قال أبو محمد : وهو قول ظاهر الفساد ، وما نعلم لهم حجة من قرآن ، ولا سنة صحيحة ولا رواية فاسدة ولا قول صاحب ، ولا قياس ، إلا أن بعضهم قاس ذلك على المكره على الحدث أنه تنتقض طهارته . قال علي : وهذا قياس في غاية الفساد - لو كان القياس حقا - فكيف والقياس كله باطل ؟ لأن الطهارة تنتقض من الأحداث بقسمين : أحدهما بنقضها كيف ما كان ، بنسيان أو عمد أو إكراه : والآخر لا ينقضها إلا بالعمد على حسب النصوص الواردة في ذلك ، وهم متفقون على أن - الريح ، والبول ، والغائط ينقض الطهارة - : أن يقيسوا الناسي في الصوم على الناسي في الطهارة ، والمغلوب بالقيء على المغلوب بالحدث ، وكلهم لا يقولون بهذا أصلا ، فبطل قياسهم الفاسد وكان أدخل في القياس لو قاسوا المكره ، والمغلوب في الصوم على المكره ، والمغلوب في الصلاة على ترك القيام ، أو ترك السجود ، أو الركوع ، فهؤلاء صلاتهم تامة بإجماع منهم ؛ فكذلك يجب أن يكون صوم المكره والمغلوب ولا فرق ؛ ولكنهم لا يحسنون القياس ولا يتبعون النصوص ولا يطردون أصولهم ، وبالله تعالى التوفيق

وأما دخول الحمام ، والتغطيس في الماء ، ودهن الشارب ، فقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يدخل الصائم الحمام . وعن إبراهيم النخعي الإفطار بدهن الشارب ، وعن بعض السلف مثل ذلك في التغطيس في الماء ، ولا حجة إلا فيما صح عن رسول الله ولم يأت عنه نهي للصائم عن شيء من ذلك ؛ فكل ذلك مباح لا يكدح في الصوم - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/كتاب الصيام

كتاب الصيام (مسألة 726 - 729) | كتاب الصيام (مسألة 730 - 734) | كتاب الصيام (مسألة 735 - 738) | كتاب الصيام (مسألة 739 - 752) | كتاب الصيام (مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 1 مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 2 مسألة 753) | كتاب الصيام ( مسألة 754 - 757) | كتاب الصيام (مسألة 758 - 761) | كتاب الصيام (مسألة 762) | كتاب الصيام (تتمة مسألة 762) | كتاب الصيام (مسألة 763 - 770) | كتاب الصيام (مسألة 771 - 774) | كتاب الصيام (مسألة 775 - 787) | كتاب الصيام (مسألة 788 - 796) | كتاب الصيام (مسألة 797 - 808) | كتاب الصيام (مسألة 809 - 810)