محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة الثالثة والثلاثون


بقية كتاب النكاح

اللعان

1947 - مسألة: صفة اللعان: هو أن من قذف امرأته بالزنا هكذا مطلقا، أو بإنسان سماه سواء كان قد دخل أو لم يدخل بها كانا مملوكين أو أحدهما مملوكا والآخر حرا أو مسلمين، أو هو مسلم وهي كتابية، أو كانا كتابيين، أو كان محدودا في قذف، أو في زنى، أو هي كذلك أو كلاهما، أو أحدهما أعمى أو كلاهما، أو فاسقين، أو أحدهما ادعى رؤية أو لم يدع: فواجب على الحاكم أن يجمعهما في مجلسه طلبت هي ذلك أو لم تطلبه، طلب هو ذلك أولم يطلبه، لا رأي لهما في ذلك. ثم يسأله البينة على ما رماها به فإن أتى ببينة عدول بذلك على ما ذكرنا في الشهادة بالزنا أقيم عليها الحد. فإن لم يأت بالبينة قيل له: التعن فيقول: بالله إني لمن الصادقين، بالله إني لمن الصادقين، بالله إني لمن الصادقين، بالله إني لمن الصادقين هكذا يكرر. " بالله إني لمن الصادقين " أربع مرات. ثم يأمر الحاكم من يضع يده على فيه، ويقول له: إنها موجبة فإن أبى، فإنه يقول: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فإذا أتم هذا الكلام سقط عنه الحد لها، والذي رماها به. فإن لم يلتعن حد حد القذف، فإذا التعن كما ذكرنا، قيل لها: إن التعنت وإلا حدت حد الزنا، فتقول: بالله إنه لمن الكاذبين، بالله إنه لمن الكاذبين، بالله إنه لمن الكاذبين، بالله إنه لمن الكاذبين تكرر " بالله إنه لمن الكاذبين " أربع مرات. ثم تقول: وعلي غضب الله إن كان لمن الصادقين، ويأمر الحاكم من يوقفها عند الخامسة، ويخبرها بأنها موجبة لغضب الله تعالى عليها، فإذا قالت ذلك برئت من الحد، وانفسخ نكاحها منه، وحرمت عليه أبد الآبد لا تحل له أصلا لا بعد زوج، ولا قبله، ولا وإن أكذب نفسه، لكن إن أكذب نفسه حد فقط.

وأما ما لم يتم هو اللعان أو تتمه هي، فهما على نكاحهما. فلو مات أحدهما قبل تمام اللعان لتوارثا، ولا معنى لتفريق الحاكم بينهما، أو لتركه، لكن بتمام اللعان تقع الفرقة. فإن كانت هي صغيرة أو مجنونة حد هو حد القذف، ولا بد، ولا لعان في ذلك فإن كان هو مجنونا حين قذفها فلا حد، ولا لعان. ويتلاعن الأخرسان كما يقدران بالإشارة. فإن كانت المرأة الملاعنة حاملا فبتمام الألتعان منهما جميعا ينتفي عنه الحمل ذكره أو لم يذكره إلا أن يقر به فيلحقه، ولا حد عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن. فلو صدقته هي فيما قذفها به، وفي أن الحمل ليس منه حدث، ولا ينتفي عنه ما ولدت، بل هو لاحق به فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نفسه.

وأما ما ولدت فلا ينتفي عنه بعد أصلا. فلو طلقها وقذفها في عدتها منه لاعنها. فلو قذفها وهي أجنبية حد، ولا تلاعن، ولا يضره إمساكها ووطؤها بعد أن قذفها، بل يلاعنها متى شاء وبالله تعالى التوفيق.

1948 - مسألة: وأما قولنا: إن كل زوج قذف امرأته فإنه يلاعنها إذ ذكرنا صفة اللعان، فلقول الله عز وجل: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فلم يخص عز وجل حرا من عبد، ولا أعمى من بصير، ولا صالحا من فاسق، ولا امرأة كافرة من مؤمنة، ولا حرة من أمة، ولا فاسقة من صالحة، ولا محدودا من غير محدود، ولا محدودة من غير محدودة، وما كان ربك نسيا.

وقال أبو حنيفة: إن كان أحدهما مملوكا أو كافرا فلا لعان وهذا تحكم بالباطل، وتخصيص للقرآن برأيه الفاسد.

فإن قالوا: قال الله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} والعبد لا شهادة له

قلنا: باطل ما قلتم، بل شهادته كشهادة الحر، وأنتم لا تجيزون شهادة الأعمى، ولا شهادة الفاسق، وتوجبون اللعان لهما.

وروينا عن الشعبي: لا يلاعن من لا شهادة له.

قال أبو محمد: وهذه قضية فاسدة، لا يصححها قرآن، ولا سنة، والله تعالى وإن كان سماها شهادة، فليست من سائر الشهادات التي يراعى فيه العدل من الفاسق، لأن تلك الشهادات لا يحلف فيها الشاهد بها، وشهادات اللعان أيمان، وسائر الشهادات لا يقبل في أكثرها إلا اثنان، وشهادة اللعان إنما هي من واحد، وسائر الشهادات لا يقبل فيها المرء لنفسه، وشهادة اللعان إنما هي لنفسه ليدرأ عنها الحد، وليوجبه على المرأة فبطل أن يكون اللعان حكم سائر الشهادات.

وأما قولنا: إن التعن سقط عنه الحد وإلا حدت هي: فلقول رسول الله في حديث اللعان البينة وإلا حد في ظهرك. وقوله: إنه رماها بإنسان بعينه فحد واحد يسقط التلاعن فلما رويناه من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا عمران بن يزيد الدمشقي، حدثنا مخلد بن الحسين الأزدي، حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: أول لعان كان في الإسلام: أن هلال بن أمية قذف شريك ابن السحماء بامرأته فأتى النبي فأخبره بذلك فقال له النبي أربعة شهداء، وإلا فحد في ظهرك يكرر ذلك مرارا، فقال له هلال: والله يا رسول الله إن الله ليعلم إني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد فبينما هم كذلك إذ نزلت آية اللعان، فدعا هلالا فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم دعيت المرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كان في الرابعة أو الخامسة قال رسول الله وقفوها فإنها موجبة، فتلكأت حتى ما شككنا أنها ستعترف ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على اليمين، فقال رسول الله انظروها، فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به آدم جعدا ربعا حمش الساقين فهو لشريك ابن السحماء فجاءت به آدم جعدا ربعا حمش الساقين فقال رسول الله : لولا ما سبق من كتاب الله لكان لي ولها شأن. وليس في الآية ما يزيده مالك وغيره في اليمين من قول: الذي لا إله إلا هو، ولا غير ذلك، ولا فرق بين هذه الزيادة وبين أن يزيد خالق السماوات والأرض الذي رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها وما أشبه ذلك من الثناء على الله عز وجل، الذي من قاله أجر، ومن تركه في يمينه لم يحرج، وإنما يقضى على الناس بما أمر به الله، لا بما لا يلزم في ذلك الوقت، وإن كان أجرا. وقوله عز وجل: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} فإن فيه إشارة إلى عذاب معلوم، لأنه بألف التعريف ولامه، ولا نعلم عذابا في الزنا إلا الحد.

وأما السجن كما قال أبو حنيفة وأصحابه: فلا.

ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا علي بن ميمون الرقي عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي حين أمر المتلاعنين باللعان أمر رجلا أن يضع يده على فيه عند الخامسة وقال: إنها موجبة. ولا معنى لزيادة من زاد في يمين المتلاعنين أن يقول هو: إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وأن تقول هي: إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا؛ لأن الله تعالى كفانا بما أمرنا به في القرآن عن تكلف هذه الزيادة: وما كان ربك نسيا. وكل رأي زادنا شيئا في الدين لم يأت به أمر الله تعالى فنحن نرغب عن ذلك الرأي ونقذفه في الحش؛ لأنه شرع في الدين لم يأذن به الله عز وجل.

فإن قالوا: ربما نوى: أنه لمن الصادقين في شهادته بالتوحيد، ونوت هي: أنه لمن الكاذبين في قصة أخرى.

قلنا: هبك أنهما نويا ذلك، فوالله ما ينتفعان بذلك، وأن يمينهما بما أمر الله تعالى في مجاهرة أحدهما فيه بالباطل موجب عليه اللعنة، وعليها الغضب، نويا ما قلتم أو لم ينويا، ولا يموه على علام الغيوب بمثل هذا.

ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا أيوب السختياني أن سعيد بن جبير حدثه، عن ابن عمر قال: إن رسول الله فرق بين أخوي بني العجلان.

ومن طريق أبي داود، والبخاري قال أبو داود :، حدثنا أحمد بن حنبل، وقال البخاري :، حدثنا علي بن عبد الله، قالا جميعا :، حدثنا سفيان، هو ابن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها.

قال أبو محمد: قد رويته عن سفيان، قال سفيان حفظته من عمرو بن دينار: فتفريق رسول الله يغني عن تفريق كل حاكم بعده. وقوله عليه الصلاة والسلام: لا سبيل لك عليها منع من أن يجتمعا أبدا بكل وجه، ولم يقل عليه الصلاة والسلام ذلك بنص الخبر إلا بعد تمام التعانهما جميعا، فلا يقع التفريق إلا حينئذ.

وقد روينا أن مصعب بن الزبير لم يوجب التفريق بين المتلاعنين

وهو قول عثمان البتي.

وقال أبو حنيفة: لا يقع التفريق بتمام اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وإذا فرق الحاكم بينهما فهي طلقة بائنة فكان هذا عجبا ونقول لهم: فإن أبى الحاكم من التفريق أيبقيان على زوجيتهما هيهات حاكم الحكماء قد فرق، فتفريق من بعده أو تركه التفريق نبيب تيس من الحزن سواء.

وقال الشافعي بتمام التعان الرجل يقع التفريق وينتفي الولد وهذه أيضا دعوى بلا برهان.

وقال مالك كما قلنا وهو قول الأوزاعي، والليث.

وأما قولنا: إن كانت صغيرة أو مجنونة حد للقذف، ولا لعان في ذلك؛ لأن الصغيرة والمجنونة لا يكون منهما زنى أصلا، لأن الزنا معصية لله عز وجل، وهاتان لا تقع منهما معصية، لقول رسول الله : رفع القلم عن ثلاث فذكر الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق. وإذا وجب الحد حيث لا يوقن بكذبه فإسقاطه عن القاذف حين يوقن بكذبه خطأ، والحد بنص القرآن واجب على كل من رمى منا بالزنا.

وأما الأخرس فإن الله عز وجل يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وليس في وسعه الكلام، فلا يجوز أن يكلف إياه.

وقال رسول الله : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. فصح أنه يلزم كل أحد مما أمر الله تعالى به ما استطاع، والأخرس يستطيع الإفهام بالإشارة، فعليه أن يأتي بها.

وكذلك من لا يحسن العربية يلتعن بلغته بألفاظ يعبر بها عما نص الله تعالى عليه. والعجب من زيادات أبي حنيفة برأيه، زيادات في غاية السخف على ما في آية اللعان، وهو يرد أوامر رسول الله وأعماله كالمسح على العمامة واليمين مع الشاهد وغير ذلك بأنها زيادة على ما في القرآن، فأي ضلال يفوق هذا.

وأما قولنا: إنه بتمام التعانه والتعانها ينتفي عنه لحاق حملها، إلا أن يقربه وسواء ذكره أو لم يذكره إذا انتفى عنه قبل ذلك:

فلما رويناه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: " إن النبي لاعن بين رجل وامرأته فانتفى عن ولده ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة ".

ومن طريق مسلم حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب أخبرني سهل بن سعد قال: إن عويمرا العجلاني فذكر حديث اللعان وفيه فكانت حاملا فكان الولد إلى أمه.

وأما قولنا: إنه لم يلاعنها حتى ولدت، لاعن لأسقاط الحد فقط، ولا ينتفي ولدها منه، فلأن رسول الله قال: الولد لصاحب الفراش.

فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس هو ولده، ولم ينفه عليه الصلاة والسلام إلا وهي حامل باللعان فقط، فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، ولذلك قلنا: إن صدقته في أن الحمل ليس منه فإن تصديقها له لا يلتفت إليه، لأن الله تعالى يقول: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} فوجب أن إقرار الأبوين لا يصدق على نفي الولد، فيكون كسبا على غيرهما، وإنما نفى الله عز وجل الولد إن كذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط، فلا ينتفي في غير هذا الموضع، والعجب كله أن المخالفين لنا هاهنا يقولون: إن اتفقا جميعا على أن الحمل من غيره، أو على أن الولد من غيره: لم يصدقا، ولم ينفه إلا بلعان فليت شعري من أين وقع لهم هذا إذا ألغوا تصديقهما فلم ينفوا نسبه إلا بلعان، فإذ لا معنى لتصديقهما له فلا يجوز اللعان إلا حيث حكم به رسول الله وحيث أمر الله تعالى به في القرآن، وهو إذا رماها بالزنا فقط وبالله تعالى التوفيق.

وأما إذا قذفها وهي في عدتها من طلاق رجعي منه أنه يلاعنها متى رفع الأمر للإمام ولو أنها عند زوج آخر فلأنه قذفها وهي زوجة له، والله تعالى يقول: {والذين يرمون أزواجهم} فإنما يراعى الرمي بنص القرآن، فإن كان لزوجة لاعن أبدا، إذ لم يحد الله تعالى للعان وقتا لا يتعداه، وإن كان الرمي في عدة من طلاق ثلاث أو وهي غير زوجة له، ثم تزوجها، فالحد، ولا بد، ولا لعان في ذلك، لأنه لم يرم زوجة له، إنما رمى زوجة أجنبية، فالحد بنص القرآن فقط.

وأما قولنا: ولا يضره إمساكه إياها بعد رميه لها، أو بعد إقراره بأنها زنت يقينا وعلم بذلك، ولا يضره وطؤه لها، فلأن الله عز وجل لم يذكر ذلك، ولا رسوله فهو شرط فاسد، وشرع لم يأذن الله تعالى به.

1949 - مسألة: فإن تزوج رجلان بجهالة امرأة في طهر واحد، أو ابتاع أحدهما أمة من الآخر فوطئها وكان الأول قد وطئها أيضا ولم يعرف أيهما الأول، ولا تاريخ النكاحين أو الملكين: فظهر بها حمل، فأتت بولد، فإنه إن تداعياه جميعا: فإنه يقرع بينهما فيه فأيهما خرجت قرعته ألحق به الولد، وقضي عليه لخصمه بحصته من الدية. إن كان واحدا فنصف الدية، وإن كانوا ثلاثة فلهما ثلثا الدية، وإن كانوا أربعة فثلاثة أرباع الدية، وهكذا الحكم فيما زاد، سواء كان المتداعيان أجنبيين، أو قريبين أو أبا وابنا، أو حرا وعبدا. فإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا ألحق بالمسلم، ولا بد بلا قرعة. فإن تدافعاه جميعا، أو لم ينكراه، ولا تداعياه، فإنه يدعى له بالقافة فإن شهد منهم واحد عالم عدل فأكثر من واحد بأنه ولد هذا ألحق به نسبه، فإن ألحقه واحد أو أكثر باثنين فصاعدا طرح كلامهم وطلب غيرهم. ولا يجوز أن يكون ولد واحد ابن رجلين، ولا ابن امرأتين.

وكذلك إن تداعت امرأتان فأكثر ولدا، فإن كان في يد إحداهما فهو لها وإن كان في أيديهن كلهن، أو لم يتداعياه، ولا أنكرتاه، أو تدافعتاه دعي له القافة كما قلنا.

برهان ذلك: ما رويناه من طريق الليث بن سعد، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت إن رسول الله دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض.

ومن طريق أحمد بن شعيب أرنا إسحاق بن إبراهيم، و، هو ابن راهويه، حدثنا سفيان، هو ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت دخل علي رسول الله مسرورا فقال: يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي وعندي أسامة بن زيد فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة وقد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال: هذه أقدام بعضها من بعض.

ومن طريق مسلم، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت دخل قائف ورسول الله شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي بذلك وأعجبه.

ومن طريق أبي داود، حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، حدثنا الوليد، هو ابن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس بن مالك فذكر حديث العرنيين وقتلهم الرعاء وأخذهم إبل النبي قال أنس فبعث رسول الله قافة في طلبهم فأتى بهم وذكر الحديث.

فصح أن " القيافة " علم صحيح يجب القضاء به في الأنساب والآثار.

روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل وقع على امرأة لعبده وهي أمته قال: فدعا لهما القافة، فإن عروة بن الزبير أخبرني: أن عمر بن الخطاب دعا القافة في رجلين اشتركا في الوقوع على امرأة في طهر واحد، وادعيا ولدها فألحقه بأحدهما. قال الزهري: أخذ عمر بن الخطاب ومن بعده بنظر القافة في مثل هذا.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: اختصم إلى أبي موسى الأشعري في ولد ادعاه دهقان، ورجل من العرب، فدعا القافة فنظروا إليه فقالوا للعربي: أنت أحب إلينا من هذا العلج، ولكن ليس بابنك فخل عنه فإنه ابنه. ثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عبد البصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي زياد قال: انتفى ابن عباس من ولد له فدعا له ابن كلدة القائف، فقال له: أما إنه ولده، فادعاه ابن عباس.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، حدثنا يحيى بن سعيد القطان وأبو الزناد، كلاهما عن سعيد بن المسيب قال: إن كان له ولد فليدع له بالقافة.

وبه يقول قتادة، وغيره، ومالك، والشافعي، وجمهور أصحابنا: إلا أن مالكا قال: لا يحكم بقول القافة إلا في ولد أمة لا في ولد حرة وهذا خطأ، لأن الأثر الذي أوردنا آنفا من قول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي هو عمدة مالك وعمدتنا في الحكم بالقافة إنما جاء في ابن حرة لا في ابن أمة. ولم ير أبو حنيفة، ولا أصحابه الحكم بالقافة واحتجوا في ذلك بأنه حكم بالظن وهم يشرعون الشرائع، ويبطلون أحكام الله تعالى وأحكام رسوله بالقياس الذي يقرون بأنه ظن وقد كذبوا: ما حكم القافة بظن، بل بعلم صحيح يتعلمه من طلبه وعني به، وما كان رسول الله ليحكم بالظن. ثم مع هذا كله يحكمون بجهل أبي حنيفة، إذ يلحق الولد بامرأتين يجعل كل واحدة منهما أمه التي ولدته، ويورثه منهما ميراث الأبن من الأم، ويورثهما منه ميراث الأم من الولد، ويحرم عليه أخواتهما جميعا فهذا هو الرعونة حقا، والجهل الأعمى، لا ما سر به رسول الله وحكم به الصحابة، رضي الله عنهم، ولا يخرج عن حكم القافة شيء إلا موضع واحد: وهو الرجلان فصاعدا يتداعيان الولد فإن هاهنا إن لم تكن بينة، ولا عرف لأيهما كان الفراش، وإلا أقرع بينهما كما ذكرنا.

لما روينا من طريق عبد الله أو عن سفيان الثوري، عن صالح بن حي عن عبد خير الحضرمي عن زيد بن أرقم قال: كان علي باليمن فأتى بامرأة وطئها ثلاثة في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد فلم يقرا، ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد فلم يقرا، ثم سأل اثنين، حتى فرغ، فأقرع بينهم، فألزم الولد للذي خرجت له القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية فرفع ذلك إلى رسول الله فضحك حتى بدت نواجذه.

قال أبو محمد: لا يضحك رسول الله دون أن ينكر ما يرى أو يسمع ما لا يجوز ألبتة إلا أن يكون سرورا به وهو عليه الصلاة والسلام لا يسر إلا بالحق، ولا يجوز أن يسمع باطلا فيقره. وهذا خبر مستقيم السند، نقلته كلهم ثقات، والحجة به قائمة، ولا يصح خلافه ألبتة.

فإن قيل: إنه خبر اضطرب في إسناده، فأرسله شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن مجهول. ورواه أبو إسحاق عن رجل من حضرموت عن زيد بن أرقم

قلنا: هذا العجب، فكان ماذا قد وصله سفيان وليس هو دون شعبة عن صالح بن حي وهو ثقة عن عبد خير وهو ثقة عن زيد بن أرقم وإن من يتعلل بهذا ثم يرد السنة برواية شيخ من بني كنانة إن هذا لعظيم المجاهرة، وقد كان ينبغي أن يردعه الحياء عن الرضا به لا سيما أبا حنيفة، وأصحابه القائلين: إن ادعى الولد اثنان وهو في أيديهما ف، هو ابنهما يرثانه ويرثهما، ثم اختلفوا فافتضحوا في اختلافهم كما افتضحوا في اتفاقهم في ولد ادعاه ثلاثة نفر فصاعدا فقال أبو حنيفة :، هو ابنهم كلهم ولو كانوا ألفا. وقال محمد بن الحسن: يكون ابن ثلاثة، ولا يكون ابن أكثر. وقال أبو يوسف: لا يكون إلا ابن اثنين فقط لا ابن أكثر فهو هو الفحش والسخام والضلال لا اتباع ما صح عن رسول الله . وموهوا في إلحاقهم الولد باثنين برواية ساقطة عن عمر، لأنها مرسلة من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، ولم يحفظ سعيد عن عمر شيئا إلا نعي النعمان بن مقرن على المنبر، مع أن فيها: أنه حكم مع القافة بذلك.

ومن طريق إبراهيم النخعي عن عمر، ولم يدركه أصلا.

ومن طريق ابن سيرين عن عمر أنه توقف فيه. ورواية عن علي فيها قالوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف، وفيها: أنه للثاني منكما. والثابت عن عمر في ذلك: ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: إن رجلين ادعيا ولدا فدعا عمر القافة، واقتدى في ذلك ببصر القافة، وألحقه بأحد الرجلين وعروة قد اعتمر مع عمر. ورواية أخرى من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال هشام: وسمعته يحدث أبي قال: إن رجلين وقعا بامرأة في الجاهلية، فولدت غلاما، فلما كان عمر ادعياه جميعا فدعا عمر رجلا من بني كعب فقال: انظر فاستبطن واستظهر فقال: والذي أكرمك بالخلافة لقد اشترك فيه جميعا، فضربه عمر بالدرة حتى اضطجع، وقال له عمر: لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب ثم دعا عمر بالمرأة فسألها، فقالت: هذا كان يطؤني، فإذا كان يطؤني حماني من الناس حتى إذا استمر بي الحمل خلا بي فأهرقت دما كثيرا فجاءني هذا فوطئني، فلا أدري من أيهما هو فقال الكعبي: الله أكبر، شركاء فيه ورب الكعبة، فقال عمر: أما أنا فقد رأيت ما رأيت، ثم قال للغلام: اختر أيهما شئت قال يحيى بن عبد الرحمن: فلقد رأيت حين سفع أحدهما بيد الغلام ثم ذهب به. ورواية من طريق شعبة عن توبة العنبري عن الشعبي، عن ابن عمر قال: اشترك رجلان في طهر امرأة فولدت غلاما فدعا عمر بالقافة فقالوا: قد أخذ الشبه منهما جميعا، فجعله عمر بينهما.

قال أبو محمد: توبة العنبري ضعيف، متفق على ضعفه. ثم هذا كله بخلاف قولهم، لأنه حكم بالقافة، وقول ابن عمر: جعله بينهما، ليس فيه: أنه ألحقه بنسبهما، لكن الظاهر من قوله " جعله بينهما " أي وقفه بينهما حتى يلوح له فيه وجه الحكم، لا يجوز أن يظن بعمر غير هذا وما نعرف إلحاق الولد باثنين عن أحد من المتقدمين إلا عن إبراهيم النخعي، ولا حجة في أحد دون رسول الله والثابت عنه عليه الصلاة والسلام يكذب جواز كون ولد من مني أبوين. وهو الذي رويناه من طريق مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير كل واحد منهما يقول: نا أبو معاوية هو الضرير، ووكيع، قالا جميعا :، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنا رسول الله : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وذكر الحديث. فصح يقينا أن ابتداء العدد من حين وقوع النطفة، وبلا شك أن الدقيقة التي تقع فيها النطفة في الرحم هي غير الدقيقة التي يقع فيها مني الواطئ الثاني، فلو جاز أن يجمع الماءان فيصير منهما ولد واحد، لكان العدد مكذوبا فيه، لأنه إن عد من حين وقوع النطفة الأولى، فهو للأول وحده فلو استضاف إليه الثاني لابتدأ العدد من حين حلول المني الثاني، فكان يكون في بعض الأربعين يوما نقص وزيادة بلا شك، وهم أولى بالكذب وأهله من رسول الله الصادق. والعجب أنهم قالوا: لم يحكم أبو حنيفة بأن الولد يكون ابن امرأتين محققا: أن كل واحدة منهما ولدته، لكن أوجب لكل واحدة منهما حق الأمومة.

فقلنا: وهذا جور وظلم وباطل بلا شك أن يوجب لغير أم حكم أم بلا نص قرآن، ولا سنة، ولا قول أحد من خلق الله تعالى قبله إلا الرأي الفاسد ونسأل الله العافية.

وأما قولنا: إن تداعى في الولد مسلم وكافر: ألحق بالمسلم، فلقول الله عز وجل: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. والثابت من قول رسول الله : كل مولود يولد على الفطرة. ورويناه أيضا على الملة: حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه، فلا يجوز أن ينقل عما ولد عليه من الفطرة التي ولد عليها إلا بيقين كون الفراش لكافر بلا إشكال وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الخامس/بقية كتاب النكاح
بقية كتاب النكاح (مسألة 1875 - 1880) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1881 - 1887) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1888 - 1889) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1890 - 1892) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1893 - 1897) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1898 - 1902) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1903) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1904 - 1907) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1908 - 1910) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1911 - 1918) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1919 - 1922) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1923 - 1925) | | بقية كتاب النكاح (مسألة 1926 - 1936) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1937) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1938 - 1939) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1940 - 1941) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1942 - 1944) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1945 - 1946) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1947 - 1949) | بقية كتاب النكاح (مسألة 1950 - 1952)