البداية والنهاية/الجزء الأول/أصحاب الرس

ملاحظات: أصحاب الرس


قال الله تعالى في سورة الفرقان: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } [الفرقان: 38-39] .

وقال تعالى في سورة ق: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ق: 12-14] .

وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا وهو الهلاك. وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج، لأن أولئك عند ابن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام، وفيه نظر أيضًا.

وروى ابن جرير قال: قال ابن عباس: أصحاب الرس؛ أهل قرية من قرى ثمود. وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق، عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره:

أن أصحاب الرس كانوا بحضور، فبعث الله إليهم نبيًا يقال له: حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح بولده من الرس فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحاب الرس، وانتشروا في اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح دمشق وبني مدينتها، وسماها جيرون، وهي إرم ذات العماد.

وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد بالأحقاف، فكذبوه وأهلكهم الله عز وجل، فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة. فالله أعلم.

وروى ابن أبي حاتم، عن أبي بكر بن أبي عاصم، عن أبيه، عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الرس: بئر بآذربيجان.

وقال الثوري، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: الرس: بئر رسوا فيها نبيهم، أي دفنوه فيها.

وقال ابن جريج: قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج، وهم أصحاب ياسين.

وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة، قلت: فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة، فقد أهلكوا بعامة، قال الله تعالى في قصتهم: { إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [يس: 29] وستأتي قصتهم بعد هؤلاء، وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضًا وتبروا. وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير.

وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش: أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم، وتكفي أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجدًا عظيمًا، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته، وقال:

إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبدًا، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه، فبعث الله فيهم نبيًا، وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

قال السهيلي: وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر، فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة، وبعد الاجتماع بالفرقة، وهلكوا عن آخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن، وزئير الأسد، وصوت الضباع.

فأما ما رواه - أعني - ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله :

« إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود ».

وذلك أن الله تعالى بعث نبيًا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الأسود.

ثم إن أهل القرية عدوا على النبي، فحفروا له بئرًا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعامًا وشرابًا، ثم يأتي به إلى ذلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها، ويدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يردها كما كانت.

قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يومًا يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع ينام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائمًا، ثم إنه هب فتمطى وتحول لشقه الآخر، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى.

ثم إنه هب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعامًا وشرابًا كما كان يصنع. ثم إنه ذهب إلى الحفرة إلى موضوعها الذي كانت فيه، فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.

قال: فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل فيقولون له: ما ندري حتى قبض الله النبي عليه السلام، وأهب الأسود من نومه بعد ذلك، فقال رسول الله :

« إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة ».

فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر. ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي، والله أعلم.

ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم، اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم. ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود وهو ضعيف لما تقدم، ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس والله أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الأول
مقدمة | فصل:ما سوى الله مخلوق | فصل: فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي | الكرسي | اللوح المحفوظ | ما ورد في خلق السموات والأرض وما بينهما | ما جاء في سبع أرضين | فصل في البحار والأنهار | فصل:ذكر ما خلق في الأرض من الجبال،والأشجار والثمار والسهول | ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات | المجرة وقوس قزح | باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم | فصل: الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام | فصل:اختلاف الناس في تفضيل الملائكة على البشر | باب خلق الجان وقصة الشيطان | باب خلق آدم عليه السلام | احتجاج آدم وموسى عليهما السلام | الأحاديث الواردة في خلق آدم | قصة قابيل وهابيل | وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث | إدريس عليه السلام | قصة نوح عليه السلام | ذكر شيء من أخبار نوح عليه السلام | صومه عليه السلام | حجه عليه السلام | وصيته لولده | قصة هود عليه السلام | قصة صالح نبي ثمود عليه السلام | مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك | قصة إبراهيم خليل الرحمن | ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية | هجرة الخليل إلى بلاد الشام | ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر | ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر | قصة الذبيح | مولد اسحاق | بناء البيت العتيق | ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم | قصره في الجنة | صفة إبراهيم عليه السلام | وفاة إبراهيم وما قيل في عمره | ذكر أولاد إبراهيم الخليل | قصة مدين قوم شعيب عليه السلام | باب ذرية إبراهيم | إسماعيل عليه السلام | إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم | ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل | قصة نبي الله أيوب | قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب | باب ذكر أمم أهلكوا بعامة | أصحاب الرس | قصة قوم يس وهم أصحاب القرية | قصة يونس | فضل يونس | قصة موسى الكليم | فصل | هلاك فرعون وجنوده | فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون | فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة | سؤال الرؤية | قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى كليم الله عنهم | حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان | قصة بقرة بني إسرائيل | قصة موسى والخضر عليهما السلام | حديث الفتون | ذكر بناء قبة الزمان | قصة قارون مع موسى عليه السلام | باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه | ذكر حجه عليه السلام إلى البيت العتيق و صفته | ذكر وفاته عليه السلام | ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام | ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام | وأما إلياس عليه السلام