البداية والنهاية/الجزء الأول/فصل:اختلاف الناس في تفضيل الملائكة على البشر
فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة، ومن وافقهم، وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة، ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص، أنه حضر مجلسًا لعمر بن عبد العزيز، وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم. واستدل بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة: 7] .
ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال عراك بن مالك: ما أحد أكرم على الله، من ملائكته، هم خدمة داريه، ورسله إلى أنبيائه. واستدل بقوله تعالى: { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20] .
فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي: ما تقول أنت يا أبا حمزة؟ فقال: قد أكرم الله آدم، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن يزوره الملائكة.
فوافق عمر بن عبد العزيز في الحكم، واستدل بغير دليله. وأضعف دلالة ما صرح به من الآية، وهو قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }، مضمونة أنها ليست بخاصة بالبشر، فإن الله قد وصف الملائكة بالإيمان في قوله: { وَيُؤْمِنُوْنَ بِهِ }، وكذلك الجان { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ } { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ } [الجن: 13 - 14] .
قلت: وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة، ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وهو أصح، قال:
لما خلق الله الجنة قالت الملائكة: يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها، ونشرب، فإنك خلقت الدنيا لبني آدم، فقال الله: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان.