البداية والنهاية/الجزء الأول/ذكر وفاته عليه السلام

ملاحظات: ذكر وفاته عليه السلام


قال البخاري في (صحيحه) وفاة موسى عليه السلام: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:

أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن.

قال فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميه بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله :

« فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ».

قال: وأنبأنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي نحوه.

وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به.

ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة مرفوعًا وسيأتي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعني - سليم بن جبير- عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد: لم يرفعه.

قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها.

فرجع الملك إلى الله فقال: إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت.

قال: وقد فقأ عيني.

قال: فرد الله عينه.

وقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة.

قال: ثم مه؟

قال: ثم الموت.

قال: فالآن يا رب من قريب.

تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ.

وقد رواه ابن حبان في (صحيحه)، من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن، عن رسول الله فذكره، ثم استشكله ابن حبان، وأجاب عنه بما حاصله، أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولًا، وكذلك موسى لعله لم يعرفه.

لذلك ولطمه ففقأ عينه، لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن.

ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه.

قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه ». وذكر تمام الحديث.

كما أشار إليه البخاري، ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له: أجب ربك، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله: أجب ربك بلطمه، ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة.

ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذلم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أمورًا كثيرة، كان يحب وقوعها في حياته من خروجه من التيه، ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق في قدرة الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام، هو الذي خرج بهم من التيه، ودخل بهم الأرض المقدسة، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين. ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه.

وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر، ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر:

« فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: « لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر ».

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.

وقال السدي: عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فائت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة، لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير.

قال له موسى: فنم عليه.

قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي.

قال له: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم.

قال يا موسى: نم معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال يا موسى: خدعتني، فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتل هارون، وحسده حب بني إسرائيل له.

وكان هارون أكف عنهم، وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم كان أخي أفتروني أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض.

ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبي الله، فقال: لا والله ما قتلته ولكنه استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله.

قال: فإذا لم تصدقوني فاخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم.

وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم.

وذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبرًا، فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر، فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه، وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي - قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبي - قال:

« كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا.

قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربه.

فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه.

وقال يونس: لشققت عليه.

قال له: اذهب إلى عبدي فقل له: فليضع يده على جلد، أو مَسْك ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة.

فأتاه فقال له، فقال: ما بعد هذا؟

قال: الموت.

قال: فالآن.

قال: فشمه شمة فقبض روحه ».

قال يونس: فرد الله عليه عينه، وكان يأتي الناس خفية.

وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة به. فرفعه أيضًا.

البداية والنهاية - الجزء الأول
مقدمة | فصل:ما سوى الله مخلوق | فصل: فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي | الكرسي | اللوح المحفوظ | ما ورد في خلق السموات والأرض وما بينهما | ما جاء في سبع أرضين | فصل في البحار والأنهار | فصل:ذكر ما خلق في الأرض من الجبال،والأشجار والثمار والسهول | ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات | المجرة وقوس قزح | باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم | فصل: الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام | فصل:اختلاف الناس في تفضيل الملائكة على البشر | باب خلق الجان وقصة الشيطان | باب خلق آدم عليه السلام | احتجاج آدم وموسى عليهما السلام | الأحاديث الواردة في خلق آدم | قصة قابيل وهابيل | وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث | إدريس عليه السلام | قصة نوح عليه السلام | ذكر شيء من أخبار نوح عليه السلام | صومه عليه السلام | حجه عليه السلام | وصيته لولده | قصة هود عليه السلام | قصة صالح نبي ثمود عليه السلام | مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك | قصة إبراهيم خليل الرحمن | ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية | هجرة الخليل إلى بلاد الشام | ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر | ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر | قصة الذبيح | مولد اسحاق | بناء البيت العتيق | ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم | قصره في الجنة | صفة إبراهيم عليه السلام | وفاة إبراهيم وما قيل في عمره | ذكر أولاد إبراهيم الخليل | قصة مدين قوم شعيب عليه السلام | باب ذرية إبراهيم | إسماعيل عليه السلام | إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم | ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل | قصة نبي الله أيوب | قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب | باب ذكر أمم أهلكوا بعامة | أصحاب الرس | قصة قوم يس وهم أصحاب القرية | قصة يونس | فضل يونس | قصة موسى الكليم | فصل | هلاك فرعون وجنوده | فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون | فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة | سؤال الرؤية | قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى كليم الله عنهم | حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان | قصة بقرة بني إسرائيل | قصة موسى والخضر عليهما السلام | حديث الفتون | ذكر بناء قبة الزمان | قصة قارون مع موسى عليه السلام | باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه | ذكر حجه عليه السلام إلى البيت العتيق و صفته | ذكر وفاته عليه السلام | ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام | ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام | وأما إلياس عليه السلام