الروح/المسألة الثالثة عشرة

ملاحظات: المسألة الثالثة عشرة (سؤال من مات طفلا)


و هي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم؟ اختلف الناس في ذلك على قولين: هما وجهان لأصحاب أحمد.
و حجة من قال إنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤال اللّه أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر (كما ذكر) مالك في موطئه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم صلّى على جنازة صبي فسمع من دعائه: «اللهم قه عذاب القبر» 1. (و احتجوا) بما رواه علي بن معبد عن عائشة رضي اللّه عنها: أنه مر عليها بجنازة صبي صغير فبكت، فقيل لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
(و احتجوا) بما رواه هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إنه كان ليصلّي على المنفوس وما إن عمل خطيئة قط فيقول: «اللهم أجره من عذاب القبر».
قالوا: واللّه سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه.
قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنّة والحديث، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.
(قال الآخرون): السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإن اللّه سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر.
و أما حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية، فإن اللّه لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه». أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [فاطر:18] 2. و هذا كقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب». فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل اللّه تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. و اللّه أعلم.


هامش

  1. أخرج مالك في موطئه في كتاب الجنائز باب ما يقول المصلي على الجنائز (ص 112) عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر. أما أبو داود فقد ذكر في كتاب الجنائز باب الصلاة على الطفل (3/ 528) عن عائشة قالت: مات إبراهيم ابن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
    و قد ذكر الخطابي في معالم السنن شارحا هذا الأمر فقال: كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن الصلاة عليهم، وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وقد روى أبو داود في هذا الباب: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء، قلت: وهذا أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، وقد روي أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن الصلاة عليه. واللّه أعلم.
  2. أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في النوح (3/ 494) برقم 3129 عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فذكر ذلك لعائشة فقال:
    و هل- تعني ابن عمر- إنما مر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبر فقال: «إن صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [فاطر:18] قال عن معاوية: على قبر يهودي.
    قال الخطابي في معالم السنن: قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة، لأنها قد روت (أن ذلك إنما كان في شأن اليهودي) والخبر المفسر أولى من المجمل، ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية، وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول القائل وهو طرفة:
    إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد
    وكقول لبيد:
    فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر
    وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الأمين ولا عذر
    إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
    ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».
    و قولها: وهل ابن عمر، معناه: ذهب وهله إلى ذلك، يقال: وهل الرجل ووهم بمعنى واحد، كل ذلك بفتح الهاء، فإذا قلت: وهل بكسر الهاء كان معناه فزع، وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال: وتأويله أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء اللّه سبحانه فيهم أن يكون من عذابهم وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم: مطرنا بنوء كذا، أي عند نوء كذا، كذلك قوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان مخالفا للقرآن، وهو قوله: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى واللّه أعلم.


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون