الروح/المسألة السابعة عشرة

ملاحظات: المسألة السابعة عشرة (هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة)


وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة، وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر اللّه فكيف يكون أمر اللّه محدثا مخلوقا؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة؟ فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة.
فهذه مسألة زل فيها عالم، وضلت فيها طوائف من بني آدم. وهدى اللّه أتباع رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين، فأجمعت الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة. هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم، كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث، وأن معاد الأبدان واقع، وأن اللّه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنّة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة، واحتج بأنها من أمر اللّه، وأمره غير مخلوق، وبأن اللّه تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون فقالوا: لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة.
و سئل عن ذلك حافظ أصبهان: أبو عبد اللّه بن منده فقال: أما بعد فإن سائلا سألني عن الروح التي جعلها اللّه سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح القدس وأنها من ذات اللّه، قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه. فنقول وباللّه التوفيق وإن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس.

  1. فقال بعضهم: الأرواح كلها مخلوقة، وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر.

و احتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة.

  1. وقال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه، أخفى اللّه حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجوا بقول اللّه تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].
  2. وقال بعضهم: الأرواح نور من نور اللّه تعالى وحياة من حياته واحتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره» 1، ثم ذكر الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا؟ وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي مستقرها بعد الموت؟ وهل هي النفس أو غيرها.
  3. وقال محمد بن نصر المروزي 2 في كتابه: تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى، وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات اللّه فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا، لأن عيسى عندهم روح من اللّه صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم.
  4. وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض: أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق، وتأولوا قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر:29] وقوله تعالى:﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ [السجدة:9] فزعموا أن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال: إن النور من الرب غير مخلوق، قال: ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده، ثم هو في كل نبي ووصي إلى أن صار في علي ثم في الحسن والحسين، ثم في كل وصي وإمام فيه يعلم الإمام كل شي ء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد.

و لا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة للّه، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية:13].

  1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنّة.

و قد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه بالإجماع و الاختلاف، وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في (كتاب اللفظ): لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح. قال وأجمع الناس على أن اللّه تعالى هو خالق الحبة وبارئ النسمة أي خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة هي أو غير مخلوقة؟ قال: وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أو الروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة، وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في ذلك كتابا كبيرا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره والشيخ أبو سعيد الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى.
و قد نص على ذلك الأئمة الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، فكيف بروح غيره، كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على الزنادقة والجهمية: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: أنا أجد آية في كتاب اللّه مما يدل على أن القرآن مخلوق قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [النساء:171] وعيسى مخلوق، قلنا له: إن اللّه تعالى منعك الفهم للقرآن، إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنا نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو كن. ولكن كان يكن فكن من اللّه قول وليس كن مخلوقا، وكذبت النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: روح اللّه وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة.
و قالت النصارى: عيسى روح اللّه وكلمته من ذاته، كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قول اللّه تعالى لكِنْ وقوله ورُوحٌ مِنْهُ يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية:13] يقول من أمره وتفسير روح اللّه إنما معناها بكلمة اللّه خلقا، كما يقال: عبد اللّه وسماء اللّه وأرض اللّه، فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة، فكيف بسائر الأرواح، وقد أضاف اللّه إليه الروح الذي أرسله إلى مريم، وهو عبده ورسوله، ولم يدل على ذلك أنه قديم مخلوق، فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17] ﴿قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيࣰّا ۝١٨ قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمࣰا زَكِيࣰّا ۝١٩ [مريم:18–19] فهذا الروح، هو روح اللّه وهو عبده ورسوله.
و سنذكر إن شاء اللّه تعالى أقسام المضاف إلى اللّه وأين يكون المضاف صفة له قديمة وأين يكون مخلوقا وما ضابط ذلك.


هامش

  1. أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (5/ 26) برقم 2642 وتمامه:
    «فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم اللّه» قال الترمذي: حديث حسن.
  2. هو الإمام أبو عبد اللّه محمد بن نصر المروزي، أحد الأعلام، كان رأسا في الفقه والحديث والعبارة، قال أبو إسحاق الشيرازي: كان من أعلم الناس بالاختلاف وصنف كتبا، وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماما فكيف بخراسان؟ وقال غيره: لم يكن للشافعية في وقت مثله، سمع يحيى بن يحيى وشيبان بن فروخ وطبقتهما.
    توفي بسمرقند سنة أربع وتسعين ومائتين.


المسألة السابعة عشرة
هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة | فصل الأدلة على خلق الروح | فصل القرآن يدل على خلقه تعالى للأرواح | فصل الرد على الاستدلال بإضافتها إلى اللّه سبحانه وتعالى


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون