الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الإيمان



كتاب الإيمان


الحلف إنما يكون بإسم من أسماء الله تعالى وهو ظاهر أو صفة له من صفات ذاته . لحلفه () بمقلب القلوب كما في حديث ابن عمر في صحيح البخاري وغيره وقال : كان أكثر ما كان النبي () يحلف لا ومقلب القلوب وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي () قال في زيد بن حارثة : وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة وهكذا ثبت عنه () الحلف بقوله والذي نفسي بيده وهو في الصحيح وحكى النبي () عن جبرئيل عليه السلام أنه قال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها يعنى الجنة ، وهو في الصحيح أيضاً والأحاديث في هذا كثير جداً .

ويحرم بغير ذلك أي بغير إسم الله تعالى وصفاته ، فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة ، وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرماً في ماله وأهله فلا يقدمون على ذلك . ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم . فنهوا عن ذلك كما في حديث ابن عمر عند مسلم وغيره أن النبي () سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال : إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت وفي لفظ ومن كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله وفي حديث أبي هريرة عند أبو داود و النسائي وابن حبان والبيهقي قال : قال رسول الله ()  : لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون وأخرج أبو داود و الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن النبي () من حلف بغير الله فقد كفر وفي لفظ فقد أشرك وهو عند أحمد بن حنبل من هذا الوجه . وفي لفظ للترمذي والحاكم فقد كفر وأشرك وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة : وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد ولا أقول بذلك ، وإنما المراد عندي اليمين المنعقدة ، واليمين الغموس بإسم غير الله تعالى على إعتقاد ما ذكرنا . وقال في المسوى : قال الشافعي من حلف بغير الله فهو يمين مكروهة وأخشى أن يكون معصية . فإن قبل أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته فقال : والسماء ذات البروج والشمس وضحاها أليس أن النبي () قال في حديث الأعرابي : أفلح وأبيه إن صدق فالجواب يكون بوجهين : أحدهما أن فيه إضماراً معناه ورب السماء ورب الشمس ورب أبيه ونحو ذلك حيثما وقع . وثانيهما وهو الأصح أن النهي إنما وقع عما كان على قصد التعظيم للمحلوف بإسمه ، كالحالف بالله يقصد بذكره التعظيم دون ما كانت العرب تستعمله تؤكد به كلامها من غير ذلك التعظيم .

أقول : الحلف بإسم غير الله تعالى على إعتقاد تعظيمه بحيث يكون الحنث مع ذكر إسمه موجباً عنده للعقوبة في الدنيا والآخرة شرك ، وبغير هذا التعظيم مكروه لأجل المشابهة . مثل ما ذكروا من التفصيل في النهي عن القول يمطرنا بنوء كذا وكذا إنتهى . وفي حديث الصحيحين وغيرهما بلفظ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولا ريب أن الإنسان إنما يحلف بما هو عظيم عنده . ولهذا أمر رسول الله () الحالف أن يحلف بالله أو يصمت . فمن حلف باللات والعزى كان معظماً لهما ومن عظمهما كفر ومن كفر لم يرجع إلى الإسلام إلا بكلمة الإسلام وهي لا إله إلا الله .

ومن حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث أخرجه أحمد بن حنبل و الترمذي و ابن ماجه و النسائي وابن حبان ولفظ ابن ماجه فله ثنياه ولفظ النسائي فقد استثنى وأخرجه الحاكم وقد صححه ابن حبان وأخرج أبو داود عن عكرمة أن النبي () قال : والله لأغزون قريشاً ثم قال : إن شاء الله ثم قال : والله لأغزون قريشاً ثم قال : إن شاء الله ثم قال : والله لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال : إن شاء الله ثم لم يغزهم قال أبو داود  : أنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس وقد رواه البيهقي موصولاً ومرسلاً . ويؤيد أحاديث الباب ما في الصحيحين أن سليمان بن داود قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرآة الحديث وفيه فقال النبي () : لو قال إن شاء الله لم يحنث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك فقال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع إنعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً . وفي الموطأ عن ابن عمر من قال والله ثم قال إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث قال مالك أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان من ذلك نسقاً يتبع بعضه بعضاً قبل أن يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له قلت وعلى هذا أهل العلم أن الإستثناء إذا كان موصولاً باليمين فلا حنث عليه .

أقول : ثم اعلم أن اعتبار الأعراف في الأيمان لا بد منه ، فإن الحالف عند حلفه من شئ أو على شئ لا يخطر بباله غير العرف الذي غلب عليه في محاوراته ، فلو فرض أن عرفه فيما حلف عليه مخالف لاسمه اللغوي أو الشرعي كان العرف مقدماً ، أما إذا كان ممن لا يعرف الشرع أو اللغة فظاهر ، وأما إذا كان ممن يعرفها فكذلك أيضاً لأن خطورة المعنى العرفي أسبق من خطور غيره بالبال إلا أن يقول : أردت ذلك فإنه يقبل منه أن كان لا يتعلق بالمعنى العرفي حق للغير .

ومن حلف على شئ فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله ()  : إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي لفظ فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير وفي لفظ للنسائي و أبو داود فكفر عن يمينك ثم أت الذي هو خير وأخرج مسلم وغيره من حديث عدي بن حاتم ومن حديث أبي هريرة نحوه وفي الصحيحين من حديث أبي موسى لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وفي الباب أحاديث . قلت : قال الله تعالى : واحفظوا أيمانكم واختلفوا في وجه الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة فقال أبو حنيفة : قوله تعالى مخصوص بما إذا كان المحلوف عليه معصية . إذ من المعلوم أن الله تعالى لا يأمر بمعصية ، فمن حلف على معصية كترك الكلام مع أبيه حنث وكفر . وقال الشافعي  : مخصوص بما إذا حلف على معصية أو حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه لقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا أي مانعاً لكم عن البر قوله () فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير فقال أبو حنيفة : لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث فمعناه فليقصد أداء الكفارة كقوله : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وقال الشافعي  : يجوز تقديهما على الحنث يكفر بالصوم ، وعلى قياس هذا كل حق مالي تعلق بشيئين يجوز تقديمه على الشيئين ، كالزكاة إذا تم النصاب ولم يتم الحول .

ومن أكره على اليمين فهي غير لازمة ولا يأثم بالحنث فيها لكون فعل . المكره كلا فعل وقد رفع الله تعالى الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر فقال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولحديث رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو حديث فيه مقال طويل وتكليف الحالف بيمينه التي أكره عليها من تكليف مالا يطاق وهو باطل بالأدلة العقلية والنقلية .

واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها لحديث ابن عمر قال : جاء أعرابي إلى النبي () فقال : يا رسول الله ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت وما اليمين الغموس قال : التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب أخرجه البخاري قال مالك : وعقد اليمين أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير ثم يبيعه بذلك. أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه ونحو هذا . فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه . وليس في اللغو كفارة . وأما الذي يحلف على الشئ وهو يعلم أنه آثم ، ويحلف على الكذب وهو يعلم ليرضي به أحداً أو ليعتذر به إلى معتذر له أو ليقطع به مالاً فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة . قلت : الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه لا على ما يظن صدقه فإنه خارج عن الأقسام الثلاثة والحلف على الظن لا يجوز لأن الله سبحانه قد نهى عن اتباع الظن والعمل به نهياً عاماً مخصصاً بأمور ليس الحلف منها . ومن زعم أنه يجوز الحلف على الظن فهو مطالب بدليل صالح لتخصيص ذلك . ولا نسلم صدق إسم الاعتقاد على الظن بل هو أخص منه ولو سلم دخوله تحته بالمعنى العام فلا نسلم أن الإعتقاد الذي يكون مطابقته صدقاً هو ذلك العام ، ولو سلمنا أنه العام فلا نسلم أن كل صدق بهذا المعنى يجوز الحلف عليه ، بل الذي يجوز الحلف عليه ، بل الذي يجوز الحلف عليه هو نوع من أنواع الصدق خاص ، وهو ما كان معلوماً لا ما كان مظنوناً . ومن زعم غير هذا فعليه الدليل .

ولا مؤاخذة باللغو لقوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : أنزلت هذه الآية لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم في قول الرجل لا والله بلى والله وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين . وأخرج أبو داود عن عائشة قالت : قال رسول الله () : هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله وأخرج أبو داود عن عائشة قالت : قال رسول الله () : هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله وأخرجه أيضاً البيهقي وابن حبان وصحح الدارقطني الوقف . قال أبو داود رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفاً . وذهبت الحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشئ يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال جماعة . وقيل أن يحلف وهو غضبان . والخلاف في ذلك طويل ، وتفسير الصحابة الآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم . قلت : الأيمان ثلاثة أقسام : لغو لا كفارة فيها ، ومنعقدة تجب فيه الكفارة إن حنث ، وغموس اختلفوا في كفارتها . قالت عائشة : لغو اليمين قول الإنسان لا والله . وقال مالك : أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشئ يستقين أنه كذلك ثم يوجد على غير ذلك فهو اللغو . وذهب الشافعي في تفسير اللغو إلى قول عائشة وأبو حنيفة إلى ما حسنه مالك .

أقول : الأولى أن يقال أن اللغو لما وقعت في كتاب الله عز وجل مقابلة للمعقودة وقد تقرر أن تعقيد اليمين قصدها ، والمراد عقد القلب بها كما صرح به صاحب الكشاف فاللغو هي ما لم يقصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله في محارواته من غير قصد لليمين سواء كان في حال اليمين أم لا ، فلو لم يرد في اللغو إلا وقوعها في القرآن مقابلة للمعقودة لكان القول بأنها ما ذكرناه متعيناً فكيف وقد فسرت عائشة اللغو المذكور في القرآن بما قلنا .

ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه لما ثبت في الصحيحين من أمره () بذلك كما في حديث البراء وغيره . وأخرج أحمد بن حنبل من حديث أبي الزاهرية عن عائشة أن امرأة أهدت إليها تمراً فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال رسول الله () : أبريها فإن الإثم على المحنث ورجاله رجال الصحيح .

وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز وهو قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم قلت : ذهب ابن عمر إلى أن أو ههنا للتقسيم لا للتخيير وتعقبه عامة أهل العلم بالقياس الجلي على فدية الحلق في الإحرام فقالوا : يتخير الرجل بين أن يطعم عشرة من المساكين أو يكسوهم أو يتعتق رقبة ، فإن عجز عنها صام ثلاثة أيام ، وأما قدر الإطعام والكسوة فكان ابن عمر يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة مختصر . وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ، ورأوا ذلك مجزئاً عنهم . قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوباً وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين درعاً وخماراً وذلك أدنى ما يجزىء كلاً في صلاته قلت : على هذا الشافعي في الإطعام . وقال في الكسوة أولاً مثل ما قال مالك : ثم رجع وقال : إن اختار الكسوة فعليه لكل مسكين ثوب واحد من قميص أو سراويل أو مقنعة أو إزار يصلح لكبير أو صغير لصحة إطلاق الكسوة على كل ذلك سواء . وقال أبو حنيفة : الإعتاق والإطعام كما مر في الظهار ، وأما الكسوة فلكل واحد ثوب يستر عامة بدنه فلا يجوز السراويل والإزار ونحوهما . قال مالك : فأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشئ الواحد يردد فيه الإيمان يميناً كقوله : والله لا أنقصه من كذا وكذا يحلف بذلك مراراً ثلاثاً أو أكثر من ذلك قال فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين .

أقول : الذي في القرآن الكريم إطعام عشرة مساكين ومعناه الحقيقي أن يجعل لهم طعاماً يأكلونه مرة واحدة من غير تقدير بمقدار معين ولا على صفة معينة من اجتماعهم أو كونه في وقت مخصوص . بل ما يصدق عليه مسمى إطعام العشرة لغة ولا ريب أنه يقال لمن أطعم عشرة ليلاً أو نهاراً مجتمعين أو مفترقين أنه مطعم لذلك القدر . فما وقع الجزم به من اعتبار إطعام العشرة مرتين لا وجه له . وأما الظن من حديث كفارة الظهار فغير ظاهر . فإنه وقع الإختلاف الطويل العريض في مقدار العرق من التمر أو المركتل وهل الإعانة منه () فقط أو منه ومن المرأة ، ثم هو مهجور الظاهر فإنه أمر أوس بن الصامت أن ينفقه على نفسه كما ثبت في الصحيح

الروضة الندية شرح الدرر البهية
المقدمة | كتاب الطهارة | كتاب الصلاة | كتاب الجنائز | كتاب الزكاة | كتاب الخمس | كتاب الصيام | كتاب النكاح | كتاب الطلاق | كتاب البيع | كتاب الشفعة | كتاب الإجارة | كتاب الرهن | كتاب الوديعة والعارية | كتاب الغصب | كتاب العتق | كتاب الوقف | كتاب الهدايا | كتاب الهبات | كتاب الإيمان | كتاب النذر | كتاب الأطعمة | كتاب الأشربة | كتاب اللباس | كتاب الأضحية | كتاب الطب | كتاب الوكالة | كتاب الضمانة | كتاب الصلح | كتاب الحوالة | كتاب المفلس | كتاب اللقطة | كتاب القضاء | كتاب الخصومة | كتاب الحدود | كتاب القصاص | كتاب الديات | كتاب الوصية | كتاب المواريث | كتاب الجهاد والسير