الكيلانية/الصفحة الأولى
سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية عن قوم يقولون: كلام الناس وغيرهم قديم - سواء كان صدقا أو كذبا فحشا أو غير فحش نظما أو نثرا - ولا فرق بين كلام الله وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب. وقال قوم منهم - بل أكثرهم -: أصوات الحمير والكلاب كذلك ولما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد ردا على قولهم تأولوا ذلك وقالوا: بأن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فهل هؤلاء مصيبون أو مخطئون؟ وهل على ولي الأمر وفقه الله تعالى زجرهم عن ذلك أم لا؟ وهل يكفرون بالإصرار على ذلك أم لا؟ وهل الذي نقل عن أحمد حق كما زعموا أم لا
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله.
بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأ محرما بإجماع المسلمين وقد قالوا منكرا من القول وزورا؛ بل كفرا ومحالا يجب نهيهم عنه ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاء بما كسبوا نكالا من الله؛ فإن هذا القول مخالف للعقل والدين مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين وهي بدعة شنيعة لم يقلها أحد قط من علماء المسلمين: لا علماء السنة ولا علماء البدعة ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول؛ ولكن عرض لمن قالها شبهة ونحن نبينها إن شاء الله تعالى. ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداءة العقول أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة إلا من جهة بيان أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة وأن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين؛ ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف ويعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم المعظمين؛ وليتبين أن نقيض قولهم منصوص عن الأئمة المتبعين في السنة وليس ذلك مما سكتوا عنه نفيا وإثباتا. وأنه لا ريب أن الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله وبعده من الأئمة نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق - نصا مطلقا - بل نص أحمد وكثير من الأئمة على أفعال العباد عموما وعلى كلام الآدميين خصوصا ولم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لهؤلاء المبتدعة المخالفين حتى لا يقول قائل منهم أو من غيرهم: إنه لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق لأجل شبهتهم أو لكون الكلام في ذلك بدعة بل القول بأن كلام الآدميين مخلوق غير قديم منصوص عن الأئمة المتفق على إمامتهم في الدين والسنة. فمنهم من نص عليه لما تكلم في مسائل القدر وخلق أفعال العباد ومنهم من نص عليه لما تكلم في مسألة تلاوة العباد للقرآن واللفظ به ومنهم من نص عليه محتجا به على الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق. فروى أبو بكر أحمد بن هارون الخلال - وهو الذي جمع نصوص أحمد في أصول الدين وأصول الفقه وفي أبواب الفقه كلها وفي الآداب والأخلاق والزهد والرقائق وفي علل الحديث وفي التاريخ وغير ذلك من علوم الإسلام. روي - في كتاب السنة في الكلام على اللفظية عن أبي بكر ابن زنجويه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلم. قال الخلال: وأخبرنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أبا عبد الله يتكلم في اللفظية وينكر عليهم كلامهم وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر اللفظية وبدعهم وقال الخلال: سمعت ابن صدقة قال سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال سمعت رجلا سأل معتمر بن سليمان أن لنا إماما قدريا أصلي خلفه قال: من زعم أن لفظه غير مخلوق بمنزلة من زعم أن سماء الله غير مخلوقة قال الخلال: وأخبرني أبو بكر المروزي حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثني مسدد قال: كنت عند يحيى القطان وجاء يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري فقال له يحيى حدث هذا يعني مسددا كيف قال حماد بن زيد فيها؟ - أي مسألتنا - فقال سألت حماد بن زيد عمن قال: كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كلام أهل الكفر وقال يحيى بن إسحاق سألت معتمر بن سليمان عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كفر. فهذه الآثار ونحوها مما اعتمد عليها المشهورون بالسنة كالمروذي والخلال وغيرهما وكذلك الإمام أبو عبد الله ابن بطة يعتمد في كتابه الإبانة الكبير على هذه الآثار ونحوهما. قلت: حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام في السنة في طبقة مالك والثوري والأوزاعي وحماد بن سلمة والليث بن سعد في الزمان والإمامة بل هو عند علماء السنة أقعد بالسنة من الثوري وإن كان الثوري أكثر علما منه وزهدا وعند علماء الحديث أحفظ للحديث من حماد بن سلمة وإن كان حماد أشهر بالزهد وأكثر دعاء إلى السنة وهو إمام البصرة في ذلك الزمان الذي كانت البصرة فيه مجمع علم الإسلام وكان علماء الأمة وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل في ذلك العصر الذي هو عصر تابعي التابعين هؤلاء المسلمين ونحوهم وهم من القرن الثالث الممدوح. والمعتمر بن سليمان أحد الأئمة الأعلام أيضا وهو دون حماد ابن زيد وقد أدركه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما وهو أحد شيوخ الإمام أحمد وأما حماد بن زيد ففات الإمام أحمد فقال: فاتني حماد بن زيد فعوضني الله بإسماعيل بن علية وفاتني مالك بن أنس فعوضني الله سفيان بن عيينة. وأما يحيى بن سعيد القطان فهو أحد علماء السنة وهو إمام أهل الحديث في معرفة صحته وعلله ورجاله وضبطه حتى قال أحمد: ما رأيت بعيني مثله يعني في ذلك الفن وعنه أخذ ذلك علي بن المديني وعن علي أخذ ذلك البخاري صاحب الصحيح وقد ذكر الترمذي أنه لم ير في معرفة علل الحديث مثل محمد بن إسماعيل البخاري. وهؤلاء العلماء الأئمة أنكروا على من قال كلام الآدميين ولفظهم غير مخلوق لما نبغت القدرية المبتدعة وزعموا أن أفعال العباد غير مخلوقة لله: لا أقوالهم ولا سائر أعمالهم: لا خيرها ولا شرها؛ بل يقولون: هي محدثة أحدثها العبد وليست مخلوقة لأحد أو يقولون: العبد خلقها كما أنه أحدثها؛ فإنهم قد يتنازعون في إثبات خلق لغير الله ومع هذا فلم يكن بين الأمة نزاع في أنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن ولم يقل أحد: إنها قديمة؛ ولكن القدرية من المعتزلة وغيرهم اعتقدوا أن الأفعال الاختيارية وما يتولد عنها من أفعال الملائكة والجن والإنس - الطاعات والمعاصي - لم يخلقها الله. قالوا: لأنه لو خلقها للزم أن يكون العبد مجبورا وأن يرتفع التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب؛ ولأن العبد يعلم أنه هو الذي يحدث أفعاله علما ضروريا وعللوا ذلك بأدلة نظرية. فلما ابتدعوا هذه المقالة أنكرها أئمة السنة كما أنكر الصحابة رضوان الله عليهم أول هذه البدعة لما نبغت القدرية في أواخر عصر الصحابة فرد عليهم ابن عمر وابن عباس وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة. وبين الأئمة أن من جعل شيئا من المحدثات كأفعال العباد وغيرها ليس مخلوقا لله فهو مثل من أنكر خلق الله لغير ذلك من المحدثات كالسماء والأرض؛ فإن الله رب العالمين ومالك الملك وخالق كل شيء فليس شيء من العالمين خارجا عن ربوبيته ولا شيء من الملك خارجا عن ملكه ولا شيء من المحدثات خارجا عن خلقه قال تعالى: { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } { له مقاليد السماوات والأرض } وقال تعالى: { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء } وقال تعالى: { بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل } { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } وقال تعالى: { ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } وقال تعالى: { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } وقال تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وقال تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } ولهذا كان أهل السنة والجماعة والحديث هم المتبعين كتاب الله المعتقدين لموجب هذه النصوص حيث جعلوا كل محدث من الأعيان والصفات والأفعال المباشرة والمتولدة وكل حركة طبعية أو إرادية أو قسرية فإن الله خالق كل ذلك جميعه وربه ومالكه ومليكه ووكيل عليه وإنه سبحانه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم فآمنوا بعلمه المحيط وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وربوبيته التامة؛ ولهذا قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. وأما صفة الله تعالى فهي داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة فإذا قلت: عبدت الله ودعوت الله و{ إياك نعبد } فهذا الاسم لا يخرج عنه شيء من صفاته من علمه ورحمته وكلامه وسائر صفاته؛ ولهذا قال النبي ﷺ {: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وقال: { من حلف بغير الله فقد أشرك } وقد ثبت عنه: الحلف بعزة الله والحلف بقوله: لعمر الله فعلم أن ذلك ليس حلفا بغير الله فأعطوا هذه الآيات المنصوصة حقها في اتباع عمومها الذي قد صرحت به في أن الله خالق كل شيء؛ إذ قد علم أن الله ليس هو داخلا في المخلوق وعلم أن صفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه. وأما المعتزلة الذين جمعوا التجهم والقدر فأخرجوا عنها ما يتناوله الاسم يقينا من أفعال الملائكة والجن والإنس والبهائم: طاعاتها وغير طاعاتها وذلك قسط كبير من ملك الله وآياته؛ بل هي من محاسن ملكه وأعظم آياته ومخلوقاته وأدخلوا في ذلك كلامه لكونه يسمى شيئا في مثل قوله: { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ولم ينظروا في أن ذلك مثل تسمية علمه شيئا في قوله: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وتسمية نفسه شيئا في قوله: { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وأن قوله: { كل شيء } يعم بحسب ما اتصل به من الكلام. فإن الاسم تتنوع دلالته بحسب قيوده. ففي قوله: { وهو بكل شيء عليم } دخل في ذلك نفسه لأنها تصلح أن تعلم وفي قوله: { وهو على كل شيء قدير } دخل في ذلك ما يصلح أن يكون مقدورا وذلك يتناول كل ما كانت ذاته ممكنة الوجود وقد يقال: دخل في ذلك كل ما يسمى شيئا بمعنى مشيئا فإن الشيء في الأصل مصدر وهو بمعنى المشيء فكل ما يصلح أن يشاء فهو عليه قدير وإن شئت قلت: قدير على كل ما يصلح أن يقدر عليه والممتنع لذاته ليس شيئا باتفاق العقلاء. وفي قوله: { الله خالق كل شيء } قد علم أن الخالق ليس هو المخلوق وأنه لا يتناوله الاسم وإنما دخل فيه كل شيء مخلوق: وهي الحادثات جميعها. هذا مع أن أهل السنة يقولون إن العبد له مشيئة وقدرة وإرادة وهو فاعل لفعله حقيقة وينهون عن إطلاق الجبر فإن لفظ الجبر يشعر أن الله أجبر العبد على خلاف مراد العبد كما تجبر المرأة على النكاح؛ وليس كذلك؛ بل العبد مختار يفعل باختياره ومشيئته ورضاه ومحبته ليس مجبورا عديم الإرادة والله خالق هذا كله؛ فإن هذه الأمور من المحدثات الممكنات فالدلالة على أن الله خالقها كالدلالة على أنه خالق غيرها من المحدثات وليس هذا موضع الكلام على هذا فإن ذلك له موضع آخر. وإنما الغرض هنا أن الأئمة ردوا على من جعل أقوال العباد وأفعالهم خارجة عن خلق الله وجعلوا ذلك بمنزلة من جعل السماء والأرض ليس مخلوقة لله. هذا مع أن أولئك المبتدعين كانوا يقولون إنها محدثة ليست قديمة فكيف إذا قيل: إنها قديمة فإن ذلك يصير ضلالين بل ثلاث ضلالات. ( أحدها جعل المحدث المصنوع صفة لله قديمة مضاهاة للنصارى ونحوهم. و( الثاني إخراج مخلوق الله ومقدوره عن خلقه وقدرته كما قالته القدرية مضاهاة للمجوس ونحوهم. و( الثالث إخراج فعل العبد ومقدوره وكسبه عن أن يكون مقدورا له وكسبا وفعلا مضاهاة للجبرية القدرية المشركية فهذا كان وجه كلام أولئك الأئمة في هذا. ثم لما حدثت بدعة اللفظية احتج أئمة ذلك العصر في جملة ما احتجوا به بكلام أولئك السلف مثل البخاري الإمام صاحب الصحيح ومثل أبي بكر المروزي الإمام صاحب الإمام أحمد بن حنبل وخلق كثير في زمنه ومثل أبي بكر الخلال ونحوه. فاستدل هؤلاء الأئمة وغيرهم على بطلان قول من يقول: إن فعل العبد أو صفاته المتعلقة بصفات الله غير مخلوقة بما دل على أن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة. فروى البخاري عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان قال ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. وروى المروزي صاحب الإمام أحمد والخلال ما تقدم ذكره من كلام الأئمة من النص على خلق كلام الآدميين وأفعالهم. وسيأتي إن شاء الله نصوص الإمام أحمد في ذلك فإن القصد هنا التنبيه على الأصل الذي تشعب منه تفرق الأمة في هذا الموضع وهو مسألة اللفظ .
فصل
ومسألة اللفظ بالقرآن قد اضطرب فيها أقوام لهم علم وفضل ودين وعقل وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات بين أهل الحديث والسنة حتى قال ابن قتيبة كلاما معناه لم يختلف أهل الحديث في شيء من مذاهبهم إلا في مسألة اللفظ . وبين أن سبب ذلك لما وقع فيها من الغموض والنزاع بينهم في كثير من المواضع لفظي ولم يكن بين الناس نزاع في أن كلام العباد الذي لم ينزله الله تعالى أنه محدث مخلوق وإن كان الكلام في حروف الهجاء وفي أسماء المحدثات فيه نزاع هو الذي أوقع هؤلاء الجهال في ما ارتكبوه من المحال كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى. ولا يتسع هذا الجواب لشرح مسألة اللفظ مبسوطا؛ ولكن ننبه عليه مختصرا فنقول: إن الله تعالى أرسل رسله وأنزل عليهم كتبه وأمرهم أن يبلغوا إلى الناس ما أنزل الله عليهم من وحيه وكلامه فمن الناس من آمن بالله ورسله وصدقهم فيما جاءوا به من عند الله وأطاعهم فيما أمروا به. وهؤلاء هم المؤمنون في كل وقت وزمان وهم أهل الجنة والسعادة كما قال تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } وقال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }. ومن الناس من كفر بهم وكذب: مثل الأمم الذين قص الله علينا أخبارهم من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وفرعون ومشركي العرب وكل من لم يؤمن بأصل الرسالة من الهند والبراهمة وغيرهم والترك والسودان وغيرهم من الأمم الأميين الذين لا كتاب لهم - سواء كانوا مكذبين للرسل أو معرضين عن اتباعهم؛ فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان صدق الرسل والسور المكية كلها خطاب مع هؤلاء. ولهذا يقول سبحانه: { كذبت قوم نوح المرسلين } لأنهم كذبوا جميع الرسل ولم يؤمنوا بأصل الرسالة وقد قال تعالى لما أهبط أباهم آدم: { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى }. فأخبر أنه إذا أتاهم هدى منه وهو ما أنزله على رسله من الذكر فمن اتبعه اهتدى وسعد في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنه شقي وعمي ولهذا قال في أوائل البقرة في نعت المؤمنين: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } كما قال هنا: { فلا يضل ولا يشقى } فإن الهدى ضد الضلال والفلاح ضد الشقاء وقال تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. ومن الناس من آمن ببعض ما جاءت به الرسل وكفر ببعض كمن آمن ببعض المرسلين دون بعض واليهود والنصارى حيث آمنوا بموسى أو موسى والمسيح معه دون محمد ﷺ ولهذا يخاطب الله في القرآن الأميين الذين لم يتبعوا رسولا وأهل الكتاب المصدقين ببعض الرسل كما في قوله: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } وفي قوله: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين }. وكمن آمن ببعض صفات الرسالة وكفر ببعض: من الصابئين الفلاسفة ونحوهم: الذين قد يقرون بأصل الرسالة؛ لكن يجعلون الرسول بمنزلة الملك العادل: الذي قد وضع قانونا لقومه أو يقولون: إن الرسالة للعامة دون الخاصة أو في الأمور العملية دون العلمية أو في الأمور التي يشترك فيها الناس دون الخصائص التي يمتاز بها الكمل ويقرون برسالة محمد ﷺ من حيث الجملة ويعظمونه ويقولون: اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يرد إلى الأرض ناموس أعظم من ناموسه؛ لكنهم مع هذا يكفرون ببعض ما جاء به: مثل أن يسوغوا اتباع غير دينه من اليهودية والنصرانية وقد يسوغون الشرك أيضا للعامة أو للخاصة: مثل أن يسوغوا دعوة الكواكب وعبادتها والسجود لها وقد يكذبون في الباطن بأشياء مما أخبر بها ويزعمون أن ما أخبر به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هي أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما لا يجوز إظهاره وإبانة حقيقته؛ وذلك أنهم يجوزون كذبه لمصلحة العامة بزعمهم. وقد يزعمون أن حقيقة العلم بالله تؤخذ من غير ما جاء به الرسول وأن من الناس من يكون أعلم بالله منه أو أفضل منه ونحو ذلك من المقالات وهذا الضرب ما زال موجودا لا سيما مع القرامطة الباطنية: من الإسماعيلية والنصيرية والملوك العبيدية: الذين كانوا يدعون الخلافة ومع الخرمية والمزدكية وأمثالهم من الطوائف وهؤلاء خواصهم أكفر من اليهود والنصارى ومن الغالية الذين يقولون بإلهية علي ونحوه من البشر أو نبوته وهم منافقون زنادقة؛ لكن في كثير من أتباعهم من يظن أنه مؤمن بالكتب والرسل لما لبسوا عليه أصل قولهم أو وافقهم في قول بعضهم دون بعض وأكثر هؤلاء يميلون إلى الرافضة ومنهم من ينتسب إلى التصوف ومنهم من ينتسب إلى الكلام ومنهم من يدخل مع الفقهاء في مذاهبهم. وهذا الضرب يكثر في الدول الجاهلية البعيدين عن معرفة الإسلام والتزامه كما كانوا كثيرين في دولة الديلم والعبيديين ونحوهم وكما يكثرون في دولة الجهال من الترك ونحوهم من الجهال الذين آمنوا بالرسالة من حيث الجملة من غير علم بتفاصيل ما جاء به الرسول لأن الجهال من الترك وغيرهم بهذا الضرب أشبه منهم بغيرهم؛ فإن هؤلاء لا يوجبون اتباع الرسول على جميع أهل الأرض؛ لكنهم قد يرون اتباعه أحسن من اتباع غيره فيتبعونه على سبيل الاستحباب أو يتبعون بعض ما جاء به أو لا يتبعونه بحال. وهم في ذلك مقرون له ولأتباعه. والمؤمن ببعض الرسالة دون بعض كافر أيضا كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما } وقال تعالى - يخاطب أهل الكتاب -: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا }. فذم الذين أوتوا قسطا من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة وفضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها كما يفضل ذلك بعض من يفضل الصابئة من الفلاسفة والدول الجاهلية - جاهلية الترك والديلم والعرب والفرس وغيرهم - على المؤمنين بالله وكتابه ورسوله وكما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيرا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم وإذا قيل لهم: تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضا وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات أو الذوقية التي هي في الحقيقة أوهام وخيالات { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } إلى قوله: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } الآية وقال تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم }. وقد ذم الله سبحانه أهل التفرق والاختلاف في الكتاب الذين يؤمن كل منهم ببعضه دون بعض كما قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم }. فأمر الله نبيه أن يؤمن بجميع الكتب المنزلة وأن يعدل بين الناس كلهم فيعطي كل ذي حق حقه ويمنع كل مبطل عن باطله؛ فإن القسط والعدل في جميع أمور الدين والدنيا فيما جاء به وهو المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وقال تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } إلخ السورة. وهاتان الآيتان قد ثبت في الصحيح { أن النبي ﷺ أعطيهما من كنز تحت العرش وأنه لم يقرأ بشيء منهما إلا أعطيه } وقد ثبت في الصحيح { أنه من قرأهما في ليلة كفتاه } وقال تعالى: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم }.
الكيلانية لابن تيمية | ||||||||||||
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة | ||||||||||||