الكيلانية/الصفحة السادسة

الكيلانية المؤلف ابن تيمية
الصفحة السادسة


فصل

وأما سؤال السائل: هل يجب على ولي الأمر زجرهم وردعهم؟ فنعم يجب ذلك في هؤلاء وفي كل من أظهر مقالة تخالف الكتاب والسنة؛ فإن ذلك من المنكر الذي أمر الله بالنهي عنه كما قال تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهو من الإثم الذي قال الله فيه: { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت }. وكل من أثبت لله ما نفاه عن نفسه أو نفى عن الله ما أثبته لنفسه من المعطلة والممثلة فإنه قال على الله غير الحق وذلك مما زجر الله عنه بقوله للنصارى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } وبقوله: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وقال عن الشيطان: { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }. فإن من قال غير الحق فقد قال على الله ما لا يعلم؛ فإن الباطل لا يعلم إلا إذا علم بطلانه فأما اعتقاد أنه الحق فهو جهل لا علم فمن قاله فقد قال ما لا يعلم وكذلك من تبع في هذه الأبواب وغيرها من أبواب الدين آباءه وأسلافه من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه: مثل قوله: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } وقوله: { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا }. وكذلك من اتبع الظنون والأهواء معتقدا أنها عقليات وذوقيات فهو ممن قال الله فيه: { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالأنباء كما قال تعالى: { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وقال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } بل على الناس أن يلتزموا الأصول الجامعة الكلية التي اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها: فيؤمنون بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله: من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.

فصل

وأما تكفير قائل هذا القول فهو مبني على أصل لا بد من التنبيه عليه؛ فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطرابا كثيرا في تكفير أهل البدع والأهواء كما اضطربوا قديما وحديثا في سلب الإيمان عن أهل الفجور والكبائر وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية والممثلة يعتقدون اعتقادا هو ضلال يرونه هو الحق ويرون كفر من خالفهم في ذلك فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر ب المقالة التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها. وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم؛ بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا؛ لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وما يقوله أهل البدعة والفرقة أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة. وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف؛ ولا متبعين لظن: من حديث ضعيف أو قياس فاسد - سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل - أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله؛ فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى.

فصل

إذا تبين ذلك فاعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا؛ فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان قال الله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقال تعالى - لما ذكر قول اليهود والنصارى -: { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }. فأمر أن يطالبهم بالبرهان على هذا النفي العام وما فيه من الإثبات الباطل ثم قال: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }. فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكا بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد أنه من جمع الخصال الثلاث التي هي جماع الصلاح وهي الإيمان بالخلق والبعث: بالمبدأ والمعاد؛ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح؛ وهو أداء المأمور به وترك المنهي عنه. فإن له حصول الثواب وهو أجره عند ربه واندفاع العقاب. فلا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه؛ ولذلك قال: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن } إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } وهو محسن. ف الأول وهو إسلام الوجه هو النية وهذا الثاني - وهو الإحسان - هو العمل. وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه الله على جميع عباده من الأولين والآخرين. وهو دين الله العام الذي لا يقبل من أحد سواه وبه بعث جميع الرسل كما قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى لبني آدم جميعا: { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وقال في الآية الأخرى { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنب فإنهم تكلموا في الفاسق الملي فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة ومنهم من قال: والصغيرة لا تجامع الإيمان أبدا بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام قالوا: لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات. ثم قالت الخوارج : فيكون العاصي كافرا؛ لأنه ليس إلا مؤمن وكافر ثم اعتقدوا أن عثمان وعليا وغيرهما عصوا ومن عصى فقد كفر فكفروا هذين الخليفتين وجمهور الأمة. وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين إنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر. وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية. فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان؛ بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين: من الملائكة والنبيين والمقربين والمقتصدين والظالمين. ثم قال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب واللسان وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب وقال بعضهم: التصديق باللسان. قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية لخرج منه من لم يأت بها كما قالت الخوارج ونكتة هؤلاء جميعهم توهمهم أن من ترك بعض الإيمان فقد تركه كله. وأما أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين وأئمة أهل السنة وأهل الحديث وجماهير الفقهاء والصوفية مثل مالك والثوري والأوزاعي وحماد بن زيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. ومحققي أهل الكلام فاتفقوا على أن الإيمان والدين قول وعمل. هذا لفظ السلف من الصحابة وغيرهم وإن كان قد يعني بالإيمان في بعض المواضع ما يغاير العمل؛ لكن الأعمال الصالحة كلها تدخل أيضا في مسمى الدين والإيمان ويدخل في القول قول القلب واللسان وفي العمل عمل القلب والجوارح. وقال المفسرون لمذهبهم: إن له أصولا وفروعا وهو مشتمل على أركان وواجبات - ليست بأركان - ومستحبات؛ بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرهما من العبادات؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك مثل الإحرام وترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف ببيت الله الحرام وبين الجبلين المكتنفين به وهما الصفا والمروة. ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة. وعلى ترك محظور متى فعله فسد الحج وهو الوطء ومشتمل على واجبات: من فعل وترك يأثم بتركها عمدا ويجب مع تركها - لعذر أو غيره - الجبران بدم كالإحرام من المواقيت المكانية والجمع بين الليل والنهار بعرفة وكرمي الجمار ونحو ذلك وكترك اللباس المعتاد والتطيب والصيد وغير ذلك. ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها؛ فلا يأثم بتركها ولا يجب دم مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في الطواف والوقوف وغيرهما. وقلة الكلام إلا في أمر بمعروف ونهي عن منكر أو ذكر الله تعالى فمن فعل الواجب وترك المحظور فقد أتم الحج والعمرة لله وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل. لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم منه حجا وهو سابق مقرب ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بركنه وترك مفسده فهو حاج حجا ناقصا يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما تركه ومن أخل بركن الحج أو فعل مفسد فحجه فاسد لا يسقط به فرض؛ بل عليه إعادته مع أنه قد يتنازع في إثابته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض والأشبه أنه يثاب عليه. فصار الحج ثلاثة أقسام كاملا بالمستحبات وتاما بالواجبات فقط وناقصا عن الواجب. والفقهاء يقسمون الوضوء والغسل إلى كامل ومجزئ؛ لكن يريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه وبالمجزئ ما اقتصر على واجبه. فهذا في الأعمال المشروعة . وكذلك في الأعيان المشهودة فإن الشجرة مثلا اسم لمجموع الجذع والورق والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة وبعد ذهاب الأغصان شجرة؛ لكن كاملة وناقصة فليفعل مثل ذلك في مسمى الإيمان والدين أن الإيمان ثلاث درجات : إيمان السابقين المقربين. وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات: من فعل وترك. وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين. وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك. وإيمان الظالمين. وهو ما يترك فيه بعض الواجبات أو يفعل فيه بعض المحظورات. ولهذا قال علماء السنة في وصفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة : إنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن؛ ولهذا تواتر في الأحاديث { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } { مثقال حبة من إيمان }. وفي رواية الصحيح أيضا { مثقال حبة من خير } { مثقال ذرة من خير } وقال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة { الإيمان بضع وستون - أو بضعة وستون أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة وأن قليله يخرج الله به من النار من دخلها ليس هو كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة: إنه لا يقبل التبعيض والتجزئة؛ بل هو شيء واحد: إما أن يحصل كله أو لا يحصل منه شيء. ومما يتصل به أن يعرف أن الإيمان هو من الأسماء الكتابية القرآنية النبوية الدينية الشرعية؛ فيتنوع مسماها قدرا ووصفا بتنوع الكتب الإلهية؛ فمنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله واليوم الآخر وعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل. واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم والمؤمنين جميعهم. وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدرا ووصفا فإن ما جاء به محمد من أسماء الله وصفاته ووصف اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء. ومنه ما تختلف فيه الشرائع والمناهج كالقبلة والمنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة؛ بل مسماه في الآخر أكمل كما قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال في السورة: { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } ولهذا قال الإمام أحمد كان بدء الإيمان في أول الإسلام ناقصا فجعل يتم وهكذا مسمى الإيمان والدين قد شرع في حق الأشخاص بحسب ما أمر الله به كلا منهم وبحسب ما فعله مما أمر الله به. ولهذا كان المؤمنون من الأولين والآخرين؛ من الذين هادوا والنصارى والصابئين والمؤمنين من أمة محمد مشتركين في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما دل عليه القرآن. مع أن اليهود كان يجب عليهم الإقرار بما لا يجب علينا الإقرار به؛ مثل إقرارهم بواجبات التوراة وبمحرماتها مثل السبت وشحم الثرب والكليتين. ولا يجب عليهم التصديق المفصل بما لم ينزل عليهم من أسماء الله وصفاته وصفات اليوم الآخر. ونحن يجب علينا من الإيمان بذلك ما لم يجب عليهم ويجب علينا من الإقرار بالصلوات الخمس والزكاة المفروضة وحج البيت وغير ذلك مما هو داخل في إيماننا وليس داخلا في إيمانهم؛ فإن الإقرار بهذه الأشياء داخل في الإيمان باتفاق الأمة. وكذلك الإقرار بأعيان الأنبياء كان الإقرار بأعيانهم داخلا في إيمان من قبلنا ونحن إنما يدخل في إيماننا الإقرار بهم من حيث الجملة. والمنازعون لأهل السنة منهم من يقول: الإيمان في الشرع مبقى على ما كان عليه في اللغة؛ وهو التصديق. ومنهم من يقول: هو منقول إلى معنى آخر. وهو أداء الواجبات. وأما أهل السنة فقد يقول بعضهم: هو منقول كالأسماء الشرعية: من الصلاة والزكاة. وقد يقول بعضهم: بل هو متروك على ما كان وزادت عليه الشريعة أشياء. ومنهم من يقول: بل هو باق على أصله من التصديق مع دخول الأعمال فيه فإن الأعمال داخلة في التصديق فالمؤمن يصدق قوله بعمله كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. ومنه قول النبي { والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } . ومنهم من يقول: ليس الإيمان في اللغة هو التصديق؛ بل هو الإقرار وهو في الشرع الإقرار أيضا والإقرار يتناول القول والعمل. وليس هذا موضع بسط ذلك فقد بسطته في غير هذا الموضع. وإذا عرف مسمى الإيمان فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك - يراد به الإيمان الواجب كقوله: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } الآية. وقوله: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه }. وقوله في الجنة: { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله }. وقوله { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } فنفي عنه الإيمان الواجب الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه. وهذا معنى قولهم: نفي كمال الإيمان لا حقيقته أي الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء: الغسل كامل ومجزئ. ومن هذا الباب: قوله { من غشنا فليس منا } ليس المراد به أنه كافر. كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا. كما تأول\ته المرجئة؛ ولكن المضمر يطابق المظهر والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب السالمون من العذاب والغاش ليس منا لأنه متعرض لسخط الله وعذابه. وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم: مثل أن لا تبلغه الرسالة أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأمورا بما يعجز عنه ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل؛ بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا إذ ذاك وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل كما قال النبي { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير } رواه مسلم عن أبي هريرة في حديث حسن السياق. وقوله: { صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد } ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علما واعتقادا دون العمل.

فصل

فهذا أصل مختصر في مسألة الأسماء وأما مسألة الأحكام وحكمه في الدار الآخرة فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة. أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان؛ بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان. وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم من دخلها خلد فيها ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين في حق خلق كثير. كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي . وأيضا : فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره؛ وإما لمصائب كفرتها عنه وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه وإما لغير ذلك. والوعيدية من الخوارج والمعتزلة: يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد لهم. مثل قوله: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها ويخالفون أهل السنة والجماعة في وجوب نفوذ الوعيد فيهم وفي تخليدهم؛ ولهذا منعت الخوارج والمعتزلة أن يكون لنبينا شفاعة في أهل الكبائر - في إخراج أهل الكبائر من النار. وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك كقوله { شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } وأحاديثه في إخراجه من النار من قد دخلها. وليس الغرض هنا تحرير هذه الأصول وإنما الغرض التنبيه عليها وكان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة فقالوا: يجب أن يدخل فيها كل من شملته وهو خبر وخبر الله صدق فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده والكذب على الله محال فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد فإنها قد تتناول كثيرا من أهل الكبائر فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد. فقال الأولون: نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمنا وهؤلاء ليسوا مؤمنين. وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافرا وكل من القولين خطأ. فإن النصوص - مثل قوله. { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } لم يشترط فيها الكفر؛ بل هي في حق المتدين بالإسلام. وقوله: { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } لم يشترط فيه فعل الواجبات؛ بل قد ثبت في الصحاح { وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر } . فهنا اضطرب الناس فأنكر قوم من المرجئة العموم وقالوا: ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة وبعض الأشعرية والشيعية وإنما التزموا ذلك لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد. وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح والصيغ صيغ عموم؛ لكن العام يقبل التخصيص؛ وهذا مذهب جميع الخلائق من الأولين والآخرين إلا هذه الشرذمة. قالوا: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم. وقال قوم آخرون: بل إخلاف الوعيد ليس بكذب وإن العرب لا تعد عارا أو شنارا أن يوعد الرجل شرا ثم لا ينجزه كما تعد عارا أو شنارا أن يعد خيرا ثم لا ينجزه وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول قالوا: فهذا وعيد خاص وقد رجا فيه العفو مخاطبا للنبي فعلم أن العفو عن المتوعد جائز وإن لم يكن من باب تخصيص العام. والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين فكذلك في موارد النزاع. فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب وأنه يقبل شفاعة النبي في أهل الكبائر وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى وأن الربا يبطل العمل وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل ونحو ذلك. فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة. وبهذا تبين أنا نشهد بأن { الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } على الإطلاق والعموم ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه. يبين هذا: أنه قد ثبت: أن النبي { لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها }. وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر { أن رجلا كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله } فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله وقد لعن شارب الخمر على العموم.

فصل

إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملي وفي حكم الوعد والوعيد والفرق بين المطلق والمعين وما وقع في ذلك من الاضطراب ف مسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل. ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال غير واحد من الأئمة إنهم أكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وإن الله ليس على العرش وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته. وأما المرجئة : فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء: ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم باب الأسماء وهذا من نزاع الفقهاء لكن يتعلق بأصل الدين؛ فكان المنازع فيه مبتدعا. وكذلك الشيعة المفضلون لعلي على أبي بكر لا يختلف قوله إنهم لا يكفرون؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضا وإن كانوا يبدعون. وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج: فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم والخوارج مع قوله: ما أعلم قوما شرا من الخوارج. ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقا روايتين حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان أصحهما لا يكفر. وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقا وهو خطأ محض. والجهمية - عند كثير من السلف: مثل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم - ليسوا منه الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة؛ بل أصول هذه عند هؤلاء: هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذا المأثور عن أحمد وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون؛ من قال: القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ونحو ذلك. ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: أحدهما أنه كفر ينقل عن الملة. قال: وهو قول الأكثرين. والثاني أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: إن هذا قالوه على سبيل التغليظ وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء؛ فأطلق أكثرهم عليه التخليد كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث؛ كأبي حاتم؟ وأبي زرعة وغيرهم وامتنع بعضهم من القول بالتخليد. وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا فيتعارض عندهم الدليلان وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه. ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره. ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار. أما الكتاب: فقوله سبحانه وتعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي { أن الله تعالى قال: قد فعلت لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء }. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي قال: { أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش } و{ أنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه } . وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان فهذا عام عموما محفوظا وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه وإن عذب المخطئ. من غير هذه الأمة. وأيضا قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: { إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله: إذا مات فأحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه فإذا هو قائم بين يديه. ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم؛ فغفر الله له } . وهذا الحديث متواتر عن النبي رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عمرو وغيرهم عن النبي من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم. فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم؛ بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان: أحدهما متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير. والثاني متعلق باليوم الآخر. وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. وأيضا: فقد ثبت في الصحيح عن النبي { إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان } وفي رواية: { مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان } وفي رواية من خير { ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير } وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ. ومعلوم قطعا أن كثيرا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله إذ الكلام فيمن يكون كذلك. وأيضا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة. وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: { بل عجبت } ويقول: إن الله لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أفقه منه فكان يقول: { بل عجبت } فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: { أفلم ييأس الذين آمنوا } وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا وإنكار الآخر قراءة قوله: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال: إنما هي: ووصى ربك. وبعضهم كان حذف المعوذتين وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر. وأيضا فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية. وذلك مثل قوله تعالى { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقوله: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } الآية. وقوله: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } وقوله: { وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } الآية. وقوله: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقوله: { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا } وقوله: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } وقوله: { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وقوله { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } ونحو هذا في القرآن في مواضع متعددة. فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلا؛ إما أنه لم يسمعه. أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به. فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها. وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه؛ بل ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ مثل الخطأ في الفروع العملية؛ وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ فيها آثم وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب فهذان القولان شاذان ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر واستحلال آخرين للقتال في الفتنة. وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلا عن أن يكفر حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل كما يقول هؤلاء الأئمة: إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولا لا يجلد ولا يفسق. وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وقال تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله }. وثبت في الصحاح من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة عن النبي أنه قال: { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } . وثبت في الصحيح { عن بريدة بن الحصيب أن النبي قال: إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم } وأدلة هذا الأصل كثيرة لها موضع آخر. وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات ليست أركانا: فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل: إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان. وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضا من أصول الإيمان. فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة؛: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه. وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين: فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله أشد شبها منه بالمشركين وأهل الكتاب فوجب أن يلحق بهم وعلى هذا مضى عمل الأمة قديما وحديثا في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام التي تجري على غيرهم هذا مع العلم بأن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين فهؤلاء كفار في الباطن ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا. وأصل ضلال هؤلاء الأعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في خلاف ذلك فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة كما يقوله قوم من المتفلسفة وغالية المتكلمة والمتصوفة أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض كما يقوله كثير من اليهود والنصارى. فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين: أحدهما أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق فنفي الصفات كفر والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر وكذلك ما كان في معنى ذلك وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث. والأصل الثاني أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه. ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك ويكون في الآخرة غير معذب مثل قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك كما أقامه النبي على ماعز بن مالك وعلى الغامدية مع قوله: { لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له } ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا مع العلم بأنه باق على العدالة. بخلاف من لا تأويل له فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا } اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وكذلك نعلم أن خلقا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم. ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة كقوله: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } الآية. وقوله: { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } { ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور } { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } الآية. وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب. وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان كما قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } وقال تعالى: { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط كما قال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز }. وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس. ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر. وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا. والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه.

والله سبحانه أعلم.



الكيلانية لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة