الكيلانية/الصفحة الثالثة


وكذلك قد تنازع الناس في زمنهم وبعده - من أصحابهم وغيرهم - في معنى كون القرآن غير مخلوق هل المراد به أن نفس الكلام قديم أزلي كالعلم؟ أو أن الله لم يزل موصوفا بأنه متكلم إذا شاء؟ على قولين. ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وأبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافي عن أصحاب الإمام أحمد وذكرهما أبو عبد الله ابن حامد في كتابه أصول الدين . والنزاع في ذلك بين سائر طوائف السنة والحديث وهذا مبني على أصل الصفات الفعلية الاختيارية والنزاع فيه بين جميع الطوائف من أهل الحديث والسنة والفقه والتصوف ومن دخل معهم من أهل المذاهب الأربعة وبين سائر الفرق حتى بين الفلاسفة أيضا وقد حققت ذلك في غير هذا الموضع. وهذا منشأ نزاع الذين وافقوا السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فإن هؤلاء تنازعوا في أن الرب هل يتكلم بمشيئته وقدرته؟ على قولين. فالذين وافقوا ابن كلاب قالوا: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل كلامه لازم لذاته كحياته ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين فلم يمكنه أن يقول: القديم هو الحروف والأصوات؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة والصوت لا يبقى زمانين فضلا عن أن يكون قديما. فقال: القديم هو معنى واحد لامتناع معاني لا نهاية لها وامتناع التخصيص بعدد دون عدد. فقالوا: هو معنى واحد وقالوا: إن الله لا يتكلم بالكلام العربي والعبري وقالوا: إن معنى التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله معنى واحد ومعنى آية الكرسي وآية الدين معنى واحد. إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ومن هؤلاء من عرف أن الله تكلم بالقرآن العربي والتوراة العبرية وأنه نادى موسى بصوت وينادي عباده بصوت وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه؛ لكن اعتقدوا مع ذلك أنه قديم العين وأن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته. فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وقالوا: إن الباء لم تسبق السين والسين لم تسبق الميم وأن جميع الحروف مقترنة بعضها ببعض اقترانا قديما أزليا لم يزل ولا يزال وقالوا: هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها غير مترتبة في وجودها. وقال كثير منهم: إنها مع ذلك شيء واحد إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل. ومن هؤلاء من يقول: هو قديم ولا يفهم معنى القديم. فإذا سئل عن ذلك قال: هي قديمة في العلم ولا يعلم أن المخلوقات كالسماء والأرض بهذه المثابة مع أنها مخلوقة ومنهم من يقول: قديم بمعنى أنه متقدم على غيره ولا يعرف أن الذين قالوا: إنه مخلوق لا ينازعون في أنه قديم بهذا المعنى ومنهم من يقول: إن مرادنا بأنه قديم أنه غير مخلوق ولا يفهم أنه مع ذلك يكون أزليا لم يزل وهؤلاء سمعوا ممن يوافقهم على أنه غير مخلوق: قالوا هو قديم فوافقوا على أنه قديم ولم يتصوروا ما يقولونه. كما أن من الناس من قال: هو غير مخلوق وأراد بذلك أنه غير مكذوب وهذا مما لم يتنازع فيه الناس كما لم يتنازعوا في أنه قديم بمعنى أنه متقدم على غيره. والقول الثاني قول من يقول إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته مع أن كلامه غير مخلوق. وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة السنة والحديث لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئا فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلما كما أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة. وأما السلف والأئمة فقالوا: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وإن كان مع ذلك قديم النوع - بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء؛ فإن الكلام صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون متكلما بمشيئته وقدرته ومن لا يزال متكلما بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه أو قدر أن ذلك ممكن فكيف إذا كان ممتنعا؟ لامتناع أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن؟ كما قد بسط هذا في مواضع أخر.

وكانت اللفظية الخلقية من أهل الحديث يقولون: نقول: إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإن التلاوة غير المتلو. والقراءة غير المقروء. واللفظية المثبتة يقولون: نقول: إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة والتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء. وأما المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وأعيان أصحابه وسائر أئمة السنة والحديث فلا يقولون مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا يقولون التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا كما لا يقولون: الاسم هو المسمى ولا غير المسمى. وذلك أن التلاوة والقراءة كاللفظ قد يراد به مصدر تلا يتلو تلاوة وقرأ يقرأ قراءة ولفظ يلفظ لفظا ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته وهذا المراد باسم التلاوة والقراءة واللفظ مخلوق وليس ذلك هو القول المسموع: الذي هو المتلو. وقد يراد باللفظ الملفوظ وبالتلاوة المتلو وبالقراءة المقروء وهو القول المسموع وذلك هو المتلو ومعلوم أن القرآن المتلو: الذي يتلوه العبد ويلفظ به غير مخلوق وقد يراد بذلك مجموع الأمرين. فلا يجوز إطلاق الخلق على الجميع ولا نفي الخلق عن الجميع. وصار ابن كلاب يريد بالتلاوة القرآن العربي وبالمتلو المعنى القائم بالذات وهؤلاء إذا قالوا: التلاوة غير المتلو وهي مخلوقة: كأن مرادهم أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي بل عندهم أن القرآن العربي مخلوق. وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة والحديث. ويظن هؤلاء أنهم يوافقون البخاري أو غيره ممن قد يفرق بين التلاوة والمتلو وليس الأمر كذلك. ومن الآخرين من يقول: التلاوة هي المتلو ويريد بذلك أن نفس ما تكلم الله به من الحروف والأصوات هو الأصوات المسموعة من القراء حتى يجعل الصوت المسموع من العبد هو صوت الرب وهؤلاء يقولون: نفس صوت المخلوق وصفته هي عين صفة الخالق وهؤلاء اتحادية حلولية في الصفات يشبهون النصارى من بعض الوجوه وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة. ويظن هؤلاء أنهم يوافقون أحمد وإسحاق وغيرهما ممن ينكر على اللفظية وليس الأمر كذلك؛ فلهذا كان المنصوص عن الإمام أحمد وأئمة السنة والحديث أنه لا يقال: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ولا غير مخلوقة. ولا أن التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا؛ فإن اسم القول والكلام قد يتناول هذا وهذا؛ ولهذا يجعل الكلام قسيما للعمل ليس قسما منه في مثل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }. وقد يجعل قسما منه كما في قوله: { فوربك لنسألنهم أجمعين } { عما كانوا يعملون }. قال طائفة من السلف عن قول لا إله إلا الله ومنه قول النبي في الحديث الصحيح: { لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل } ولهذا تنازع أصحاب أحمد فيمن حلف لا يعمل اليوم عملا هل يحنث بالكلام؟ على قولين. ذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره. ولم تكن اللفظية الخلقية ينكرون كون القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن الله يتكلم بصوت؛ بل قد يقولون: القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه؛ فإن الله يتكلم بصوت كما نص عليه أحمد والبخاري وغيرهما من الأئمة وكما جاءت به الآثار؛ ولكن يقولون المنزل إلى الأرض من الحروف والمعاني ليس هو نفس كلام الله الذي ليس بمخلوق؛ بل ربما سموها حكاية عن كلام الله كما يقوله ابن كلاب أو عبارة عن كلام الله كما يقوله الأشعري وربما سموها كلام الله؛ لأن المعنى مفهوم عندهم. ولكن لما حدث أبو محمد بن كلاب وناظر المعتزلة بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولا - هم واضعوها: من امتناع تكلمه تعالى بالحروف وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك؛ لأن ذلك يستلزم أنه لم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث - اضطره ذلك إلى أن يقول: ليس كلام الله إلا مجرد المعنى وإن الحروف ليست من كلام الله وتابعه على ذلك أبو الحسن الأشعري؛ وإن تنازعا في أن الرب كان في الأزل آمرا ناهيا أو صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن. وفي أن الكلام هل هو صفة واحدة كما يقوله الأشعري أو خمس صفات كما يقوله ابن كلاب. وصار هؤلاء مخالفين لأئمة السنة والحديث في شيئين. ( أحدهما أن نصف القرآن من كلام الله والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم؛ بل خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ أو أحدثه جبريل أو محمد . وهؤلاء في كونهم جعلوا نصف القرآن مخلوقا موافقين لمن قال بخلقه؛ لكن هؤلاء يقولون: إن هذا النصف المخلوق كلام الله وأولئك يقولون: هو مخلوق منفصل عن الله وهو كلامه؛ لكن أولئك لا يجعلون لله كلاما متصلا به قائما بنفسه ولا معاني ولا حروفا. وهؤلاء يقولون: لله كلام قائم به متصل به هو معنى. فصار أولئك أشد بدعة في نفيهم حقيقة الكلام عن الله وفي جعلهم كلام الله مخلوقا. وهؤلاء أشد بدعة في إخراجهم ما هو من كلام الله عن أن يكون من كلام الله وصاروا في هذا موافقين الوحيد في بعض قوله لا في كله وهو قولهم: إن نصف القرآن ليس قول الله: بل قول البشر. وربما استدل بعضهم بأنه مضاف إلى الرسول فيكون هو أحدث حروفه ولم يتأمل هذا القائل فيرى أنه أضافه تارة إلى رسول هو جبريل وتارة إلى رسول هو محمد بقوله في الآية الأولى: { إنه لقول رسول كريم } { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } فهذا جبريل [ وقال في الآية الأخرى ]: { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } وهذا محمد فلو كانت إضافته إليه لأنه ابتدأ حروفه وأحدثها لم يصلح أن يضاف إلى كل منهما؛ لامتناع أن يكون كل منهما هو أحدث حروفه؛ ولأنه قال: { إنه لقول رسول } وهذا إخبار عن القرآن الذي هو بالمعنى أحق عندهم وعند أهل السنة أيضا فلو كان الرسول ابتدأه لكان القرآن من عنده لا من عند الله وإنما أضافه الله إلى الرسول لأنه بلغه وأداه وجاء به من عند الله: ولهذا قال: { لقول رسول } ولم يقل لقول ملك ولا نبي؛ بل جاء باسم الرسول ليتبين أنه واسطة فيه وسفير والكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا؛ لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا كما يقال مثل ذلك في جميع كلام الناس فكيف بكلام الله؟ وهذا على القول المشهور في التفسير المطابق لظاهر القرآن: أن الرسول في أحد الموضعين محمد وفي الآخر جبريل عليه السلام. وأما على قول طائفة جعلته في الموضعين جبريل فيكون الجواب هو الثاني والإثبات في الحقيقة حجة لمن يقول إنما يتكلم بكلام الله ويقول قوله؛ لأنه جعل الرسول يقول قول الله الذي أرسله به والمعنى يراد من هذا قطعا كما أريد منه اللفظ أيضا. وأيضا فإن هؤلاء جعلوا الكلام الذي يتصف الله به معنى واحدا وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة وإن عبر عنه بالسريانية كان هو الإنجيل وهذا مما أجمع جمهور العقلاء على أن فساده معلوم بالضرورة. والمعنى الثاني الذي خالفوا فيه أهل السنة والجماعة قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله لا حروفه ولا معانيه بل هو مخلوق عندهم ويقولون: هو عبارة عن المعنى القائم بالنفس؛ لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه؛ بخلاف الحكاية والمحكي وهذا فيه من زيادة البدع ما لم يكن في قول اللفظية من أهل الحديث الذين أنكر عليهم أئمة السنة وقالوا هم جهمية إذ جعلوا الحروف من إحداث الرسول وليست مما تكلم الله به بحال وقالوا: إنه ليس لله في الأرض كلام ولم يكن أيضا في اللفظية القدماء الذين يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق من يقول إن صوت العبد غير مخلوق أو أن الصوت القديم يسمع من العبد أو أن هذا الصوت صوت الله أو يسمع معه صوت الله؛ وإنما أحدث هذا أيضا المتطرفون منهم كما أحدث المتطرفون من أولئك أن حروف القرآن ليست كلام الله؛ فإن هاتين البدعتين الشنيعتين لم تكونا بعد ظهرتا في أولئك المنحرفين الذين أنكر الإمام أحمد وغيره قولهم من الطائفتين وأن القرآن ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وذلك المعنى إليه يعود كلام الله من التوراة والإنجيل والقرآن. والأخرى قد رأت حروف القرآن من كلام الله وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه يمتنع أن يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وعلموا أنا إذا ترجمنا التوراة بالعربية لم يصر معناها معنى القرآن وأن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة عارضها بعضها؛ لأن القرآن حرف وصوت واعتقد بعضهم أنه ليس القرآن والكلام إلا مجرد الحروف والأصوات وأولئك يقولون ليس الكلام إلا مجرد المعنى القائم بالنفس. وكلا هذين السلبين الجحودين الحادثين خلاف ما كان عليه الأئمة كالإمام أحمد وغيره من الأئمة وأعيان العلماء من سائر الطوائف. فإن الكلام عندهم اسم للحروف والمعاني جميعا كما أن الإنسان الناطق المتكلم اسم للجسد والروح جميعا ومن قال: إن الإنسان ليس إلا هذه الجملة المشاهدة فهو بمنزلة من قال ليس الكلام إلا الأصوات المقطعة ومن قال: إن الإنسان ليس إلا لطيفة وراء هذا الجسد فهو بمنزلة من قال: إن الكلام ليس إلا معنى وراء هذه الحروف والأصوات وكلاهما جحد لبعض حقائق مسميات الأسماء وإنكار لحدود ما أنزل الله على رسوله.

فصل عدل

ثم إن فروخ اللفظية النافية الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله تروي عن منازعيها أنهم يقولون: القرآن ليس هو إلا الأصوات المسموعة من العبد وإلا المداد المكتوب في الورق وإن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات؛ بل أنكروا ذلك وردوه وكذبوا من نقل عنهم: أن المداد قديم ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون كما يحكى عن أعيانهم مثل سكان بعض الجبال: أن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل. وفروخ اللفظية المثبتة الذين يقولون إن القرآن ليس إلا الحروف والصوت: تحكي عن منازعيها: أن القرآن ليس محفوظا في القلوب ولا متلوا بالألسن ولا مكتوبا في المصاحف وهذا أيضا ليس قولا لأولئك؛ بل هم متفقون على أن القرآن محفوظ في القلوب متلو بالألسنة مكتوب في المصاحف لكن جهالهم وغاليتهم إذا تدبروا حقيقة قول مقتصديهم - إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنه ليس إلا معنى واحد قائم بالذات وأصوات العباد ومداد المصحف يدل على ذلك المعنى وأنه ليس لله في الأرض كلام في الحقيقة وليس في الأرض إلا ما هو دال على كلام الله ولم يقل إلا ما هو دال على كلام الله وكلام الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتكلم الرب بمشيئته وقدرته؛ إلى أمثال ذلك من حقائق قول المقتصدين - أسقطوا حرمة المصحف وربما داسوه ووطئوه وربما كتبوه بالعذرة أو غيرها. وهؤلاء أشد كفرا ونفاقا ممن يقول الجلد والورق كلام الله؛ فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل وهؤلاء كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون. وأما أهل العلم بالمقالة وأهل الإيمان بالشريعة فيعظمون المصحف ويعرفون حرمته ويوجبون له ما أوجبته الشريعة من الأحكام فإنه كان في قولهم نوع من الخطأ والبدعة وفي مذهبهم من التجهم والضلال ما أنكروا به بعض صفات الله وبعض صفات كلامه ورسله وجحدوا بعض ما أنزل الله على رسله وصاروا مخانيث للجهمية الذكور المنكرين لجميع الصفات لكنهم مع ذلك متأولون قاصدون الحق. وهم مع تجهمهم هذا يقولون: إن القرآن مكتوب في المصحف مثل ما أن الله مكتوب في المصحف وإنه متلو بالألسن مثل ما أن الله مذكور بالألسن ومحفوظ في القلوب مثل ما أن الله معلوم بالقلوب وهذا القول فيه نوع من الضلال والنفاق والجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله [ ما فيه ] وهو الذي أوقع الجهال في الاستخفاف بحرمة آيات الله وأسمائه حتى ألحدوا في أسمائه وآياته. كما أن إطلاق الأولين: أنه ليس للقرآن حقيقة إلا الحروف والأصوات ولا يفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت القارئ وأن القرآن قديم أوقع الجهال منهم والكاذبين عليهم في نقلهم عنهم: أن أصوات العباد والمداد الذي في المصحف قديم وأن الحروف التي هي كلام الله هي المداد وإن كانوا لم يقولوا ذلك؛ بل أنكروه؛ كما فرق الله بين الكلمات والمداد في قوله: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فإن هؤلاء غلطوا غلطين غلطا في مذهبهم وغلطا في الشريعة. أما الغلط في تصوير مذهبهم فكان الواجب أن يقولوا: إن القرآن في المصحف مثل ما أن العلم والمعاني في الورق فكما يقال: العلم في هذا الكتاب يقال: الكلام في هذا الكتاب؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها. وأما الغلط في الشريعة فيقال لهم: إن القرآن في المصاحف مثل ما أن اسم الله في المصاحف؛ فإن القرآن كلام: فهو محفوظ بالقلوب كما يحفظ الكلام بالقلوب وهو مذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة وهو مكتوب في المصاحف والأوراق كما أن الكلام يكتب في المصاحف والأوراق والكلام الذي هو اللفظ يطابق المعنى ويدل عليه والمعنى يطابق الحقائق الموجودة.

فمن قال: إن القرآن محفوظ كما أن الله معلوم وهو متلو كما أن الله مذكور ومكتوب كما أن الرسول مكتوب فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين: فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها والمسلمون يعلمون الفرق بين قوله تعالى { إنه لقرآن كريم } { في كتاب مكنون } وبين قوله تعالى { وإنه لفي زبر الأولين }. فإن القرآن لم ينزل على أحد قبل محمد: لا لفظه ولا جميع معانيه ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه كما أنزل ذكر محمد والخبر عنه فذكر القرآن في زبر الأولين كما أن ذكر محمد في زبر الأولين وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. فالله ورسوله معلوم بالقلوب مذكور بالألسن مكتوب في المصحف كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا مذكور لهم مكتوب عندهم وإنما ذاك ذكره والخبر عنه وأما نحن فنفس القرآن أنزل إلينا ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون وهو في الصحف المطهرة. ولهذا يجب الفرق بين قوله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر } وبين قوله تعالى { وكتاب مسطور } { في رق منشور } فإن الأعمال في الزبر كالرسول وكالقرآن في زبر الأولين وأما الكتاب المسطور في الرق المنشور فهو كما يكتب الكلام نفسه والصحيفة فأين هذا من هذا؟ وذلك أن كل شيء فله أربع مراتب في الوجود: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان: ووجود في اللسان ووجود في البنان: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي. ولهذا كان أول ما أنزل الله من القرآن: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وذكر فيها أنه سبحانه معطي الوجودين فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } { خلق الإنسان من علق } فهذا الوجود العيني ثم قال: { اقرأ وربك الأكرم } { الذي علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } فذكر أنه أعطى الوجود العلمي الذهني وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه مستلزم لتعليم اللفظ والعبارة وتعليم اللفظ والعبارة مستلزم لتعليم المعنى فدل بذكره آخر المراتب على أولها [ لأنه ] لو ذكر أولها أو أطلق التعليم لم يدل ذلك على العموم والاستغراق. وإذا كان كذلك فالقرآن كلام والكلام له المرتبة الثالثة ليس بينه وبين الورق مرتبة أخرى متوسطة؛ بل نفس الكلام يثبت في الكتاب كما قال الله تعالى: { إنه لقرآن كريم } { في كتاب مكنون } وقال تعالى: { بل هو قرآن مجيد } { في لوح محفوظ } وقال: { يتلو صحفا مطهرة } { فيها كتب قيمة } وقال: { كلا إنها تذكرة } { فمن شاء ذكره } { في صحف مكرمة } { مرفوعة مطهرة } وقال: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس }. وقد يقال: إنه مكتوب فيها كما يطلق القول: إنه فيها كما قال تعالى: { والطور } { وكتاب مسطور } { في رق منشور } وأما الرب سبحانه أو رسوله أو غير ذلك من الأعيان فإنما في الصحف اسمه وهو من الكلام؛ ولهذا قال: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وإنما في التوراة كتابته وذكره وصفته واسمه وهي المرتبة الرابعة منه فكيف يجوز تشبيه كون القرآن أو الكلام في الصحف أو الورق بكون الله أو رسوله أو السماء أو الأرض في الصحف أو الورق ولو قال قائل: الله أو رسوله في الصحف أو الورق لأنكر ذلك؛ إلا مع قرائن تبين المراد كما في قوله: { وكل شيء فعلوه في الزبر } وفي قوله: { وإنه لفي زبر الأولين } فإن المراد بذلك ذكره وكتابته. والزبر جمع زبور والزبور فعول بمعنى مفعول أي مزبور أي: مكتوب فلفظ الزبور يدل على الكتابة وهذا مثل ما في الحديث المعروف { عن ميسرة الفجر: قال قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا - وفي رواية متى كتبت نبيا -؟ قال: وآدم بين الروح والجسد } رواه أحمد. فهذا الكون هو كتابته وتقديره وهو المرتبة الرابعة كما تقدم. فإن هذه المرتبة تتقدم وجود المخلوقات عند الله وعند من شاء من خلقه؛ وإن كانت قد تتأخر أيضا؛ ف { إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة } رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي ولهذا قال ابن عباس في قوله: { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } إن الله يأمر الملائكة بأن تنسخ من اللوح المحفوظ ما كتبه من القدر ويأمر الحفظة أن تكتب أعمال بني آدم فتقابل بين النسختين فتكونان سواء ثم يقول ابن عباس: ألستم قوما عربا؟ وهل تكون النسخة إلا من أصل؟. والتقدير والكتابة تكون تفصيلا بعد جملة. فالله تعالى لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي أنه قال: { يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد } وفي طريق آخر وفي رواية { ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح }. فأخبر في هذا الحديث الصحيح: أن الملك يؤمر بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد بعد خلق جسد ابن آدم وقبل نفخ الروح فيه. فكان ما كتبه الله من نبوة محمد الذي هو سيد ولد آدم بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن العرباض بن سارية { عن النبي قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته } وهذا وأمثاله من وجود الأعيان في الصحف.

وأما وجود الكلام في الصحف فنوع آخر؛ ولهذا حكى ابن قتيبة من مذهب أهل الحديث والسنة: أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجازا كما يقوله بعض المتكلمة وإحدى الجهميات التي أنكرها أحمد وأعظمها قول من زعم أن القرآن ليس في الصدور ولا في المصاحف وأن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى كما حكي له ذلك عن موسى ابن عقبة الصوري - أحد كتبة الحديث إذ ذاك؛ ليس هو صاحب المغازي؛ فإن ذلك قديم من أصحاب التابعين - فأعظم ذلك أحمد وذكر النصوص والآثار الواردة وذلك مثل قوله { استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها } ومثل قوله: { الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وغير ذلك. وليس الغرض هنا إلا التنبيه اللطيف. ومن قال: إن هذا شبه قول النصارى فلم يعرف قول النصارى ولا قول المسلمين أو علم وجحد؛ وذلك أن النصارى تقول: إن الكلمة وهي جوهر إله عندهم ورب معبود تدرع الناسوت واتحد به كاتحاد الماء واللبن أو حل فيه حلول الماء في الظرف أو اختلط به اختلاط النار والحديد والمسلمون لا يقولون إن القرآن جوهر قائم بنفسه معبود وإنما هو كلام الله الذي تكلم به ولا يقولون اتحد بالبشر. وأما إطلاق حلوله في المصاحف والصدور فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم يطلق ذلك ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك ويقول: هو فيه على وجه الظهور لا على وجه الحلول ومنهم من لا يثبته ولا ينفيه بل يقول: القرآن في القلوب والمصاحف لا يقال هو حال ولا غير حال؛ لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم ولا نزاع بينهم: أن كلام الله لا يفارق ذات الله وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته؛ بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه وينتقل إلى غيره؟ ولهذا قال الإمام أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن منه وقد جاء في الأحاديث والآثار: أنه منه بدأ ومنه خرج ومعنى ذلك أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه فقد قال سبحانه في حق المخلوقين: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله هو معنى تبليغه كما قال: { بلغ ما أنزل إليك من ربك } وقال تعالى: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه } وقال تعالى: { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } وقال النبي { نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } وقال {: بلغوا عني ولو آية }. والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف والعرض بالجوهر. بحيث تصير صفة له ولا هو فيه كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع؛ بل هو قسم آخر معقول بنفسه ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه؛ بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء بل ما في الصحيفة مطابق للفظه ولفظه مطابق لمعناه ومعناه مطابق للخارج وقد يعلم ما في نفسه بأدلة طبعية وبحركات إرادية لم يقصد بها الدلالة ولا يقول أحد إن ذلك الكلام للمتكلم مثل كلامه المسموع منه فلو كان الكلام إنما سمي بذلك لمجرد الدلالة لشاركه كل دليل وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ذلك. ولو كان ما في المصحف وجب احترامه لمجرد الدلالة وجب احترام كل دليل؛ بل الدال على الصانع وصفاته أعظم من الدال على كلامه وليست له حرمة كحرمة المصحف والدال على المعنى القائم بنفس الإنسان قد يعلم تارة بغير اختياره وقد يعلم بأصوات طبعية كالبكاء وقد يعلم بحركات لم يقصد بها الدلالة وقد يعلم بحركات يقصد بها الدلالة كالإشارة وقد يعلم باللفظ الذي تقصد به الدلالة.


فصل عدل

وصار هؤلاء الذين غلطوا مذهب اللفظية وزادوا فيه شرا كثيرا إذ قالوا: القراءة غير المقروء والتلاوة غير المتلو والكتابة غير المكتوب إنما يعنون بالقراءة أصوات القارئين وب الكتابة مداد الكاتبين ويعنون أن هذا غير المعنى القائم بالذات الذي هو كلام الله وإنما هو دلالة عليه وعبارة عنه؛ وليس عندهم إلا قراءة ومقروء فلم يبق إلا صوت ومداد ومعنى قائم بالذات؛ ليس ثم قرآن غير ذلك. وأسقطوا حروف كلام الله التي تكلم بها وحقيقة معاني القرآن التي في نفس الله تعالى وأسقطوا أيضا معاني القرآن التي في نفوس القارئين والمستمعين؛ فإنه لا ريب أن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف ومعاني حروف منطوقة ومسطورة؛ فإذا لم يكن عندهم إلا صوت العبد وحبر المصحف فأين المعاني؟ وأين حروف القرآن التي أنزلها الله؟ وإن كانت عندهم مخلوقة. وكيف يتصور أن لا يكون لجميع ما أنزل الله تعالى من الكتب إلا معنى واحد يكون أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وتكون هذه أوصافه لا أقسامه؟ فإن هؤلاء يقولون: إن معاني جميع كلام الله معنى واحد فمعنى: { تبت يدا أبي لهب } هو معنى { قل هو الله أحد } ومعنى التوراة هو معنى القرآن والإنجيل. ثم قد يجعلون معاني الكلام كلها الخبر وقد يجعلون معنى الخبر العلم ويجعلون العلم بهذا غير العلم بهذا. ولهذا كان أكثر العقلاء يقولون: فساد هذا معلوم بالاضطرار ويقولون: الأمر والنهي والخبر صفات إضافية للكلام وليست هي أنواع الكلام وأقسامه وكلام الله شأنه أعظم من شأن كلام المخلوقين والكلام الذي في المصحف هو من هذا القسم الأخير دون الأقسام المتقدمة فكيف إذا كان لذلك اللفظ من الخصائص ما قيل فيه: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }. لكن من الأشياء ما يدل على غيره بقصد منه [ ومنها ما يدل على ] غيره [ بغير قصد منه ] للدلالة كالجامدات فإن فيها مقاصد غير دلالتها على [ الخالق ] ومن الأشياء ما لا يقصد به إلا الدلالة. بحيث إذا ذكر ما يقصد بذكره ذكر مدلوله كالاسم مع مسماه فالمقصود من الاسم هو المسمى؛ فلهذا إذا ذكر الاسم كان المقصود به المسمى وكذلك اللفظ مع المعنى الذي هو مدلوله وكذلك الخط مع اللفظ فالمقصود من الخط إنما هو اللفظ والمقصود من الحروف المرسومة هو الحروف المنطوقة؛ ولهذا كان لفظ الحرف مقولا عليهما جميعا. فإذا قيل: الكلام من الكتاب عرف أن المقصود مما في الكتاب هو الكلام دون غيره ولهذا كان لهذا من الاختصاص بالحرمة ما ليس لما يقصد منه الدلالة وغير الدلالة والله أعلم.

فصل عدل

وصار أولئك الذين غلطوا مذهب اللفظية المثبتة الذي يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ويقولون: التلاوة هي المتلو والكتابة هي المكتوب وما عندهم من القرآن إلا ما توهموا من الحروف والأصوات يلتزم أحدهم: أن الصوت القديم يسمع من القارئ ويوهمون المخالف لهم أن عين الصوت المسموع من العبد هو عين الصوت الذي تكلم الله به وينكرون معاني حقائق القرآن أن تكون من كلام الله ولا يجعلون المعنى من كلام الله وكان السلف يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق والقرآن حيث تصرف فهو كلام الله غير مخلوق. واللفظية المبتدعة المثبتة الذين أنكر عليهم الإمام أحمد وغيره إنما قالوا لفظنا به غير مخلوق. ولم يقولوا قديم. فجاءت المغلطة لمذهبهم فقالوا: لفظنا به قديم ولفظنا به أصواتنا فأصواتنا به قديمة. والإمام أحمد وسائر الأئمة من أصحابه الذين صحبوه وغيرهم ومن بعدهم من الأئمة ينكرون هذه المراتب الأربع فإنهم ينكرون أن يقال: لفظي به غير مخلوق فكيف لفظي به قديم؟ فكيف صوتي به غير مخلوق؟ فكيف صوتي به قديم؟ أو بعض الصوت المسموع قديم؟ ونحو ذلك.


الكيلانية لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة