الكيلانية/الصفحة الثانية

الكيلانية المؤلف ابن تيمية
الصفحة الثانية



فصل

فلما كان في الأمم كفار ومنافقون يكفرون ببعض الرسالة دون بعض إما في القدر وإما في الوصف كما أن فيهم كفار ومنافقون يكفرون بأصل الرسالة وكان في الكفار بأصل الرسالة من قال: إن الرسول شاعر وساحر وكاهن ومعلم ومجنون ومفتر كما كان رئيس قريش وفيلسوفها وحكيمها الوليد بن المغيرة الوحيد المذكور في قوله تعالى { ذرني ومن خلقت وحيدا } { وجعلت له مالا ممدودا } { وبنين شهودا } { ومهدت له تمهيدا } { ثم يطمع أن أزيد } { كلا إنه كان لآياتنا عنيدا } { سأرهقه صعودا } { إنه فكر وقدر } { فقتل كيف قدر } { ثم قتل كيف قدر } { ثم نظر } { ثم عبس وبسر } { ثم أدبر واستكبر } { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } { إن هذا إلا قول البشر }. فإنه صنع صنع الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره أولا: الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلى المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط ثم قدر ثانيا والتقدير هو القياس وهو الانتقال من المبادئ إلى المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي؛ ولعمري إنه لصواب إذا صحت مقدماته وإن كانت النتيجة في الأغلب أمورا كلية ذهنية ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان كالعلوم الرياضية من الأعداد والمقادير؛ فإن العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن لكن أنى وأكثر مقدماته في الإلهيات دعاوى يدعى فيها بعموم؟ وأن القضية من المسلمات بلا حجة ومتى لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب وهم يلبسون المهملات التي هي في معنى الجزئيات بالكليات العامة المسلمات أو يدعى فيها العموم بنوع من قياس التمثيل. ومعلوم أنه لا بد في كل قياس من قضية كلية وعامة القضايا الكلية التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة؛ إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه كما يقولون: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وليس معهم إلا تشبيه خالق السموات والأرض ورب العالمين بالطبائع كطبيعة الماء والنار مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات وفي المنطق أيضا الذين يجعلون قضية الأنواع مركبة منه وهو الجنس والفصل لا حقيقة لها ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع. وبينا أن ما يثبتونه من العقليات التي هي الجواهر العقلية المجردة عن المادة وهي العقل والنفس والمادة والصورة التي ليست بجسم ولا عرض لا حقيقة لها في الخارج وإنما تقدر في الأذهان لا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الواحد الذي يصفون به واجب الوجود ومن الواحد الذي يجعلون الأنواع تتركب منه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان والقياس العقلي الذي يحتجون به لا بد فيه من قضية كلية. والقياس نوعان قياس الشمول وقياس التمثيل . والناس متنازعون في مسمى القياس فقيل هو حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول كما ذكر ذلك أبو حامد وأبو محمد المقدسي وغيرهما وقيل: هو حقيقة في عكس ذلك كما قاله ابن حزم وغيره من نفاة قياس التمثيل وقيل: بل اسم القياس يتناولهما وهذا قول جمهور الناس. واسم القياس العقلي يدخل فيه هذا وهذا؛ لكن من الناس من ظن أن قياس التمثيل لا يفيد اليقين ولا يستعمل في العقليات كما ذهب إليه أبو المعالي وأبو حامد والرازي وأبو محمد والآمدي وآخرون من أهل المنطق. وأما الجمهور فعندهم كلا القياسين سواء وهذا هو الصواب؛ فإن مآل القياسين إلى شيء واحد وإنما يختلف بترتيب الدليل. فإن القائل إذا قال: النبيذ المتنازع فيه حرام؛ لأنه مسكر فكان حراما قياسا على خمر العنب فلا بد له أن يثبت أن السكر هو مناط التحريم وهو الذي يسمى في قياس التمثيل مناطا وعلة . وأمارة ومشتركا ووضعا ونحو ذلك. ولا بد في القياس الصحيح من أن يقيم دليلا على أن السكر مناط التحريم بحيث إذا وجد السكر وجد التحريم فإذا صاغ الدليل بقياس الشمول فإن النبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالسكر في هذا النظم هو الحد الأوسط المكرر وهو العلة في قياس التمثيل ولا بد له في هذا القياس من أن يثبت هذه القضية الكلية الكبرى وهي قوله: كل مسكر حرام فما به ثبتت هذه القضية في هذا النظم يثبت به أنه مناط التحريم في ذلك النظم لا فرق بينهما. وإذا قال القائل: إثبات تأثير الوصف وكونه مناط الحكم هو عمدة القياس وهو جواب سؤال المطالبة وبيان كون الوصف بالشمول هو مناط الحكم وهذا لا يثبت إلا بأدلة ظنية. قيل له: وإثبات عموم القضية الكبرى في قياس الشمول هو عمدة القياس؛ فإن الصغرى في الغالب تكون معلومة كما يكون ثبوت الوصف في الفرع معلوما وإذا كان ثبوت الوصف في الفرع قد يحتاج إلى دليل كما قيل تحتاج المقدمة الصغرى إلى دليل وإثبات المقدمة الكبرى لا يتأتى إلا بأدلة ظنية ونفس ما به يثبت عموم القضية يثبت تأثير الوصف المشترك لا فرق بينهما أصلا واستعمال كلا القياسين في الأمور الإلهية لا يكون إلا على وجه الأولى والأحرى. وبهذه الطريقة جاء القرآن وهي طريقة سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه لا يماثله شيء من الموجودات في قياس التمثيل ولا أن يدخل في قياس شمول تتماثل أفراده بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } وقال تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم }. وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن ما يستفاد ب القياس الشمولي في عامة الأمور قد يستفاد بدون ذلك فتعلم أحكام الجزئيات الداخلة في القياس بدون معرفة حكم القضية الكلية كما إذا قيل: الكل أعظم من الجزء والضدان لا يجتمعان فما من كل معين وضدين معنيين إلا وإذا علم أن هذا جزء هذا وأن هذا ضد هذا علم أن هذا أعظم من هذا وأن هذا لا يجامع هذا بدون أن يخطر بالبال قضية كلية أن كل ضدين لا يجتمعان وأن كل كل فهو أعظم من جزء. وكذلك إذا قيل النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من نقيضين يعرف أنهما نقيضان إلا ويعرف أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان بدون أن يستحضر أن كل نقيضين لا يجتمعان [ ولا يرتفعان ]. فعامة المطالب يستغنى فيها عن القياس المنطقي المتضمن للكبرى الذي لا بد فيه من قضية كلية [ و] الأمور المعينات لا تعلم بمجرد القياس العقلي وإنما يعلم بالقياس القدر المشترك بينها وبين غيرها وهم يسلمون ذلك وبينا أن الأدلة الدالة على الصانع هي آيات تدل بنفسها على نفسه المقدسة وبينا الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس وأن الأدلة أكمل وأنفع وطريقة القياس تابعة لها ودونها في المنفعة والكمال والقرآن جاء بهذه وهذه ومعرفة الإلهيات والنبوات وغيرها فتلك الطريقة أكمل وأتم. وهؤلاء يزعمون أنه لا ينال مطلوب فطري إلا بطريقة القياس الذي لا بد فيه من قضية كلية والقضية الكلية لا تفيد إلا أمرا كليا عقليا لا تفيد معرفة شيء معين وكل موجود فهو معين فكيف يقول عاقل مع هذا أنه لا ينال علم إلا بهذه الطريق ثم إنهم في ضلالهم يظنون أن علم الأنبياء بل وعلم الرب سبحانه إنما حصل بواسطة القياس المنطقي وأن النبي له قوة حدسية يظفر بالحد الأوسط في القياس المنطقي بدون معلم فيكون أكمل من غيره فيجعلون علمه بالغيب من هذا الباب ولم يدرك بمثل هذا القياس علوم طبيعية أو حسابية ونحو ذلك فمن أين أنه لا ينال علم إلا به؟ ومن أين أنه لا مواد يقينية إلا ما يدعيه المدعي مما عنده من الحدسيات المعتادة الظاهرة والباطنة والبديهيات المعتادة والمتواترات والمجربات المعتادة. والحدسيات المعتادة والحس الباطن والظاهر والتجربة ونحو ذلك لا يعلم بمجرده إلا أمر معين جزئي وذلك لا يصلح أن يكون مقدمة في القياس ولكن يعلم في العموم إما بواسطة قياس تمثيل وإما بعلم ضروري يحدثه الله في القلب ابتداء وإذا أحدث علما ضروريا عاما لأفراد فإحداث العلم ببعض تلك الأفراد سهل فقل أن يستفاد بطريقهم علم بنتيجة إلا والعلم بالنتيجة فيه ممكن بالطريق الذي به عرفت المقدمات أو أسهل فلا يكون في قياسهم إلا زيادة تطويل وتهويل وتضليل. وقد بسطنا الكلام على المنطق اليوناني بما فيه من حق وباطل ونافع وضار في غير هذا الموضع. ونفي العلم إلا بهذا القياس ونفي كون القياس يقينيا إلا بهذه المقدمات قول بلا علم وتكذيب بما لم يحط المكذب بعلمه؛ ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية قياس الأولى كما قال الله تعالى: { ولله المثل الأعلى } إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولا يتماثلان في شيء من الأشياء بل يعلم أن كل كمال - لا نقص فيه بوجه - ثبت للمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه وأمثال هذه الأقيسة العقلية التي من نوع الأمثال المضروبة في القرآن ولله المثل الأعلى وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فلما كان الكفار بالرسالة على ما ذكر جاء في الكفار ببعضها من شاركهم في بعض ذلك: فأنكرت الجهمية أن يكون الله يتكلم أو يقول أو يحب أو يبغض وأنكروا سائر صفاته التي جاءت بها الرسل فأنكروا بعض حقيقة الرسالة التي هي كلام الله وأنكروا بعض ما في الرسالة من صفات الله. وأول من أظهر ذلك في الإسلام - وإن كان ذلك موجودا قبل الإسلام في أمم أخرى - الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان وكان على ما قيل من أهل حران وكان فيهم أئمة الفلاسفة ومنهم تعلم أبو نصر الفارابي كثيرا مما تعلم من الفلسفة على ما ذكره عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فضحى بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين وهم بقايا التابعين في وقته: مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه على ما فعل وشكروا ذلك فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضح بالجعد ابن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما - تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا - ثم نزل فذبحه. وبنوا ذلك على قاعدة مبتدعة الصابئين المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما وهم في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية؛ فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته؛ ولهذا وافقوا فرعون في تكذيبه لموسى بأن ربه فوق السموات حيث قال: { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } بخلاف محمد الذي صدق موسى لما عرج به إلى ربه وأخبر أنه وجد موسى هناك وأنه جعل يختلف بين ربه وبين موسى فمحمد صدق موسى في أن ربه فوق السموات وفرعون كذبه في ذلك. والناس إما محمدي موسوي وإما فرعوني؛ إذ فرعون كذب موسى في أن الله فوق وكذبه في أن الله كلمه كما أنكر وجود الصانع ومحمد صدق موسى في هذا كله. وهؤلاء الصابئة المحضة من المتفلسفة يقولون: إن الله ليس له كلام في الحقيقة؛ لكن كلامه - عند من أظهر الإقرار بالرسل منهم - ما يفيض على نفوس الأنبياء وهو أنه محدث في نفوسهم من غير أن يكون في الخارج عن نفوسهم لله عندهم كلام وهكذا كان الجهم يقول أولا: إن الله لا كلام له ثم احتاج أن يطلق أن له كلاما لأجل المسلمين فيقول: هو مجاز؛ ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعلمون مقصودهم وأن غرضهم التعطيل وأنهم زنادقة والزنديق المنافق. ولهذا تجد مصنفات الأئمة يصفونهم فيها بالزندقة كما صنف الإمام أحمد الرد على الزنادقة والجهمية وكما ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح ب كتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وتقول الصابئة المحضة - الذين آمنوا في الظاهر وآمنوا في الباطن ببعض الكتاب - كلام الله اسم لما يفيض على قلب النبي من العقل الفعال أو غيره وملائكة الله اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية وقد يقولون: إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتمثل في نفسه من الصور الخيالية كما يراه النائم؛ ولهذا يقول هؤلاء: إن خاصة النبي التخييل وأن الأنبياء أظهروا خلاف ما أبطنوه لمصلحة العامة ولم يفيدوا بكلامهم علما؛ لكن تخييلا ينتفع به العامة ويجعلون هذا من أفضل الأمور ويمدحون الأنبياء بذلك ويعظمونهم وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع أخر. وعندهم ليس خارجا عن نفس النبي كلام ولا ملك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة والصابئة المشركين وزعموا أنهم مؤمنون وقالوا إنهم يجمعون بين النبوة والفلسفة كما يفعل الفارابي وابن سينا وغيرهما من المتفلسفة والقرامطة الباطنية من الإسماعيلية ونحوهم الذين أخذوا معاني المتفلسفة الروم والفرس فأخرجوها في قالب التشيع والرفض. والإمامية والزيدية وغيرهم من الشيعة يعلمون أنهم كفار. ومثل ابن سبعين وأمثاله ممن أظهر التصوف على طريقة هؤلاء فهو يأخذ معانيهم يكسوها عبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي ونحوهم - رضي الله عنهم - كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء؛ فإن قول هؤلاء الزنادقة - وإن كان فيه إيمان من وجه آخر - فهؤلاء موافقون في الحقيقة لمقدمهم الوحيد الذي قال: { إن هذا إلا قول البشر } لكن ذاك كفر به كله ظاهرا وباطنا وهؤلاء قد يؤمنون به ظاهرا وقد يؤمنون باطنا ببعض صفاته: من أنه مطاع عظيم وأنه رئيس النوع الإنساني وأن هذا الكلام الذي جاء به كلام عظيم القدر صادر عن نفس صافية كاملة العلم والعمل لها ثلاث خصائص تتفرد بها عن غيرها. خصيصة قوة الحدس والعلم وخصيصة قوة التأثير في العالم السفلي بنفسه وخصيصة قوة التخيل المطابق للحقائق بحيث يسمع في نفسه الأصوات ويرى من الصور ما يكون خيالا للحقائق وأنه يجوز إضافة كلامه إلى الله وتسميته كلام الله حيث هو أمر به أمرا خياليا. وفي الحقيقة عندهم ما يفيض على سائر النفوس الصافية من العلوم والكلمات هي أيضا كلام الله مثل ما أنه كلام الله؛ لكن هو أشرف وخطابه دل على أنه رسول الخلق تجب عليهم طاعته التي أخبرت بها الرسل لكن يطلقون عليه أنه متكلم؛ ولهذا يقولون: إن النبوة مكتسبة فطمع غير واحد منهم أن يصير نبيا كما طمع السهروردي وابن سبعين وغيرهما من الملحدين. وقد بينا أصول أقوالهم وفسادها في غير هذا الموضع مثل كلامنا على إبطال قولهم: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية. وأما المعتزلة ونحوهم فيوافقونهم في أن الله لا يتكلم في الحقيقة التي يعلم الناس أن صاحبها يتكلم [ بل كلامه ] منفصل عنه ويزعمون أن ذلك حقيقة وليس كلامه عندهم إلا أنه خلق في الهواء أو غيره أصواتا يسمعها من يشاء من ملائكته وأنبيائه من غير أن يقوم بنفسه كلام لا معنى ولا حروف وهم يتنازعون في ذلك المخلوق هل هو جسم أو عرض أو لا يوصف بواحد منهما. ولما ظهر هؤلاء تكلم السلف من التابعين وتابعيهم في تكفيرهم والرد عليهم بما هو مشهور عند السلف واطلع الأئمة الحذاق من العلماء على أن حقيقة قول هؤلاء هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم لا يفهمون ذلك كما اطلعوا على أن حقيقة قول القرامطة والإسماعيلية هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم إنما يدينون بالرفض وجرت فتنة الجهمية كما امتحنت الأئمة وأقام الإمام أحمد إمام السنة وصديق الأمة في وقته وخليفة المرسلين ووارث النبيين فثبت الله به الإسلام والقرآن وحفظ به على الأمة العلم والإيمان ودفع به أهل الكفر والنفاق والطغيان الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. فاستقر أهل السنة وجماهير الأمة وأهل الجماعة وأعلام الملة في شرقها وغربها على الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله وجاء به خاتم النبيين مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وهو أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله وإن كلام الله لا يكون مخلوقا منفصلا عنه كما لا يكون كلام المتكلم منفصلا عنه؛ فإن هذا جحود لكلامه الذي هو رسالته ودفع لحقيقة ما أنبأت به الرسل وعلمته أممهم وإلحاد في أسماء الله وآياته وتمثيل له بالمعدوم والموات؛ فإن الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحو ذلك صفات كمال والرب تعالى أحق بكل كمال فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه كيف وهو خالق الكمال للكاملين. وأيضا فمن لم يتصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك فإما أن يكون قابلا للاتصاف بذلك ولم يتصف به أو غير قابل للاتصاف به. فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفا بصفات النقص: كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء؛ فإنهم متفقون على أن القابل لهذا ولهذا متى لم يتصف بأحدهما اتصف بالآخر وإن قيل: إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها. فالحيوان الذي يكون تارة سميعا وتارة أصم وتارة بصيرا وتارة أعمى وتارة متكلما وتارة أخرس أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا. فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص. وذلك أن المتفلسفة اصطلحوا على تقسيم المتقابلين بالنفي والإثبات إلى النقيضين وإلى ما يسمونه العدم والملكة ف العدم عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمى والخرس؛ فإنه عدم البصر والكلام عما من شأنه أن يكون بصيرا متكلما. فأما الجماد فلا يسمونه لا بهذا ولا بهذا. وشبهتهم لبست على طائفة من أهل النظر فظنوا أنه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن يتصف بصفات النقص لأنهما متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين. فيقال لهم: هذا أولا اصطلاح لكم وإلا فغيركم يسمي الجماد ميتا ومواتا ونحو ذلك كما في مثل قوله: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء }. ويقال لهم: ثانيا النظر في المعاني العقلية ومعلوم أن عدم هذه الصفات يستلزم النقص الثابت بعدمها. ويقال لهم ثالثا : إذا قلتم لا يتصف بواحد منهما لكونه لا يقبل ذلك فهذا النقص أعظم من نقص العمى والصمم والبكم؛ فإنما لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص ممن هو قابل لها يمكن اتصافه بها؛ فإنه منه بدأ؛ لا كما يقوله الصابئة ومن وافقهم من الجهمية: إنه ابتدأ من نفس النبي أو من العقل الفعال أو من الهواء بل هو تنزيل من حكيم حميد وإنه إليه يعود إذا أسري به من المصاحف والصدور. وصار الإمام أحمد علما لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف: كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه؛ لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث والأصول النبوية - ممن أراد أن يحرفها ويبدلها - ولم يشرع دينا لم يأذن الله به والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان حتى إن أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم؛ لكن جمع متفرقها وجاهد مخالفها وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة. والجهمية هم نفاة صفات الله المتبعون للصابئة الضالة. وصارت فروع التجهم تجول في نفوس كثير من الناس. فقال بعض من كان معروفا بالسنة والحديث: ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق بل نقف وباطن أكثرهم موافق للمخلوقية ولكن كان المؤمنون أشد رهبة في صدورهم من الله. وطائفة أخرى قالت: نقول كلام الله الذي لم ينزله غير مخلوق وأما القرآن الذي أنزله على رسوله وتلاه جبريل ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق وهؤلاء هم اللفظية . فصارت الأمة تفزع إلى إمامها إذ ذاك فيقول لهم أحمد: افترقت الجهمية على ثلاث فرق فرقة تقول: القرآن مخلوق وفرقة تقول كلام الله وتسكت وفرقة تقول: ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة. فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن الذي نزل به جبريل على قلب رسول الله هو قرآن مخلوق لم يتكلم الله به وكان لهؤلاء شبهة كون أفعالنا وأصواتنا مخلوقة ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا. وربما قال بعضهم ما عندنا إلا ألفاظنا وتلاوتنا وما في الأرض قرآن إلا هذا. وهذا مخلوق. فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة. وردوا باطلا بباطل وقابلوا الفاسد بالفاسد فقالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة وألفاظنا به غير مخلوقة؛ لأن هذا هو القرآن. والقرآن غير مخلوق ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة وبين حال المسمى إذا كان مجردا وحاله إذا كان مقرونا مقيدا. فأنكر الإمام أحمد أيضا على من قال: إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة وأمر بهجران هؤلاء كما جهم الأولين وبدعهم. والنقل عنه بذلك من رواية ابنه عبد الله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير من أصحابه وأتباعه. وقد قام أخص أتباعه أبو بكر المروذي بعد مماته في ذلك وجمع كلامه وكلام الأئمة من أصحابه وغيرهم: مثل عبد الوهاب الوراق والأثرم وأبي داود السجستاني والفضل بن زياد ومثنى بن جامع الأنباري ومحمد بن إسحاق الصنعاني ومحمد بن سهل بن عسكر وغير هؤلاء من علماء الإسلام. وبين بدعة هؤلاء الذين يقولون إن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة. وقد ذكر ذلك الخلال في كتاب السنة وبسط القول في ذلك. قال الخلال: أخبرني أبو بكر المروذي قال: بلغ أبا عبد الله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين: أن لفظي بالقرآن غير مخلوق قال أبو بكر: فجاءنا صالح بن أحمد فقال: قوموا إلى أبي فجئنا فدخلنا على أبي عبد الله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه فقال: اذهب فجئني بأبي طالب فجئت به فقعد بين يدي أبي عبد الله وهو يرعد فقال: كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال: إنما حكيت عن نفسي قال: فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي فما سمعت عالما قال هذا. قال أبو عبد الله: القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فقيل لأبي طالب: اخرج وأخبر أن أبا عبد الله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق. فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدثين فأخبرهم: أن أبا عبد الله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق. ومع هذا فكل واحدة من الطائفتين الذين يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق والذين يقولون لفظنا وتلاوتنا مخلوقة ينتحل أبا عبد الله وتحكي قولها عنه وتزعم أنه كان على مقالتها لأنه إمام مقبول عند الجميع؛ ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد. فمحمد بن داود المصيصي أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتبعهم طائفة على ذلك: كأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي عبد الله بن منده وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري وأبي العلاء الهمداني وأبي الفرج المقدسي وغير هؤلاء يقولون: إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ويروون ذلك عن أحمد وأنه رجع إلى ذلك كما ذكره أبو نصر في كتابه الإبانة وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه وأهل بيته والعلماء الثقات لا سيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه حتى رده أحمد عن ذلك وغضب عليه غضبا شديدا. وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه ومنهم من حرفها لفظا وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف فأما الذين ثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله فإنه ذكر في مقالات أهل السنة والحديث إنهم ينكرون على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق ومن قال: لفظي به غير مخلوق وأنه يقول بذلك. لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك بأنه منع أن يقال: إن القرآن يلفظ به وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني والقاضي أبو يعلى وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله. ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك منهم من قال: المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه. ومنهم من قال: بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي وابن الزاغوني وأمثالهما؛ فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقا حروفه. أو معانيه أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله أو أن يطلق القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئا من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق. فضلا عن أن يكون قديما وكلام أحمد في مسألة التلاوة والإيمان والقرآن من نمط واحد منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق ولما فيه من الذريعة ومنع أيضا إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال.

ولما كان أحمد قد صار هو إمام السنة كان من جاء بعده ممن ينتسب إلى السنة ينتحله إماما كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب الإبانة وغيره فقال إن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والخوارج والروافض والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون ولما خالفه مجانبون؛ فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين وذكر جملا من المقالات. فلهذا صار من بعده متنازعين في هذا الباب. فالطائفة الذين يقولون لفظنا وتلاوتنا غير مخلوقة ينتسبون إليه ويزعمون أن هذا آخر قوليه أو يطعنون فيما يناقض ذلك عنه أو يتأولون كلامه بما لم يرده. والطائفة الذين يقولون إن التلاوة مخلوقة والقرآن المنزل الذي نزل به جبريل مخلوق وإن الله لم يتكلم بحروف القرآن: يقولون: إن هذا قول أحمد وأنهم موافقوه كما فعل ذلك أبو الحسن الأشعري. فيما ذكره عن أحمد وفسر به كلامه وذكر أنه موافقه وكما ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في تنزيه أصحابه من مخالفة السنة وأئمتها كالإمام أحمد وكما فعله أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المعروف في ذلك وكما فعله أبو ذر الهروي والقاضي عبد الوهاب المالكي وكما فعله أبو بكر البيهقي في الاعتقاد في مناقب الإمام أحمد. وروي عنه أنه قال لفظي بالقرآن مخلوق وتأول ما استفاض عنه من الإنكار على من قال لفظي بالقرآن [ غير ] مخلوق على أنه أراد الجهمي المحض الذي يزعم أن القرآن الذي لم ينزل مخلوق. وكذلك أيضا افترى بعض الناس على البخاري الإمام صاحب الصحيح أنه كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق وجعلوه من اللفظية حتى وقع بينه وبين أصحابه: مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم بسبب ذلك وكان في القضية أهواء وظنون حتى صنف كتاب خلق الأفعال وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه الصحيح من أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يتكلم بصوت وينادي بصوت. وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه وبين الفرق بين الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد وأن الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من القارئ وبين دلائل ذلك وأن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة والله تعالى بفعله وكلامه غير مخلوق. وقال في قوله: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } إن حدثه ليس كحدث المخلوقين. وذكر قول النبي { إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } وذكر عن علماء السلف: أن خلق الرب للعالم ليس هو المخلوق؛ بل فعله القائم به غير مخلوق وذكر عن نعيم بن حماد الخزاعي: أن الفعل من لوازم الحياة وأن الحي لا يكون إلا فعالا. إلى غير ذلك من المعاني التي تدل على علمه وعلم السلف بالحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول. وذكر أن كل واحدة من طائفتي اللفظية المثبتة والنافية تنتحل أبا عبد الله وأن أحمد بن حنبل كثير مما ينقل عنه كذب وأنهم لم يفهموا بعض كلامه لدقته وغموضه وأن الذي قاله وقاله الإمام أحمد هو قول الأئمة والعلماء وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة. ورأيت بخط القاضي أبي يعلى - رحمه الله - على ظهر كتاب العدة بخطه قال: نقلت من آخر كتاب الرسالة للبخاري في أن القراءة غير المقروء. وقال: وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلها يخالف بعضها بعضا والصحيح عندي أنه قال ما سمعت عالما يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق قال وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين. قال أبو عبد الله البخاري قال ابن حنبل اللفظي الذي يقول: القرآن بألفاظنا مخلوق. وكان أيضا قد نبغ في أواخر عصر أبي عبد الله من الكلابية ونحوهم - أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري: الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهو من متكلمة الصفاتية وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة؛ لكن فيها نوع من البدعة؛ لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته؛ ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب وإفساده لمذاهب نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها؛ وإن كانوا قد شركوهم في بعض أصولهم الفاسدة: التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول. وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي ثم أبو الحسن الأشعري وأبو الحسن بن مهدي الطبري وأبو العباس الضبعي وأبو سليمان الدمشقي وأبو حاتم البستي وغير هؤلاء: المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث المتلقبين بنظار أهل الحديث. وسلك طريقة ابن كلاب - في الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة والصفات الاختيارية وأن الرب يقوم به الأول دون الثاني - كثير من المتأخرين: من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالتميميين أبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل التميمي وابن ابنه رزق الله التميمي وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد من الاعتقاد. وكذلك سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه السالمية والقاضي أبو يعلى وأتباعه: كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وهي طريقة أبي المعالي الجويني وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم؛ لكنهم افترقوا في القرآن وفي بعض المسائل على قولين - بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره ابن كلاب - كما قد بسط كلام هؤلاء في مواضع أخر. والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب ويحذرون عن أصحابه وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية. ولما ظهر هؤلاء ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول: إن الله لم يتكلم بصوت فأنكر أحمد ذلك وجهم من يقوله وقال: هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت وكذلك أنكر على من يقول إن الحروف مخلوقة قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة : قلت لأبي: إن ههنا من يقول إن الله لا يتكلم بصوت فقال: يا بني هؤلاء جهمية زنادقة إنما يدورون على التعطيل وذكر الآثار في خلاف قولهم. وكذلك البخاري صاحب الصحيح وسائر الأئمة أنكروا ذلك أيضا وروى البخاري في آخر الصحيح وفي كتاب خلق الأفعال ما جاء في ذلك من الآثار وبين الفرق بين صوت الله الذي يتكلم به وبين أصوات العباد بالقرآن موافقة منه للإمام أحمد وغيره من الأئمة حيث بين أن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار وأن ذلك ليس صوت العبد بالقراءة؛ بل ذلك هو صوت العبد كما قد نص على ذلك كله في مواضع وعامة أئمة السنة والحديث على هذا الإثبات والتفريق: لا يوافقون قول من يزعم أن الكلام ليس فيه حرف ولا صوت ولا يوافقون قول من يزعم أن الصوت المسموع من القراء وألفاظهم قديمة ولا يقولون: إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات. وقد كتبت كلام الإمام أحمد ونصوصه وكلام الأئمة قبله وبعده في غير هذا الموضع؛ فإن جواب هذه المسألة لا يحتمل البسط الكثير؛ ولم يكن في كلام الإمام أحمد ولا الأئمة أن الصوت الذي تكلم الله به قديم؛ بل يقولون لم يزل الله متكلما وقد يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء بما شاء كما يقول ذلك الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما.


الكيلانية لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة