تفسير المراغي/سورة الانشقاق
هي مكية، وآياتها خمس وعشرون، نزلت بعد سورة الانفطار.
ومناسبتها لما قبلها - أنه في السابقة ذكر مقر كتب الحفظة، وفى هذه ذكر عرضها يوم القيامة.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 15]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا (11) وَيَصْلى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
شرح المفردات
انشقت: أي تشقّقت بالغمام كما جاء في قوله: « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » وأذنت لربها: أي استمعت له كما قال:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وحقّت: أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت
مدت: أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وألقت ما فيها: أي ألقت ما في جوفها من الموتى والكنوز، وتخلت: أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شيء، كادح: أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم:
ومضت بشاشة كلّ عيش وبقيت أكدح للحياة وأنصب
فملاقيه: أي فملاق له عقب ذلك، ينقلب: أي يرجع، أهله: أي عشيرته المؤمنين، وراء ظهره: أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره، والثبور: الهلاك أي ينادى ويقول: وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك، ويصلى: أي يقاسى، وسعيرا: أي نارا مستعرة، مسرورا: أي فرحا، يحور: أي يرجع قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والمراد أنه لن يرجع إلى الله، بلى: أي بلى يحور ويرجع.
المعنى الجملي
بين سبحانه في أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما في جوفها - يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذ فريقين:
(1) فريق الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.
(2) فريق الكفرة والعصاة، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
الإيضاح
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لفساد تركيبها واختلال نظامها، حينما يريد الله خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر في مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتثل ما أمر به، وفي الحديث: « ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن ».
(وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تمتثل لأنها مخلوقة من مخلوقاته وهي في قبضته، فإن أراد تبديد نظامها فعل ولم يكن لها أن تعصى إرادته.
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي وإذا اضطربت الأرض ودكت جبالها، وتقطعت أوصالها، وفقدت ما بينها من التماسك، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن بل تمدّ مدّ الأديم العكاظي كما روى عن ابن عباس (والأديم: الجلد، والعكاظي: المدبوغ في عكاظ) والمراد أنه لا انشقاق فيها ولا اعوجاج.
(وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما في جوفها من الناس والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها.
ونحو هذا قوله: « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها » وقوله: « وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ » وقوله « إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ».
(وَتَخَلَّتْ) أي خلت من جميع ما في جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهي في ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته.
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها في قبضة القدرة الإلهية تصرّفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء.
وجواب « إِذَا » الذي صدّرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره - ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم، تفوزوا بالنعيم.
وقصارى ذلك - وصف أحوال العالم يوم القيامة « يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها في هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا في حياتهم من عمل فيجازيهم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة السوءى، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) أي أيها الإنسان، إنك عامل في هذه الحياة ومجدّ في عملك، ومبالغ في إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به وتلهو عنه، وكل خطوة في عملك فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس.
ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله.
والناس حينئذ صنفان:
(1) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) أي فأما من عرض عليه سجلّ أعماله وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرّف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.
وقد روى عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « اللهم حاسبني حسابا يسيرا، قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش الحساب فقد هلك ».
ومن حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين مسرورا مبتهجا قائلا: « هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ».
(2) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا. وَيَصْلى سَعِيرًا) أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، ومدّ اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر في الدلالة على الكراهة والنفور أن يستدبره ويعرض عنه فيكون من وراء ظهره.
وقصارى ما سلف - إن من عرض عليه كتابه وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة، لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجلّ البر والكرامات، فشأنه كذا وكذا.
ومن قدّم إليه كتابه وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره أو أعرض عنه فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجّين المخازي فأمره كيت وكيت.
يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل في سورة الحاقة « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة. « وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ».
ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه.
والخلاصة - إن إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو وا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل فإني لا أريد أن أبقى حيا، علما منه بأن ذلك داع إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسى سعيرها.
ثم ذكر سبحانه سببين في استحقاقه للعذاب في الآخرة فقال:
(1) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا) أي لأنه كان في حياته الدنيا فرحا بطرا لا يفكر في أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي في نار الجحيم، ومن ثم أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابا لا ينقطع، وآلاما لا تنفد.
(2) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله سيبدل سروره هما، وفرحه حزنا وغما - لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها ولا يزول سرور أهلها.
وفي الآية إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم ليسوا بظانين فضلا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم أنهم لا يحاسبون، وأن الله مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
ثم رد عليه ظنه الخاطئ فقال:
(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيرًا) أي بلى ليحورنّ وليرجعنّ إلى ربه، وليحاسبنه على عمله، فيجزى على الخير خيرا وعلى الشر شرا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدّا لما لا يتناهى من الكمال، بما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقضي حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة يثمر فيها أعماله، ويوافي فيها كماله.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
شرح المفردات
الشفق: هو الحمرة التي تشاهد في الأفق الغربي بعد الغروب، وأصله رقة الشيء، يقال ثوب شفق: أي لا يتماسك لرقته، ومنه أشفق عليه: أي رق له قلبه قال:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزّال على الحرم
وسق: أي ضم وجمع، يقال وسقه فاتسق واستوسق: أي جمعه فاجتمع، وإبل مستوسقة: أي مجتمعة قال:
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لم يجدن سائقا
واتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا، لتركبنّ: أي لتلاقنّ، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس:
إني امرؤ حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق
والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده، لا يسجدون: أي لا يخضعون ولا يستكينون، يوعون: أي يجمعون في صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت في العذاب تهكما، وممنون: أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات، أقسم بآيات له في الكائنات، ظاهرات باهرات، إن البعث كائن لا محالة، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.
ونحو الآية قوله: « بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ » وقوله: « يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا » فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون، لأن العناد صدهم عن الإيمان، ومنعهم من الإذعان، والله أعلم بما تكنه صدورهم، وسيجازيهم بشديد العذاب.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا: إن العرب اعتادت أن تأتى بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد، فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه.
ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر.
عظ الشأن لا يكفى القسم لإثباته. فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أريد، لأن إثباته أعظم وأجلّ من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.
(بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها، استدل بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.
(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) أي لتلاقنّ أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود في جنة أو نار.
ويدخل في هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به منذ أن كان نطفة في بطن أمه إلى أن صار شخصا، وما مرّ به في حياته الأولى من طفولة وشيخوخة ثم موته ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.
والخلاصة - لتركبنّ حالا بعد حال والحال الثانية تطابق الأولى، أي لتكونن في حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت في بعض شئونها الحياة الأولى.
وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال:
(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟) أي فأي شيء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله وأنكروا صحة البعث، وكل شيء أمامهم ينادى بباهر قدرته، ويرشد إلى عظيم سلطانه.
وقصارى ذلك - إنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.
(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وماذا حدث لهم حتى صاروا إذا قرئ عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضى أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته.
ثم بين السبب في عدم إيمانهم به وانقيادهم له فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي إن الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرّون على التكذيب إما لأنهم يحسدون الرسول ﷺ على ما آتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية، والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة، وأفعال مستهجنة.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي والله سبحانه مطلع على ما في قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك ودواعى العناد والاستمرار على ما هم عليه.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء إعراضهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيىء العمل، وفاسد الاعتقاد.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله وخضعوا للقرآن الكريم وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه.
وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن المعصية، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين:
(1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
(2) أن الناس في الدنيا بتنقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة، إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب أليم.