تفسير المراغي/سورة البروج
هي مكية، وآياتها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة الشمس.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) اشتمالها كالتي قبلها على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.
(2) أنه ذكر في السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول ﷺ والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والإلقاء في حمارة القيظ. وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، فقد عذبوا المؤمنين بالنار كما فعل أصحاب الأخدود.
وفي هذا عظة لقريش، وتثبيت من يعذبون من المؤمنين.
[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 9]
بسم الله الرحمن الرحيم
والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
شرح المفردات
البروج: واحدها برج، ويطلق على الحصن والقصر العالي وعلى أحد بروج السماء الاثني عشر، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر، فيسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين، وتسير الشمس في كل برج منها شهرا، ستة منها في شمال خط الاستواء وستة في جنوبه فالتي في شماله هي: الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة، والتي في جنوبه هي الميزان والعقرب والقوس والجدى والدّلو والحوت. وتقطع الثلاثة الأولى في ثلاثة أشهر أوّلها اليوم العشرون من شهر مارس، وهذه المدة هي فصل الربيع، وتقطع الثلاثة الثانية في ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه، وهذه المدة هي فصل الصيف، وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضا، أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر، وهذه المدة هي فصل الخريف، وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر، وهذه المدة هي فصل الشتاء، واليوم الموعود: هو يوم القيامة، لأن الله قد وعد به، والشاهد والمشهود: جميع ما خلق الله تعالى في هذا العالم، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته وعظيم حكمته.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهو مشهود أيضا لكل ذي عينين، والأخدود: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود: قوم كافرون ذوو بأس وقوة رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم فحملوهم على الكفر فأبوا فشقوا لهم شقا في الأرض وحشوه بالنار وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق وما نقموا منهم: أي ما عابوا عليهم، العزيز: أي الذي لا تغلب قوته، الحميد: أي الذي يحمد على كل حال.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كواكبها مشهود نورها، مرئي ضوؤها، معروفة حركاتها في طلوعها وغروبها، وكذلك البروج نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس، وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.
وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.
وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد: أي ذو الحس، والمشهود: وهو ما يفع عليه الحس.
أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم في إيذائهم، حتى خدّوا لهم الأخاديد، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم الله من أعدائهم وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.
وقد حكى الله هذا القصص، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين، ووعدا لعباده الصالحين، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة في سبيله، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ - فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ».
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا في ألف ألف سنة وخمسمائة ألف، مع أن الضوء يسير في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو، ويصل في سيره إلى القمر في قدر ثانية وثلث الثانية، ولو جرى حول الكرة الأرضية لدار حولها في الثانية الواحدة نحو ثمان مرات، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء في ثانية واحدة.
فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون، وإلى أي حد هي عظيمة بالنسبة إلى شمسنا.
وقد أقسم الله بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم، لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم.
(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأي العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا.
وقصارى ذلك - إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم في درك حقيقة ما استتر.
(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى بالرجل منهم فيخيره، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء - ألقاه في النار وكان حولها يشرف على هلاكه.
ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال:
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، لا جرم يكون حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا.
(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم.
وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، وتمكن الكفر منهم، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم، ورباطة جأشهم، واستمساكهم بدينهم.
وقد يكون المعنى - يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر في التنكيل بالمؤمنين.
(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شيء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغي لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه، وترتقب نعماؤه.
ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله:
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض الله به أهل طاعته، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.
ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال:
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
[سورة البروج (85): الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
شرح المفردات
فتنوا: أي ابتلوا وامتحنوا، عذاب الحريق: هو عذاب جهنم ذكر تفسيرا وبيانا له، الفوز الكبير: أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده، بما فيها من رغائب لا تفنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمني ن، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب في الدنيا فهو لم يهملهم، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار - ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب، ليردوهم عن دينهم، وثبتوا على كفرهم وعنادهم ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت - أعدّ الله لهم عذابا في جهنم بالحريق.
وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه، حرصا على ما ألفوا من الباطل، وتشيعا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين، على غير بصيرة، ولا استشارة للعقل السليم، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين.
انظر إلى أصحاب الأخدود تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار وأحرقوهم بها، وإلى كفار قريش ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء، فعذبوا آل ياسر بفنون من العذاب، وعذبوا بلالا بما لا يحصى من ضروب الأذى، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم وألحقوا به كثيرا من العنت والأذى، فرموه بالحجارة حتى أدموه، بل فعلوا معه أكثر من هذا فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه، ويتمنون لو يتمكنون منه ليقتلوه، ولكن الله منعه منهم: « وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ».
وفي قوله: « ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا » إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم غفر الله لهم ما قدّموا قبل التوبة من ذنب.
وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم - أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم، ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد في غيظهم، وأبعث للأسى والحزن في نفوسهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وعملوا صالح الأعمال ائتمارا بأوامره وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه - لهم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وهذا هو الظفر الكبير لهم، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.
[سورة البروج (85): الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
شرح المفردات
البطش: الأخذ بالعنف والشدة، يبدئ ويعيد: أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء مرة أخرى، ليجازيهم بما عملوا في حياتهم الأولى، الغفور: أي الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته، الودود: أي الذي يحب أولياءه ويتودّد إليهم بالعفو عن صغير ذنوبهم، ذو العرش: أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة، المجيد: أي السامي القدر المتناهي في الجود والكرم، تقول العرب: « في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار »: أي تناهيا في الاحتراق حتى يقتبس منهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم - أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته في النفوس إلا بأمرين:
(1) الجود الشامل والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره.
(2) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم، وبذلك يهاب جانبه، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف: « الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله « إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ » الآية.
الإيضاح
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن انتقامه من الجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعقوبة - لهو الغاية في الشدة، والنهاية في الأذى والألم.
وفي هذا إرهاب لقريش ومن معها، وتعزية لرسوله ﷺ ولمن معه.
وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدا فقال:
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه يخلق الخلق ابتداء، ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا، وإذا كان قادرا على البدء والإعادة فهو قادر على شديد البطش بهم، لأنهم تحت قبضته، وخاضعون لسلطانه.
فكأنه سبحانه يقول: إن مرجعكم إلى ربكم، فإذا لم يعاقبكم في هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير في شأنهم، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم.
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال:
(1) (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يرجع إليه بالتوبة، فيتجاوز عن سيئاته.
(2) (الْوَدُودُ) لمن خلصت نفسه بالمحبة له.
(3) (ذُو الْعَرْشِ) أي ذو الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يردّ.
(4) (الْمَجِيدُ) أي العظيم الكرم والفضل.
(5) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله وفق إرادته، فإذا أراد هلاك الجاحدين المعاندين ونصر أهل الحق الصادقين لم يعجزه ذلك، وأين هم ممن سبقهم ممن كانوا أضل منهم وأشد قوة؟
[سورة البروج (85): الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
شرح المفردات
الجنود: تطلق تارة على العسكر، وتطلق أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، فرعون: هو طاغية مصر، ثمود: قبيلة بائدة من العرب لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا، محيط: أي هم في قبضته وحوزته كمن أحيط به من ورائه فانسدت عليه المسالك، مجيد: أي شريف محفوظ: أي مصون من التحريف، والتغيير والتبديل.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أصحاب الأخدود وبيّن حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين - أردف ذلك ببيان أن حال الكفار في كل عصر، وشأنهم مع كل نبي وشيعته جار على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيا إلا لقى من قومه مثل ما لقى هؤلاء من أقوامهم.
والغرض من هذا كله تسلية النبي وصحبه، وشد عزائمهم على التدرّع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود: فرعون، وثمود.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك ما صدر من أولئك الجنود من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.
والمعنى - إنه قد أتاك خبرهم وعرفت ما فعلوا، وما جازاهم ربهم به، فذكر قومك بأيام الله، وأنذرهم أنه سيصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم من أهل الضلال.
ثم بيّن من هم أولئك الجنود فقال:
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وحديث هذين مشهور متعارف بينهم، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى من العناد والإصرار على الكفر، وما كان من عاقبة أمره وأن الله أغرقه في اليمّ هو وقومه، وأذاقه الوبال في الآخرة والأولى.
كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية، فدمّر بلادهم وأهلكهم ولم يترك لهم من باقية، وهم يمرّون على ديارهم في أسفارهم ويسمعون أخبارهم.
وخلاصة ذلك - إن الكفار في كل عصر متشابهون، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل، فهم في عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم، فقد سبقتهم أمم قبلهم وحلّ بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا، « فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ».
وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم في كل عصر ومصر فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي إن الكفار في كل عصر غارقون في شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالا للنظر، ولا متسعا للتدبر، ولا يزالون في غمرة حتى يؤخذوا على غرة.
ثم سلى رسوله من وجه آخر فقال:
(وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إنه سبحانه مقتدر عليهم وهم في قبضته لا يجدون مهربا، ولا يستطيعون الفرار، إذا أرادوا.
فلا تجزع من تكذيبهم واستمرارهم على العناد، فلن يفوتونى إذا أردت الانتقام منهم.
ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال:
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا الذي كذبوا به كتاب شريف متفرد في النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل.
واللوح المحفوظ شيء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرّفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات الله عليه وسلامه.
مقاصد هذه السورة
(1) إظهار عظمة الله وجليل صفاته.
(2) إنه يبيد الأمم الطاغية في كل حين، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات.