تفسير المراغي/سورة التكوير
هي مكية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد المسد.
ومناسبتها لما قبلها - أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ « من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. و- إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. و- إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ».
[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
شرح المفردات
تكوير الشمس: لفها كتكوير العمامة والمراد منه اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها، وانكدار النجوم: انتثارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها، وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض، فتقطّع أوصالها وتفصل منها أجبالها، وتقذفها في الفضاء والعشار: واحدها عشراء (بضم العين وفتح الشين) وهي الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر، وهي أكرم مال لدى المخاطبين وقت التنزيل، قال الأعشى في المدح:
هو الواهب المائة المصطفا ة إما مخاضا وإما عشارا
وتعطيلها: إهمالها وذهابها حيث تشاء، لعظم الهول وشدة الكرب، حشرت: أي ماتت وهلكت، وتسجير البحار: تفجير الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا، زوّجت: أي قرنت الأرواح بأجسادها، الموءودة: هي التي دفنت وهي صغيرة، وقد كان ذلك عادة فاشية فيهم في الجاهلية، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال:
ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم توءد
يريد جدّه صعصعة، وكان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة، والمراد بالصحف صحف الأعمال التي تنشر على العباد حين يقفون للحساب، كشطت: أي كشفت وأزيلت عما فوقها كما يكشط جلد الذبيحة عنها، سعرت: أي أوقدت إيقادا شديدا، أزلفت: أي أدنيت من أهلها وقربت منهم، ما أحضرت: أي ما أعدّ لها من خير أو شر.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخّم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها مائلا، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا، لا تهويل فيه ولا تضليل.
الإيضاح
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي إذا كورت الشمس وأمحى ضوؤها وسقطت حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحي في حياته الدنيا، ولا يبقى في عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شيء من هذه الأجرام.
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي وإذا النجوم تناثرت وذهب لألاؤها كما جاء في قوله: « وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ».
(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي وإذا الجبال قلعت عن الأرض وسيرت في الهواء حين زلزلة الأرض، فتقطع أوصالها وتقذف في الفضاء، وتمر على الرءوس مرّ السحاب ونحو الآية قوله: « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا » وقوله: « وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ».
(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي وإذا النوق العشار وهي أكرم الأموال لديهم، وأعزها عندهم - أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب، وفداحة الهول.
وهذا على وجه المثل، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، ولكن مثّل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه، قاله القرطبي.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي ماتت وهلكت، تقول العرب إذا أضرّت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجدب، حشرتهم السنة: أي أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.
(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا وهذا على نحو ما جاء في قوله: « وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ».
وقد يكون المراد من تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما في باطن الأرض من النار يظهر بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا، وحينئذ يصير الماء بخارا، ولا يبقى إلا النار.
وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين، وهي جبال النار التي في باطن الأرض، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال في بعض الأطراف كما حدث في مسّينا بإيطاليا سنة 1909 م، وحدث في اليابان بعد ذلك.
وجاء في بعض الأخبار « إن البحر غطاء جهنم ».
وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء وبطلان الحياة في الأرض وامتناع المعيشة فيها - أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور فقال:
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي وإذا زوجت الأرواح بأبدانها حين النشأة الآخرة، قاله عكرمة والضحاك والشعبي.
وفي هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد، فبعد أن كانت منفردة عن البدن تعود إليه.
(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟) أي وإذا سئلت الموءودة بين يدي وائدها عن السبب الذي لأجله قتلت، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته.
وقد افتنّ العرب في الوأد، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها، أمسكها مهانة إلى أن تقدر على الرعي، ثم ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها في البادية ترعى إبله، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء حتى إذا بلغها قال لها انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تسوى البئر بالأرض، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى وأقسى من ذلك.
فيالله، ما أعظم هذه القسوة بقتل البريئات بغير جرم سوى خوف الفقر أو العار، وكيف استبدلت الرحمة بالفظاظة، والرأفة بالغلظة، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم.
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين في موقف الحساب حتى لا يرتابوا فيها، ولا ينبغي أن نبحث عن تلك الصحف، لنعلم أهي على مثال الأوراق التي نكتب فيها في الدنيا، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله في الكتابة، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا، ولم يجئ نص قاطع عن المعصوم ﷺ يفسر ذلك.
(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فلم يبق غطاء ولا سماء، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مسّ النيران للأجسام الحية، وقد جاء في سورة البقرة: « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ».
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا الجنة أدنيت من أهلها: أي أعدت لنزولهم. ونحو الآية قوله تعالى: « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ».
(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها، فكثير من الناس كانوا في الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضي عنها، بل هي مبعدة من الله مستحقة لغضبه فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح.
والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب مليء بالإيمان، عامر بحبه والرغبة في رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.
[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
تفسير المفردات
الخنس: واحدها خانس، وهو المنقبض المستخفى يقال خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى، والكنّس واحدها كانس أو كانسة من قولهم: كنس الظبى إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بالخنس الجوار الكنس: جميع الكواكب، وخنوسها: غيبوبتها عن البصر نهارا، وكنوسها: ظهورها للبصر ليلا، فهي تظهر في أفلاكها، كما تظهر الظباء في كنسها. وعسعس: أي أدبر، وتنفس: أسفر وظهر نوره، قال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفّسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا
والرسول: هو جبريل عليه السلام، وكريم: أي عزيز على الله، ذي قوة: أي في حفظه، مكين: أي ذي مكانة وجاه عند ربه يعطيه ما سأله يقال مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة، ثمّ (بفتح الثاء) أي هناك، أمين: أي على وحيه ورسالاته، صاحبكم: هو محمد ﷺ، بالأفق المبين: أي بالأفق الواضح، وضنين: أي بخيل، رجيم: أي مرجوم مطرود من رحمة الله، فأين تذهبون: أي أي مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة، أن يستقيم: أي على الطريق الواضح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم في النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم - أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول ﷺ هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء، وأن لجاجكم في عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم في قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب في القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، وكأنه يقول: أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره، ولا على وجوده فهو واضح جلي ليس في حاجة إلى الحلف والمراد به القسم المؤكد.
(بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها، وهي تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها وقد أقسم بها سبحانه، لما في حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه.
ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدراري الخمسة وهي: عطارد، والزّهرة، والمرّيخ، والمشترى، وزحل، لأنها تجرى مع الشمس، ثم ترى راجعة حتى تختفى في ضوئها، فرجوعها في رأي العين هو خنوسها، واختفاؤها هو كنوسها.
(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء، بانسدال الظلمة وانحسارها.
(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة في نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات، لتحصيل الرغبات، وسدّ الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت.
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد ﷺ من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي ﷺ: وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف:
(1) (كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهي الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده.
(2) (ذِي قُوَّةٍ) في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء في آية أخرى: « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ».
(3) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذي جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل.
(4) (مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند الله في ملائكته المقربين، فهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه.
(5) (أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال.
وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال:
(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد ﷺ بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم في قوله: « أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ » وقوله: « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » وقوله: « قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ».
وفي التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم في دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة، وصدق لهجة، وكمال عقل، ووفور حلم، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب في صفات الخير - لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا.
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا ﷺ رأى جبريل بالأفق الأعلى، وقد تمثل له جبريل في مثال يظهر ويبصر، فتجلى لعينيه، وأعلم أنه جبريل فعرفه.
وقد ذكرت هذه الرؤية في سورة النجم في قوله: « ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ».
(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه.
ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال:
(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه
الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.
وقد حكى الله سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ».
ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة فقال:
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأي سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفتريانكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
ثم بيّن حقيقة القرآن فقال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز في طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة.
ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته.
والخلاصة - إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه، ويجدّ في كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة في فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة في إرادته من سلطان ربه فقال:
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله فيكم بقدرته، الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم إرادة فعل الخير فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها.
وفي قوله: « رَبُّ الْعالَمِينَ » بيان لعلة هذا، فإنه لما كان رب العالمين، وهو الذي منحكم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم - كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما وجهت له توجهت، ولو شاء أن يمحوها محيت، فله الأمر وله الحكم وهو على كل شيء قدير.
موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) أهوال يوم القيامة.
(2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند الله بوساطة ملائكته.
(3) إثبات نبوة محمد ﷺ.
(4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
(5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه، وليس لها استقلال بالعمل.