تفسير المراغي/سورة القلم
هي مكية إلا من آية 17 إلى 33، ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية.
وعدد آيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد العلق.
وهي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت: « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه ذكر في آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.
(2) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا، وكان ما أخبربه هو ما أوحى به إلى رسوله، وكان المشركون ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون - فبرأه الله في هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه.
[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 7]
عدلبسم الله الرحمن الرحيم
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
شرح المفردات
يسطرون: أي يكتبون، ممنون: أي مقطوع يقال منّه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف، المفتون: المجنون لأنه فتن، أي ابتلى بالجنون.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب: إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي.
وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان، وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية، ونكون كما وصف الله « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنه سيكون العزيز المهيب في القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذ من المجنون؟ والله هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.
الإيضاح
(ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء في معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا، وأما.
(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب.
ثم ذكر المقسم عليه فقال:
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.
ثم بين بعض نعمه عليه فقال:
(1) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.
(2) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك الله على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم.
روى الشيخان عن أنس خادم رسول الله ﷺ قال: « خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي أفّ قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألّا فعلته؟ ».
وروى أحمد عن عائشة قالت: « ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ».
وفي الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون.
ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة فقال:
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟
ونحو الآية قوله تعالى: « سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ » وقوله: « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».
والخلاصة - ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
وهذا يشمل ما كان في بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين.
ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوي المؤدى إلى سعادة الدارين، وهام في تيه الضلالة، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل محذور، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب.
[سورة القلم (68): الآيات 8 الى 16]
عدلفَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
شرح المفردات
قال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، وقال المبرد: يقال داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر، والحلّاف: كثير الحلف في الحق والباطل، والمهين: المحتقر الرأي والتمييز، والهماز: العياب الطعّان، والمشاء بالنميم: أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، والمنّاع للخير: البخيل، والمعتدى: الذي يتجاوز الحق ويسير في الباطل، والأثيم: الكثير الآثام والذنوب، والعتلّ: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، والزنيم: الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشيء المعلق) سنسمه: أي نجعل له سمة وعلامة، والخرطوم: الأنف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة المشركين في الرسول بنسبته إلى الجنون، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في الدين والخلق - أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة، ثم أعاد النهي عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت في هذه الآيات خاصة، دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
الإيضاح
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد في ذلك.
وفي هذا إيماء إلى النهي عن مداراتهم ومداهنتهم، استجلابا لقلوبهم، وجذبا لهم إلى اتباعه.
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم، فيدينون لك في عبادة إلهك.
روي أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم.
وخلاصة ذلك - ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لهم ويلينون لك، وترك بعض الدين كله كفر بواح.
والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد في المخالفة والتصميم على معاداتهم.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا. إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا ».
ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها، تشهيرا بهم فقال:
(1) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل. والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على الله - ضعفه ومهانته أمام الحق، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من الله. والكذب أسّ كل شر، ومصدر كل معصية، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف، أن جعله الولي فاتحة المثالب، وأسّ المعايب.
(2) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأي والتفكير.
(3) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم.
(4) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
وأصل النميمة الحركة الخفيفة ومنه أسكت الله نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.
(5) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين البائسين، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل، كدفع عدوّ يهاجم البلاد، أو دفع كارثة نزلت بها، تحتاج إلى بذل المال.
(6) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه الله من أوامر ونواه، فهو يخوض في الباطل خوضه في الحق، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم.
(7) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك، فهو لا يبالى بما ارتكب، ولا بما اجترح.
(8) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة.
(9) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام، كما تعرف الشاة بالزنمة روى عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء.
ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال:
(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه: « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».
ثم ذكر سبب النهي عن طاعته فقال:
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دوّنت في الكتب، وليس هو من عند الله.
ونجو الآية قوله تعالى: « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ».
وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال:
(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم.
وفي هذا إذلال ومهانة له، لأن السمة على الوجه شين، فما بالك بها في أكرم موضع، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف في الأنف، وقالوا حمى أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين، وعلى عكسه قالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، قال جرير:
لمّا وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به، لأنه لا يستعمل إلا في الفيل والخنزير، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى.
والخلاصة - سنذله في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر، ونسمه يوم القيامة على أنفه، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره.
[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]
عدلإِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْرًا مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
شرح المفردات
بلوناهم: أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات، والجنة: البستان، ليصر منّها: أي ليقطعنّ ثمار نخيلها، مصبحين: أي وقت الصباح، ولا يستثنون: أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين، فطاف عليها طائف من ربك: أي طرقها طارق من عذاب ربك، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها، كالصريم: أي كالليل البهيم في السواد بعد أن احترقت، فتنادوا: أي نادى بعضهم بعضا، أن اغدوا: أي اخرجوا غدوة مبكّرين، حرثكم: أي بستانكم، صارمين: أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار، يتخافتون: أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد، على حرد: أي على منع، لضالون: أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هي، محرومون: أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، أوسطهم: أي أرجحهم رأيا، تسبحون: أي تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، طاغين: أي متجاوزين حدود الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه الله من النعم - أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أيصرف ذلك في طاعة الله وشكره، فيزيد له في النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر الله جنتهم، فما بالك بمن حادّ الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية.
روي أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم من ذلك شيء كثير، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم، ولم يبق منها شيئا.
الإيضاح
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء، وما رحمناهم به من واسع العطاء، لنرى حالهم، أيشكرون هذه النعم ويؤدون حقها، وينيبون إلى ربهم، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول ﷺ الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا، أم يكفرون به ويكذبونه، فيجحدون حق الله عليهم، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل، ودمره شر التدمير.
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء، ولم ينثنوا عما همّوا به.
ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال:
(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم في السواد.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له، ثم تلا: فطاف عليها طائف الآية، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ».
وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه.
(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين.
وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال:
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها.
(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.
ولكن وا خيبة أملاه، ووا ضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه:
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟
ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا:
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم.
(قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا، وأحسنهم تدبيرا: ألم أقل لكم: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدوا حق البائس الفقير، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأي وضربتم به عرض الحائط.
وبعد اللّتيا والتي، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله:
(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا.
ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا:
(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصّة، وهكذا شأن الإنسان.
وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا: أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتنى في جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم:
(قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم.
(إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده الله لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين، وتركنا الشكر على نعمه علينا.
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا:
(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْرًا مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله يعطينا بدلا هو خير منها، بتوبتنا من زلاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا، إنا راجون عفوه، طالبون الخير منه.
روي عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم الله خيرا منها.
(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير.
وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية؟.
وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال:
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار وقودها الناس والحجارة، فلو كانوا من ذوي العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم.
وفي هذا نعى عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة.
[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 43]
عدلإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
شرح المفردات
تدرسون: أي تقرءون، تخيرون: أي تختارون، أيمان: أي عهود، بالغة: أي متناهية في التوكيد موثّقة، إلى يوم القيامة: أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم، أيهم بذلك زعيم: أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها، كشف الساق: يراد به الشدة، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق.
قد شمّرت عن ساقها فشدوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا
روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز:
صبرا عناق إنه شرّ باق
قد سن لي قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، سالمون: أي أصحاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره - أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى في الدار الآخرة، ثم ردّ على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا، لأن من أحسن إلينا في الدنيا يحسن إلينا في الآخرة - بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهي ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟
أم لكم أناس يذهبون مذهبكم في هذا القول، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة، وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة، فرد الله عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله:
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟) أي أفنحيف في الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء.
ثم عجّب من حكمهم واستبعده، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال:
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأي وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟
ثم سدّ عليهم طريق القول، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه، ينقله الخلف عن السلف، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون، أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم؟
وخلاصة هذا - أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم؟.
(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون؟.
وخلاصة ذلك - أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون؟.
ثم طلب إلى رسوله ﷺ أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال:
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا؟
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم في هذا الرأي، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم.
وقصارى هذا الحجاج - نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله: « ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله: « أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ » ثم إلى نفى الوعد بذلك - ووعد الكريم دين عليه - بقوله: « أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا » ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ».
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة.
وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه في الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.
(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة في ذلك اليوم، وقد كانوا في الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه.
(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم، عوقبوا في الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود في الدنيا.
وقال النخعي والشعبي: المراد بالسجود الصلوات المفروضة، وقال آخرون: إن المراد جميع العبادات.
[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 52]
عدلفَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
شرح المفردات
تقول: ذرنى وإياه: أي كله إلي فإني أكفيكه ويقال استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه، وأملى لهم: أي أمهلهم وأطيل لهم المدة يقال أملى الله له: أي أطال له الملاوة وهي المدة من الزمن، والكيد هنا: الإحسان، والمغرم: الغرامة المالية، مثقلون: أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك، الغيب: هو ما كتب في اللوح واستأثر الله بعلمه، يكتبون: أي يحكمون على الله بما شاءوا وأرادوا، حكم ربك: هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، مكظوم: أي مملوء غيظا، من قولهم: كظم السقاء إذا ملأه، والعراء: الأرض الخالية، فاجتباه: أي اصطفاه، يزلقونك: أي يزلون قدمك، يقولون: نظر إلي نظرة كاد يصرعنى، أو كاد يأكلنى: أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل، قال شاعرهم:
يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزل مواطن الأقدام
والذكر: القرآن، ذكر: أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة - خوّفهم مما في قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا: خلّ بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، فإني عالم بما ينبغي أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم، وتوكل علي في الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم شكرها.
ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب في اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، إذا فالقوم معاندون، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.
ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال: « لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » وهو مملوء غيظا وحنقا.
ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة: « إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ » تنفيرا منه ومن دعوته، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها.
الإيضاح
(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلي، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا: دعنى وإياه، وخلّنى وإياه، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه.
وفي هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى.
وخلاصة ذلك - حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلي وتخلّى بيني وبينهم.
ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال:
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين، مع أنه سبب في هلاكهم في العاقبة.
ونحو الآية قوله: « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ».
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علي لتتكامل حججى عليهم، وإن كيدى لأهل الكفر لقوي شديد.
وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا « والكيد ضرب من الاحتيال » لكونه في صورته، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر، لما علم من خبث طويّتهم، وسوء استعدادهم وتماديهم في الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.
وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: « إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد ».
ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال:
(1) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا؟ فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول في الدين الذي دعوتهم إليه.
وخلاصة ذلك - إن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا.
(2) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك، والامتثال لما تقول.
ولما بالغ في تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عما هم عليه، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال:
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه - تكذيبهم وأذاهم لك.
روي أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى
(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له، وشروده به في البحار، فنادى ربه في الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان.
وجاء في الآية الأخرى: « فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ».
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم، المنتهين عما نهاهم عنه.
ثم بيّن بالغ عداوتهم له، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال:
(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله، حسدا لك وبغضا.
ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين، وروى أنه كان في بنى أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله ﷺ فعصمه الله وأنزل عليه هذه الآية.
وقد صح هذا الحديث من عدة طرق: « إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر ».
وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعا: « إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه ».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وعن الحسن: رقية العين هذه الآية.
وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر في غيرها بوساطة العين، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يخص ما شاء بما شاء.
وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس في بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها.
(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم في أمره، وجهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم، وبدائع العلوم: إنه لمجنون.
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، أفيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره، محيط بجميع حقائقه خبرا، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل؟
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ما تضمنته هذه السورة من موضوعات
عدل(1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ».
(2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: « فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ » إلى قوله: « سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ».
(3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: « إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
(5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله: « فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ » إلخ.
(6) أمره ﷺ بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.