تفسير المراغي/سورة القيامة
هي مكية، وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة القارعة.
ووجه اتصالها بما قبلها، أنه ذكر في السورة السابقة قوله: « كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدإ الخلق.
[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]
عدلبسم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) ولَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
شرح المفردات
(لا أُقْسِمُ) تزيد العرب كلمة (لا) في القسم كما قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري لا يدّعي القوم أني أفرّ
ويرى قوم أن (لا) نافية ردّ لكلام كان قد تقدم وجواب لهم، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم فإذا قال أحدهم: لا والله لا فعلت كذا - قصد بقوله (لا) رد الكلام السابق، وبقوله والله ابتداء يمين، فهم لما أنكروا البعث قيل لهم: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: إن البعث حق لا شك فيه.
ويرى جمع من المفسرين أنها للنفى على معنى إني لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من هذا وهو يستأهل فوق ذلك.
قال مجاهد: النفس اللوامة هي التي تلوم نفسها على مافات، وتندم على الشر لم فعلته؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ فهي لم تزل لأئمة وإن اجتهدت في الطاعات (بَلى) كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرقها، والبنان واحده بنانة وهي الأصابع. قال النابغة:
بمخضّب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
ليفجر أمامه: أي ليدوم على فجوره في الحاضر والمستقبل لا ينزع عنه، برق تحير فزعا من قولهم: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قال ذو الرمة:
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت لعينيه ميٌّ سافرا كاد يبرق
وخسف القمر: ذهب ضوءه، والمفر: الفرار، والوزر: الملجأ وأصله الجبل المنيع، ومنه قوله:
لعمرك ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
ينبأ: أي يخبر، بصيرة: أي حجة شاهدة على ما صدر منه، والمعاذير: ما يعتذر به.
المعنى الجملي
أقسم تعالى بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقي، الجانحة إلى العلوّ، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبت ما تلاها - إن هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها، في عالم أكمل من هذا العالم، عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين.
وهذا القسم وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والعمر والكعبة ونحو ذلك.
روي أن عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله ﷺ عن يوم القيامة متى يكون وما حاله وأمره فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبي ﷺ يقول: « اللهم اكفنى شر جارى السوء ».
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أقسم سبحانه بيوم القيامة وعظيم أهواله، وبالنفس التواقة للمعالى التي تندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه، فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعة - لتبعثنّ ولتحاسبنّ على ما تفعلون.
وقال الفرّاء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت هلّا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت ليتني لم أفعل، وعلى هذا فهو مدح للنفس، والقسم بها سائغ حسن اهـ.
وقسمه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيم شأنه، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ » قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه.
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ بلى نحن قادرون على ذلك وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوى بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط، والتاني في عمل ما يراد من الشئون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان، إلى نحو أولئك.
والخلاصة - إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظاما ورفاتا في بطون البحار، وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوّى أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئا واحدا فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وفى ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعدّ لها في الحياة.
(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضى قدما في المعاصي لا يثنيه عنها شيء، ولا يتوب منها، بل يسوّف بالتوبة فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك.
والخلاصة - إنه انتقل من إنكار الحسبان، إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب، ليكون ذلك أشد في لومه وتوبيخه كأنه قيل: دع تعنيفه على ذلك، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ولا يتخلى عنه.
ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله:
(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) أي يسأل سؤال متعنت مستبعد، متى يكون هذا اليوم؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار، ارتكب أعظم الآثام، وخبّ فيها ووضع غير عابي بعاقبة ما يصنع، ولا مقدّر نتائج ما يكتسب.
ونحو الآية قوله: « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ »، وقوله: « هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ».
وقصارى ما سلف أنهم أنكروا البعث لوجهين:
(1) شبهة تعترض الخاطر: كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وسارت في مشارق الأرض ومغاربها، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلا، ولهؤلاء جاء الردّ بقوله: « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ».
(2) حبّ الاسترسال في اللذات، والاستكثار من الشهوات، فلا يود أن يقرّ بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته، ولمثل هؤلاء قال: « بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ».
وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة فقال:
(1) (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد، قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق، وأنشد:
فنفسك فانع ولا تنعني ودار الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك.
ونحو الآية قوله: « لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ».
(2) (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه، كما نعقله من حاله في الدنيا، إلا أن الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، وفى الآخرة لا يعود ضوءه.
(3) (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أدرك كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين على ما روى عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلا في الدنيا كما جاء في قوله سبحانه: « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ».
(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته: أين المفرّ من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟ فأجيبوا حينئذ:
(كَلَّا لا وَزَرَ) أي كلا لا شيء يعتصم به من أمر الله، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره، قال السدي: كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم مني.
ونحو الآية قوله: « ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ».
ثم كشف عن حقيقة الحال وبيّنها بقوله:
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أيإلى ربك مرجعك في جنة أو نار، وأمر ذلك مفوّض إلى مشيئته، فمن شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
ونحو الآية قوله: « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ».
ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل فقال:
(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أييخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال - بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال: « وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».
قال القشيري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره، من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته ».
ثم بيّن أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهي نعم الشاهد عليه فقال:
(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، لأن نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما إني بالمعاذير وجادل عنها كما قال: « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ».
وقال الفراء في الآية: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلّهم من الخوف لا يخفى عليهم سرائره
[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 25]
عدللا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
شرح المفردات
لتعجل به: أي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، وقرءانه: أي قراءته أي إثباتها في لسانك، قرأناه: أي قرأه جبريل عليك، فاتّبع قرءانه: أي فاستمع قراءته، وكررها حتى يرسخ في نفسك، بيانه: أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه، والعاجلة: دار الدنيا، ناضرة: أي متهللة بشرا بما ترى من النعيم، ناظرة: أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، باسرة: أي شديدة العبوس كالحة متغيرة مسودة، تظن: أي تستيقن، فاقرة: أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن آيات الله، منكر لعظيم قدرته، وأنه سائر في غلوائه، غير مكترث بما يصدر منه - أردفه بذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال الفريقين: من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها « وبضدها تتبين الأشياء » ثم عاد إلى ذكر السبب في إنكار البعث وهو حبّ بنى آدم للعاجلة، وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون في ذلك اليوم من استبشار المؤمنين وبسور المشركين وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم.
الإيضاح
علّم الله رسوله كيف يتلقى الوحي من الملك، إذ كان يسابقه في قراءته فأمره أن يستمع إليه إذا جاء وقد كفل له: (1) أن يحفظه له. (2) أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. (3) أن يبينه ويفسره له.
وقد أشار إلى الأول بقوله:
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أيلا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرءان لسانك وشفتيك، لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك. وقد كان النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك في تحريكه شفتيه حتى نزلت الآية، فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله.
عن ابن جبير عن ابن عباس قال: « كان النبي ﷺ يعالج من التنزيل شدة بتحريك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله ﷺ يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ » رواه مسلم.
وأشار إلى الثاني بقوله:
(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أيفإذا تلى عليك فاعمل بما فيه من شرائع وأحكام وقد يكون المراد - فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك.
وأشار إلى الثالث بقوله:
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته، نبيّنه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا.
ثم أعاد القول في توبيخ المشركين على إنكارهم للبعث فقال:
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون: من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة.
قال قتادة - اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم.
والخلاصة - إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون في كل شيء، ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة.
ثم بيّن ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين فقال:
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة، تشاهد عليها نضرة النعيم.
(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام اهـ.
روى البخاري في صحيحه « إنكم سترون ربكم عيانا »
وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة « أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك ».
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، قال الأزهري: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا اهـ.
(2) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة: عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ » وقوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ».
[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 40]
عدلكَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
شرح المفردات
التراقي: العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، واحدها ترقوة، من راق: أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل، الفراق: أي من الدنيا حبيبته، التفّت الساق بالساق: أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب، المساق: المرجع والمآب، فلا صدّق ولا صلى: أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، يتمطى: أي يتبختر افتخارا، أولى لك: أي ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره، فأولى: أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، سدى: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب، نطفة: أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف، يمنى: أي يراق ويصب في الرحم، علقة: أي قطعة دم جامد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة في الدنيا، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:
(1) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا.
(2) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من مني يمنى، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر!
الإيضاح
(كَلَّا) ردع وزجر: أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا.
ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال:
(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر، وأشرفت النفس على الموت، قال دريد بن الصّمّة:
وربّ عظيمة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقي
والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه يقولون أرسلت: يريدون أرسلت السماء المطر، ولا تكاد تسمعهم يقولون: أرسلت السماء، قال حاتم يخاطب زوجه:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو الآية قوله: « فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ».
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ؟) أي وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به؟ قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقي أم هل له من حمام الموت من راقي
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد، وسمى هذا اليقين ظنّا لأن المرء مادامت روحه معلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة.
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال ابن عباس: المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا، فالتفّ بلاء ببلاء، والعرب تقول لكل أمر اشتد، شمّر عن ساقه، وكشف عن ساقه، قال النابغة الجعدي:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع والمآب، والمراد إنك صائر إلى جنة أو نار.
وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا - انكشفت للمرء حقيقة الأمر، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه.
ثم ذكر ما كان قد فرط منه في الدنيا فقال:
(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق بالله ووحدانيته، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه، بل أعرض وتولى عن الطاعة.
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا، يمشى الخيلاء متبخترا.
والخلاصة - إن هذا الكافر كان في الدنيا مكذبا للحق بقلمه، متوليا عن العمل بجوارحه، معجبا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال:
(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك مرة بعد أحرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك. ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمري، فيكون المراد - النار أولى بك وأجمل.
ثم كرر هذا الوعيد فقال:
(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت جدير بهذا.
روى قتادة « أن النبي ﷺ أخذ بيد أبى جهل فقال: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد، والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتله ».
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: « أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » أشيء قاله رسول الله ﷺ من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله تعالى ».
ثم أقام الدليل على البعث من وجهين:
(1) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان في الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره مهملا لا يحاسب، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال: « إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » وقال: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ». وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة.
(2) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى؟) أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه - نطفة في صلب أبيه، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره؟
(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ فذلك أهون من البدء في قياس العقل كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ».
وقد جاء من طرق عدة « أن النبي ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهمّ وبلى.
وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « من قرأ منكم: « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » فليقل: بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى » فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ « فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » فليقل آمنا بالله »
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.