تفسير المراغي/سورة سبأ
هي مكية إلا الآية السادسة مثها فمدنية، وآيها أربع وخمسون نزلت بعد لقمان.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة.
(2) إنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاء، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحا، وطعنهم على من يقول بالبعث، وقال هنا ما لم يقله هناك.
[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تفسير المفردات
الحمد: هو الثناء على الله بما هو أهله، والحكيم: الذي أحكم أمر الدارين ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة، والخيبر: هو الذي يعلم بواطن الأمور وخوافيها، يلج في الأرض: أي يدخل فيها، ويعرج: أي يصعد.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض دون كل ما يعبدونه ودون كل شيء سواه، إذ لا مالك لشيء من ذلك غيره.
والخلاصة - إن له عز وجل جميع ما في السموات وما في الأرض، خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة.
ولما بين اختصاصه بالحمد في الدنيا أعقبه ببيان أن له وحده الحمد في الآخرة فقال:
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي وله الحمد في الآخرة خالصا دون سواه على ما أنعم به فيها كما حكى عن أهلها من قولهم: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ » وقولهم: « الحمد لله الّذى أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور. الّذى أحلّنا دار المقامة من فضله ».
(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي وهو المدبّر لشئون خلقه على ما تقتضيه الحكمة، الخبير ببواطن الأمور ومكنوناتها.
ثم فصل بعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالح عباده الدنيوية والأخروية فقال:
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات، وما يخرج منها كالحيوان والنبات والغازات وماء العيون والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين، ومخلّفات الأمم ومصنوعاتهم كمخلفات المصريين القدماء ونقوش آشور وبابل وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم، مما استخرجه علماء العاديات من الأوربيين في القرن الماضي والعصر الحاضر، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدا يدل على أن الشرق كان ذا مدنية وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه.
(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والأرزاق والمطر والصواعق.
(وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والدخان والطائرات والمطاود الجوية.
(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله، رحيم بعباده فلا يعاجل بعقوبة، غفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
[سورة سبإ (34): الآيات 3 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
تفسير المفردات
لا يعزب عنه: أي لا يفوته علمه، مثقال ذرة: أي مقدار أصغر نملة، والكتاب المبين: اللوح المحفوظ، رزق كريم: أي حسن لا تعب فيه ولا منّ عليه، معاجزين: أي مسابقين يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، رجز: أي عذاب شديد، العزيز: أي الذي يغلب ولا يغلب، الحميد: أي المحمود في جميع شئونه، وصراطه: هو التوحيد والتقوى.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم، أردف ذلك بيان أن كثيرا منهم ينكرها أشد الإنكار، ويستهزئ بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنا منهم أن هذه خيالات بل أضغاث أحلام، وقد ذكر أن مجيئها ضربة لازب، لتجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ثم أعقب هذا ببيان أن الناس فريقان: مؤمن بآيات ربه يرى أنها الحق وأنها تهدى إلى الصراط المستقيم، ومعاند جاحد بها يسعى في إبطالها، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسّى به نفسه من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما نحن بمبعوثين.
وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدا لهم بطلان ما يدّعون.
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم إنها وربى لآتية لا ريب فيها.
وهذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكره من أهل الشرك والعناد، فإحداهن في سورة يونس « وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » وثانيتها في سورة التغابن « زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » وثالثتها ما هنا.
ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم وعظيم الإحاطة بالموجودات مما يؤكد إمكان البعث فقال:
(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شيء في السموات ولا في الأرض من ذرة فما دونها ولا ما فوقها، أين كانت وأين ذهبت، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين، فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، فيعيدها كما بدأها أول مرة وهو بكل شيء عليم.
ثم بين الحكمة في إعادة الأجسام وقيام الساعة بقوله:
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي ببعثهم من قبورهم يوم القيامة، ليثيب الذين آمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه، وعيش هنىء في الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه، والخلاصة - إن الحكمة تقتضى وجودها، وليس هناك مانع منها، فالعلم المحيط بالغيب موجود، فقد وجد المقتضى لوجودها، وارتفع المانع من إتيانها.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي وليجزى الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادا منهم وكفرا، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم وبئس المهاد، لما اجترحوا من السيئات ودسّوا به أنفسهم من قبيح الأعمال.
وإجمال ذلك - إن الساعة آتية لا محالة، لينعم السعداء المؤمنون، ويعذّب الأشقياء الكافرون.
ونحو الآية قوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » وقوله: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ».
ثم استشهد باعتراف أولى العلم ممن آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما بصحة ما أنزل إليك، ليردّ به على أولئك الجهلة الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة فقال:
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب - إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول الله ﷺ ومن يأتي من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر - هو الحق الذي لا شك فيه، وأنه هو الذي يرشد من اتبعه وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب ولا يمانع، وهو القاهر لكل شيء والغالب له، وهو المحمود على جميع أقواله وأفعاله وما أنزله من شرع ودين.
[سورة سبإ (34): الآيات 7 الى 9]
وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
تفسير المفردات
تمزيق الشيء: تقطيع أوصاله وجعله قطعا قطعا، يقال ثوب مزيق وممزوق ومتمزّق وممزّق، ومنه قوله:
إذا كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركني ولما أمزّق
والافتراء: اختلاق الكذب، والجنة: الجنون وزوال العقل، كسفا: قطعا واحدها كسفة، منيب: أي راجع إلى ربه مطيع له.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم ما قالوا وأكده كل التأكيد، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسّى به نفسه من اجتراح المعاصي وفاسد المعتقدات - أردف ذلك ذكر مقال للكافرين ذكروه تهكما واستهزاء، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد، لعلهم يرجعون عن عنادهم، ويثوبون إلى رشادهم.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال قريش بعضهم لبعض، تعجبا واستهزاء، وتهكما وإنكارا: هل سمعتم برجل يقول: إنا إذا تقطعت أوصالنا، وتفرقت أبداننا، وبليت عظامنا، نرجع كرة أخرى أحياء كما كنا، ونحاسب على أعمالنا، ثم نثاب على الإحسان إحسانا، ويجزى على اجتراح الآثام آلاما، بنار تلظى تشوى الوجوه والأجسام.
وخلاصة ذلك - إنه يقول: إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما، وقطعتكم السباع والطير، ستحيون وتبعثون، ثم تحاسبون على ما فرط منكم من صالح العمل وسيئه ثم قال إن مقالا كهذا لا يصدر إلا من أحد رجلين.
(أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) أي إن قوله هذا دائر بين أمرين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه أوحى إليه ذلك، أو أنه لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه والمجنون.
وإجمال ذلك - إنه إما أن يكون مفتريا على الله وإما أن يكون مجنونا.
فرد الله عليهم مقالهم وأثبت لهم ما هو أشد وأنكى فقال:
(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل إن محمدا هو البرّ الرشيد الذي جاء بالحق، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل وأوغلوا في الضلال، وبعدوا
عن الإدراك والفهم، وليس هذا إلا الجنون بعينه، وسيؤدى ذلك بهم إلى العذاب، إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم وكذبوه في وعده ووعيده، وتعرضوا لسخطه.
ثم ذكّرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات فقال:
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد، الجاحدون للبعث بعد الممات فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضى وسمائى محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فيرتدعوا عن جهلهم، ويزدجروا عن تكذيبهم، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفا، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم فعلنا، لكنا نؤخره لحلمنا وعفونا.
وإجمال ذلك - إنه تعالى ذكّرهم بأظهر شيء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا تعجزه إعادة الأجسام، فهي إذا قيست بها كانت كأنها لا شيء كما قال: « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ».
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد.
ثم ذكر ما هو كالعلة في الحث على الاستدلال بذلك، ليزيح إنكارهم بالبعث فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض، لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها - قادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام، كما قال « لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون ».
[سورة سبإ (34): الآيات 10 الى 11]
ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
تفسير المفردات
فضلا: أي نعمة وإحسانا، أوّبى معه: أي رجّعى معه التسبيح وردّديه، وألنا له الحديد: أي جعلناه في يده كالشمع والعجين يصرّفه كما يشاء من غير نار ولا طرق، وسابغات من السبوغ وهو التمام والكمال: أي دروعا كاملات، قدّر: أي اقتصد، والسرد: النسج: أي اجعل النسج على قدر الحاجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله ورجع إليه - أردف ذلك ذكر بعض من أنابوا إلى ربهم فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين، ومن جملتهم داود عليه السلام فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوي العدد والعدد ومنحه الصوت الرخيم، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات، وتقف له الطيور السارحات، وعلمه سرد الدروع لتكون عدّة للمقاتلين وردءا للمجاهدين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي ولقد أعطينا داود منا نعما ومننا فقلنا للجبال وللطير رجّعى معه التسبيح وردّ ديه إذا سبّح، وذلك بأن تحمله عليه إذا تأمل عجائبها فهي له مذكّرات كما يذكّر المسبّح مسبحا آخر (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي وجعلنا الحديد في يده لينا يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة فلا هي بالضيقة فتضعف ولا تؤدى وظيفتها لدى الكر والفر والشد والجذب، ولا هي بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى، وهذا تعليم من الله له في إجادة نسج الدروع.
قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالا (وَاعْمَلُوا صالِحًا) أي واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله فأجازيكم كفاء ما عملتم.
ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إني مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي شيء منها.
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل والإخلاص فيه.
[سورة سبإ (34): الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
تفسير المفردات
غدوّها شهر: أي جريانها بالغداة مسيرة شهر، ورواحها شهر: أي وجريانها بالعشي مسيرة شهر، وأسلنا: أي أذبنا، والقطر: النحاس المذاب، ومن يزغ منهم عن أمرنا: أي ومن يعدل عن طاعة سليمان، عذاب السعير: أي العذاب الشديد في الدنيا، والمحاريب واحدها محراب: وهو كل موضع مرتفع قال الشاعر:
وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
والتماثيل: الصور، والجفان واحدها جفنة: وهي القصعة، والجوابى واحدها جابية وهي الحوض الكبير، وقدور: واحدها قدر، وراسيات: أي ثابتات على أثافيها لا تتحرك ولا تنزل عن أماكنها لعظمها، الشكور: الباذل وسعه في الشكر قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافا واعتقادا وعملا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما منّ به على داود من النبوة والملك - أردف ذلك ذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح، فتجرى من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وتسخير الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها. إذ كل منهما أناب إلى ربه، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.
الإيضاح
عدّد سبحانه ما أنعم به على سليمان عليه السلام وهو أمور:
(1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وسخرنا لسليمان الريح تجرى بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، وتجرى بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر قال قتادة تفسيرا للآية: كانت الريح تقطع به عليه السلام من الغدو إلى الزوال مسيرة شهر ومن الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كذلك.
(2) (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار، وقد سال من معدنه فنبع نبوع الماء من الينبوع فلذلك سماه عينا.
(3) (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا.
وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المباني الشاهقة، والقصور العظيمة، والتماثيل البديعة التي فصلها سبحانه بقوله:
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة، والصور المختلفة، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس، قال الأعشى يمدح آل جفنة من الغساسنة بالشام.
نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها.
(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا) أي وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا.
روي أن النبي ﷺ صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال « ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، فقلنا ما هن؟ فقال العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السرّ والعلانية » أخرجه الترمذي.
والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول ويكون بالنية كما قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
ثم ذكر السبب في طلب الشكر منهم فقال:
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقليل من عبادي من يطيعنى شكرا لنعمتى، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضينى، وقد قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
ونحو الآية قوله: « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ».
وعن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله ﷺ كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا » أخرجه مسلم في صحيحه.
[سورة سبإ (34): آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
تفسير المفردات
قضينا عليه: أي حكمنا عليه، دابة الأرض: هي الأرضة (بفتحات) التي تأكل الخشب ونحوها، والمنسأة: العصا من نسأت البعير إذا طردته، قال الشاعر:
ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
لأنها يطرد بها، وخر: سقط، وما لبثوا: أي ما أقاموا، في العذاب المهين: أي الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه عظمة سليمان وتسخيره الريح والجن - أردف ذلك بيان أنه لم ينج أحد من الموت بل قضى عليه به، تنبيها للخلق إلى أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة.
الإيضاح
المعنى - إنا لما قضينا على سليمان بالموت لم يدل الجن على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها إذ بينما هو متكىء عليها وقد وافاه القضاء المحتوم انكسرت فسقط على الأرض واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يزعمون، ولو علموه ما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حي.
والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغي الركون إليه، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما هو متوكىء عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجرّ على الأرض فعلمت الجن كذبها، إذ كانت تدعى أنها تعلم الغيب، إذ لو علمته ما لبثت هق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلّفت بها.
[سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
تفسير المفردات
سبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: والمراد به هنا القبيلة، والمسكن موضع السكنى وهو مأرب (كمنزل) من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، آية: أي علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب، جنتان: أي بستانان، فأعرضوا: أي انصرفوا عن شكر هذه النعم، والعرم: واحدها عرمة وهي الحجارة المركومة كخزان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبى النيل، وكانت له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، والمطر يجتمع أمام ذلك السد، فيسقون من الباب الأعلى ثم الذي يليه ثم من الأسفل، والأكل: الثمر، والخمط: كل شجرة مرة ذات شوك، والأثل. الطرفاء، وهو المعروف في مصر (بالأثل) والسدر: شجر النبق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل وعلا حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه - أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بنعمه، المعرضين عن ذكره وشكره من عظيم العقاب، موعظة لقريش وتحذ المن يكفر بالنعم، ويعرض عن المنعم.
الإيضاح
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن في نعمة عظيمة وسعة في الرزق، وكانت لهم حدائق غناء، وبساتين فيحاء، عن يمين الوادي وشماله، وقد أرسل الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن، وأحسن إليهم بتلك النعم، فكانوا كذلك إلى حين، ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل عليهم فتفرقوا في البلاد شذر مذر، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي فأعرضوا عن طاعة ربهم، وصدوا عن اتباع مادعتهم إليه الرسل، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرا ملأ الوادي وكسر السد وخرّبه وذهب بالجنان والبساتين، وأهلك الحرث والنسل، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وبدّلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها كالخمط والأثل وقليل من النبق.
ثم بين سبب ذلك العقاب بقوله:
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي وجازيناهم ذلك الجزاء الفظيع من جراء كفرهم بربهم وجحودهم بنعمه، وتكذيبهم بالحق، وعدو لهم عنه إلى الباطل، وما نجازى مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا عظيم الكفران للنعم، الجحود للفصل والمنن.
سد مأرب - سد العرم
وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة. وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه (وصف جزيرة العرب) قال: في الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شعاب من جبل السراة الشهير، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول وانحدرت حتى تنتهى أخيرا إلى وادي آذنة، وهو يعلو سطح البحر بنحو 1100 متر، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهى إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات، هو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما بلن، أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر والمسافة بينهما ستمائة ذراع يجرى السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي أذنة.
وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلى بلن وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسد مأرب أو بسد العرم، لأنه لا أنهار عندهم، وإنما يستقى أهلها من السيول التي تتجمع من المطر، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر ظمئوا وجفّت أغراسهم، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى فنالهم منه أذى كثير.
وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو 3000 ميل مربع كانت صحراء جرداء قاحلة فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضا وبساتين على سفحى الجبلين وهي المعبر عنها بالجنتين الجنة اليمنى والجنة اليسرى ا هـ بتصرف.
وقد ظل الباحثون والمنقبون في العصر الحديث في شك من أمر هذا السد حتى تمكن المستعرب الفرنسي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843 وشاهد آثاره ورسم له مصورا نشر في المجلة الفرنسية سنة 1874 وزار مأرب بعده هاليفي وغلازر ووافقاه فيما قال وصادقاه فيما وصف وهو يطابق من وجوه كثيرة ما قاله الهمداني في كتابه ثم عثروا فيما بعد على نقوش كتابية في خرائب السد وغيرها تحققوا بها صدق خبره.
قال الأصفهاني: إن السد تهدم قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، وقال ياقوت: إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد، وقال ابن خلدون: إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد.
[سورة سبإ (34): الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
تفسير المفردات
القرى التي بارك فيها: هي قرى الشام، قرى ظاهرة: أي مرتفعة على الآكام وهي أصح القرى، وقدرنا فيها السير: أي كانت القرى على مقادير للراحل، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى حين الظهيرة، ومن سار من بعد الظهر وصل إلى أخرى حين الغروب، فلا يحتاج إلى حمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ولا سبع، آمنين: أي من كل ما تكرهون، وظلموا أنفسهم لأنهم بطروا النعمة، والأحاديث: واحدها أحدوثة وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، ومزقناهم كل ممزق: أي وفرقناهم كل تفريق، الصبّار: كثير الصبر عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات. والشكور: أي كثير الشكران على النعم.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه ما أوتوا من النعم في مساكنهم، ثم كفرانهم بها، وما جوزوا به من الخراب والدمار - قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، ثم جحودهم بها، ثم ماحاق بهم بسبب ذلك.
الإيضاح
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالتوسعة على أهلها قرى متواصلة يظهر بعضها لبعض، لأنها مبنية على آكام عالية.
(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا بين بعضها وبعض مقادير متناسبة بحيث يقيل الغادي في قرية، ويبيت الرائح في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وهو لا يحمل معه زادا ولا ماء.
(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا في هذه القرى التي بين قراكم وقرى الشام التي باركنا فيها ليالي وأياما وأنتم آمنون لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يبطش بكم، بل تغدون فتقيلون، وتروحون فتبيتون في قرية ذات جنان ونهر.
وخلاصة هذا - إنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّى رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، فهو يقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.
ثم ذكر أنهم بطروا وملّوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله:
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، فأجاب الله طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال:
(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ قد عرّضوها للسخط والعذاب، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها.
ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال:
(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهني وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون تفرقوا أيدي سبأ، فنزل آل جفنة ابن عمرو الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت أزد السّراة السّراة، ونزلت أزد عمان عمانا ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، بعد النعمة والعافية، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام - لعبرة لكل عبد صبار على المصايب، شكور على النعم.
روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: « عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته »
وكان مطرّف بن الشّخّير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر.
[سورة سبإ (34): الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
تفسير المفردات
صدق عليهم إبليس ظنه: أي وجد ظنه فيهم صادقا، لانهما كهم في الشهوات واستفراغ الجهد في اللذات، سلطان: أي تسلط واستغواء بالوسوسة، حفيظ: أي وكيل قائم على شئون خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته قصص سبأ، وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان - أردف ذلك الإخبار بأنهم صدّقوا ظنّ إبليس فيهم وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال، إذ تسلط عليهم وانقادوا إلى وسوسته، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم كما قال سبحانه « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ».
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط عقوبة منالهم - ظنا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم تحقق صدق ظنه فيهم، إلا فريقا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة فقال:
(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم ليظهر حال من يؤمن بالآخرة ويصدق بالثواب والعقاب ممن هو منها في شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.
قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكني أسلطه عليهم كما أسلط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حل الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض وبقي من هو قادر على المقاومة ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها فلا يلومنّ إلا نفسه وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصايب وآلام يثبت لها ذوو العزيمة الصادقة، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر.
(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء، وهو يجازيهم جميعا يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير أو شر، فمن أخبت لله وأناب إليه لاقى من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دسّى نفسه الأمارة بالسوء وانهمك في شهواته لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
[سورة سبإ (34): الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
تفسير المفردات
ادعوا: أي نادوا، زعمتم: أي زعمتموهم آلهة، من شرك: أي شركة، والظهير: المعين، والتفزيع: إزالة الفزع، وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزت قدرته ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل - أعقب ذلك بأمر رسوله ﷺ أن يقول للمشركين من قومه تهكما بهم وتعجبا من حالهم: ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام، فإن لم يستطيعوا ذلك فاعلموا أنهم مبطلون.
ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعا للعابد يخشى بطشه وسطوته، وهؤلاء ليس لهم شيء من ذلك، إذ لا تصرف لهم في شيء في السموات والأرض لا استقلالا ولا شركة، ولا هم معينون للخالق فيهما، ولا تنفع شفاعتهم لديه، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخا لهم ومبينا لهم سوء ما يصنعون: ادعوا هؤلاء الأصنام في مهامّ أموركم ليدفعوا الضر عنكم أو يجلبوا النفع لكم، لعلهم يستجيبون لكم إن كان ذلك في مكنتهم، وبيدهم مقاليد أموركم.
ثم أبان لهم عظيم خطئهم وكبير جرمهم فقال:
(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي هؤلاء الآلهة لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع أو يخشى منهم ضر.
ونحو الآية قوله: « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ».
(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أيلا هم يملكون مثقال ذرة فيهما على سبيل الشركة والمراد أنهم لا يملكون شيئا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الشركة للخالق لهما.
(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شيء من ذلك، ولا على حفظه.
(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى إذ لا شفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع، وهو لا يأذن أحدا أن يشفع لهؤلاء الكافرين كما قال تعالى: « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَوابًا ». والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدا.
ثم ذكر ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة فقال:
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا؟ قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة وجلين حتى إذا أذن للشافعين وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
والآيات تدل على أن المشفوع لهم هم المؤمنون، والكافرون بمعزل عن موقف الاستشفاع.
والخلاصة - إن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة.
ثم ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون وقصور كل ما سواه فقال:
(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وهو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه.
وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم بالشفاعة، وفيه أيضا ثناء على الله كما لا يخفى.
[سورة سبإ (34): الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
تفسير المفردات
أجرمنا: أي وقعنا في الجرم، وهو الذنب، ويفتح: أي يحكم، والفتاح: الحاكم أرونى الذين ألحقتم به شركاء: أي أعلمونى بالدليل وجه الشركة، كلا: كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب.
المعنى الجملي
بعد أن سلب سبحانه عن شركائهم ملك شيء من الأكوان، وأثبت أن ذلك له وحده - أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق والمشركين به الجماد - مبطل والآخر
محق، وقد قام الدليل على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك، وأن يقول لهم: لا تؤاخذون بما نعمل ولا نؤاخذ بما تعملون، وأن يقول لهم: إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها، وأن يقول لهم: أعلمونى عما ألحقتم به من الشركاء، هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلا بل الله هو الخالق الرازق الغالب على أمره، الحكيم في كل ما يفعل.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم، حياة لحروثكم وصلاحا لمعايشكم، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم - ومن الأرض بإخراج أقواتكم وأقوات أنعامكم؟
فإن هم قالوا لا ندري فأجبهم:
(قُلِ اللَّهُ) هو الذي يرزقكم، إذ لا جواب عندهم سواه في قرارة أنفسهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادا مع علمهم بصحته، ولأنهم لو تفوّهوا به لقيل لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ كما قال سبحانه تبكيتا لهم: « قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا؟ ».
ثم أمر رسوله أن يقول لهم بعد الإلزام الذي ليس بأقل من الاعتراف بأنفسهم.
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين منا معشر الذين يوحدون الرزاق لمن في السموات والأرض، ويفردونه بالعبادة، والذين يشركون به الجماد العاجز عن دفع الضر وجلب النفع - لعلى الهدى أو في الضلال البين الذي لا شك فيه.
وهذا أسلوب من الكلام المنصف تستعمله العرب في محاورتها لإرخاء العنان للمخاطب حتى إذا سمعه الموافق أو المخالف قال لمن خوطب به لقد أنصفك صاحبك.
ألا ترى الرجل يقول لصاحبه: قد علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب، وعليه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله ﷺ قبل أن يسلّم:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وفي ذكر هذا بعد ما تقدمه من الحجج الظاهرة على التوحيد، دلاله واضحة على تمييز المهتدى من الضالّ، والإيماء أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينى.
ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة، فأسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل للمخاطبين فقال:
(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل لهؤلاء المشركين:
أنتم لا تسألون عما اكتسبنا من الآثام وارتكبنا من الذنوب، ونحن لا نسأل عما تعملون من عمل - خيرا كان أو شرا.
ونحو الآية قوله: « وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ».
ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم إذ أمر رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم: إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب ثم يقضى بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهنالك يجزى كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال: « ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون.
فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ».
ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتا لهم فقال:
(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل لهم: ما الذي عراكم ودخل في أذهانكم من الشبه حتى جعلتم هؤلاء أندادا لله وشركاء، وبأى صفة ألحقتموهم به في استحقاق العبادة؟
ثم نبه إلى فاحش غلطهم، وعظيم خطئهم بقوله:
(كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظير له تعالى ولا ندّ، بل هو الله الواحد الأحد ذو العزة التي بها قهر كل شيء، وهو الحكيم في أفعاله وأقواله، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة.
[سورة سبإ (34): الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وضرب لذلك الأمثال، حتى لم يبق بعدها زيادة لمستزيد - شرع يذكر الرسالة ويبين أنها عامة للناس جميعا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيحملهم ذلك على مخالفتك، ثم ذكر سؤال منكري البعث عن الساعة استهزاء بها، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة بل أرسلناك إلى الخلق جميعا عربهم وعجمهم، أسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاعنى بالثواب العظيم، ومنذرا من عصاني بالعذاب الأليم.
ونحو الآية قوله: « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا » وقوله: « تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا ».
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم فيه من الغي والضلال.
ونحو الآية قوله: « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » وقوله: « وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء لفرط تعنتهم وجهلهم: متى هذا الذي توعدوننا به مبشرين ومنذرين إن كنتم أيها الرسول والمؤمنين صادقين فيما تقولون.
ونحو الآية قوله: « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ».
ثم أمر رسوله أن يجيبهم عن سؤالهم فقال:
(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء فتنظروا للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله للعذاب، لأن الله جعل لكم أجلا لا تعدونه.
والخلاصة - دعوا السؤال عن وقت مجىء الساعة، فإنه كائن لا محالة، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون فهذا أليق بكم.
[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 33]
وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدادًا وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
المعنى الجملي
لما ذكر الأصول الثلاثة وهي التوحيد والرسالة والحشر وكانوا كافرين بها جميعا - ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار وما يسرّونه من الحسرة والندامة حين يرون العذاب، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيىء الأعمال، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال قوم من مشركي العرب: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته، ولا بما اشتملت عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء.
روي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن وصف الرسول ﷺ فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم فأغضبهم ذلك وقالوا ما قالوا.
ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدي الملك الديان للحساب والجزاء فقال:
(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين وما هم فيه من مهانة وذلّة، يحاور بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء الأعمال، والسبب فيمن أوقعهم في هذا النكال والوبال - لرأيت العجب العاجب، والمنظر المخزى الذي يستكين منه المرء خجلا ثم فصل ذلك الحوار فقال:
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال، لو لا أنتم أيها السادة صدد نمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول.
ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله:
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال الذين استكبروا في الدنيا وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا فكانوا أتباعا لأهل الضلال منهم: أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.
والخلاصة - إننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه، بل كنتم مجرمين، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى.
ثم حكى رد المستضعفين على قول المستكبرين بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدادًا) أي وقال الأتباع للرؤساء في الضلال: صدنا مكركم بنا وخداعكم في الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أمثالا وأشباها في العبادة وإجمال ذلك - ما صدنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار حتى أزلتمونا عن عبادة الله، فأنتم كنتم تغروننا وتمنوننا وتخبروننا أننا على الهدى وأنّا على شيء، وكل ذلك باطل وكذب.
ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم فقال:
(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين - الندم على ما فرط منهم في الدنيا حين رأوا العذاب، إذ هم بهتوا مما عاينوا، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة.
والخلاصة - إنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعده لهم.
(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار.
ثم ذكر أنه لا جزاء لأمثالهم إلا هذا فقال:
(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وما يفعل ذلك بهم إلا جزاء لما اجترحوا من الكفر والآثام « وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجني من الشوك العنب.
[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 39]
وما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قول المشركين لرسوله لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير كما قال: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا » - سلاه على ما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه له وعداوتهم إياه بالتأسى بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعا من بينهم، فما من نبي بعث في قرية إلا كذّبه مترفوها واتبعه ضعفاؤها كما قال: « وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها » ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به، فما هم فيه من مال وولد برهان ماطع على محبة الله إياهم، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقنيره كما يكون للبر يكون للفاجر، لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان وهم في أمن ودعة، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدا، ثم وعد المنفقين في سبيل الله بالإخلاف، وأوعد الممسكين بالإتلاف.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا إلا قال كبراؤها وأولو النعمة والثروة فيها: إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد.
وليس في ذلك من عجب، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة، فالضدان لا يجتمعان: انغماس في الشهوة وعلم وحكمة، ثروة مادية وثروة روحية.
ثم ذكر تفاخرهم بما هم فيه من بسطة العيش، وكثرة الولد وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله:
(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المستكبرون في كل قرية أرسلنا فيها نذيرا: إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة في الأموال، فنحن لا نعذب، لأن ذلك دليل على محبة الله لنا، وعنايته بنا، وأنه ما كان ليعطينا ما أعطانا ثم يعذبنا في الآخرة.
هيهات هيهات، إنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأخطأوا القياس « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ».
وخلاصة آرائهم - نحن في نعمة لا تشوبها نقمة، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا، إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لما يرضيه - لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش وكثرة الأولاد.
فرد الله عليهم مقالتهم آمرا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل لهم أيها الرسول: إن ربى يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويضيّق على من يشاء، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك، ولا لخير فيه ولا زلفى استحق بها ذلك، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ولا لمقت منه له، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها لكسب المال في هذه الحياة، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغى. ومن أخطأها وضل لم ينل شيئا من حظوظها، ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله، ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس الأمر، وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة ويضيق عليهما أخرى - يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها وربما خفي علينا أمرها، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا لا ختصّ به المطيع، ولو كان التضييق دليل الإهانة لا ختص به العاصي، ومن ثم جاء قوله ﷺ « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطى الكافر منها شيئا ».
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله يفعل ذلك بحسب السنن التي وضعها في الكون، بل يظنون أن ذلك لمحبة منه لمن بسط له، ومقت منه لمن قدر عليه، حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس والتضييق منه على آخرين، ومن ثمّ قال ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصيّر العالم التحرير زنديقا
ثم بين سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد، بل بالتقوى وصالح العمل، فقال:
(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانهم وعملهم يقربانهم مني، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها أو أكثر إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
روي عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله ﷺ: « إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي لمن هي؟ قال لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام ».
ثم بين حال المسيء الذي يبعده ماله وولده من الله فقال:
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي والذين يصدّون عن آيات كتابنا بالطعن فيها يبتغون إبطالها، ويريدون إطفاء أنوارها ظانين أنهم يفوتوننا وأننا لن نقدر عليهم، فأولئك في عذاب جهنم يوم القيامة تحضرهم الزبانية إليها ولا يجدون عنها محيصا، ولا يجديهم نفعا ما عوّلوا عليه من شفاعة الأصنام والأوثان.
ثم زهّد عباده في الدنيا وحضهم على التقرب إليه بالإنفاق فقال:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل لهم أيها الرسول:
إن ربى يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينا، ويضيّقه عليه حينا آخر، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيله وتقرّبوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته.
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أنفقتم من شيء فيما أمركم به ربكم وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم ويعوضكم بدلا منه في الدنيا مالا وفي الآخرة ثوابا، كلّ خلف دونه، وفي الحديث: « أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا »
وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة إذ قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: « وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ » فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له منه قليل، وهو ينفق نفقة الموسّع عليه.
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فترزقون من حيث لا تحتسبون ولا رازق غيره.
روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ».
[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن حال النبي ﷺ مع قومه ليس بدعا بين الرسل، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم، فكلّهم كذّبوا وكلهم أوذوا في سبيل الله ثم أعقب ذلك بأن رد عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله، ولا سخطه - أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم: هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم، ثم بين أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام، ويقال لهم على طريق التوبيخ والتهكم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك: يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم ثم تسأل الملائكة أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ وهذا سؤال وجه إلى الملائكة ظاهرا، والمراد منه تقريع المشركين وتيئيسهم مما علّقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم فهو وارد على نهج قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، وعلى نهج قوله تعالى لعيسى « أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ؟ » وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى برآء مما وجّه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، ولكن جاء ليقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون توبيخهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم.
(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي قالت الملائكة: تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله، نحن عبيدك نبرأ إليك من هؤلاء وأنت الذي نواليه دونهم، فلا موالاة بيننا وبينهم.
والخلاصة - إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم.
ثم بين أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله:
(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي بل هم كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون، إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجتهم كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة.
ونحو الآية قوله: « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطانًا مَرِيدًا: لَعَنَهُ اللَّهُ ».
ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم زادهم أسى وحسرة فقال:
(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا) أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم، لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار، لا يملك أحد فيه منفعة لأحد ولا مضرة له.
(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ونقول المشركين زجرا لهم وتأنيبا: ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم، فهأنتم أولاء قد وردتموها وسمعتم شهيقها وزفيرها، وليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالمعاينة، فعضّوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم، فجنيتم صابه وعلقمه في أخراكم.
[سورة سبإ (34): الآيات 43 الى 50]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة وأنه يقال لهم يومئذ: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون - أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب وهو صدهم عن دعوة الرسول ﷺ بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وإنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم في دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شيء ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ».
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل.
ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم.
(وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه - كذب مختلق من عنده، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة، واجتلابا لقلوب الكافة.
ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون لما جاء به النبي ﷺ من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد - ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهي بين أيدينا.
والخلاصة - إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد.
فرد الله سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله:
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتي بوحي من عند الله وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون، وحجة على صحة ما يعتقدون؟.
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم:
ونحو الآية قوله: « أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ » وقوله: « أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ».
وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال:
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلي حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، في غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى: « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.
والخلاصة - إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم - لعبرة لهم لو كانوا يعقلون.
ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال:
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم: إني أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا، إما واحدا فواحدا، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذا.
وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا، لأن في الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا.
ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح
(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا، وأصدق الناس قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك.
وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته.
وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى، اتضح أنه صادق كما قال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه، لكفركم به وعصيانكم أمره.
وإنما جعل إنذاره بين يدي العذاب، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاءفى الحديث « بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني ».
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « صعد النبي ﷺ الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى؟ قالوا بلى، قال ﷺ: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ».
ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة - ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال:
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم: إني لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم، ونصحى لكم وأمري بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله، وهو العليم بجميع الأشياء، فيعلم صدقى وخلوص نيّتي.
وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له وقد صدع به « فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ » وبهذا ثبت أنه نبي.
ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا - علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحي إليه، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد: أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إن ربى يلقى الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه: « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » وقال: « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ».
وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس: إن ربى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق.
ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره في الكون، ونحوه « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ».
ثم أكد ما سلف بأمر رسوله ﷺ أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال:
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.
وأصله في هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء، ولا إعادة أي فعله ثانيا، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله عبيد فاليوم لا يبدى ولا يعيد
روى البخاري ومسلم « أنه لما دخل رسول الله ﷺ المسجد الحرام يوم الفتح ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا - قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ».
ولما سد عليهم مسالك القول، لم يبق إلا أن يقولوا عنادا: إنه قد عرض له ما أضله عن محجة الصواب، فأمر رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها الرسول لقومك: إن ضللت عن الهدى وسلكت غير طريق الحق فإنما ضرّ ذلك على نفسي، وإن استقمت على الحق فبوحى الله إلي وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى، إنه سميع لما أقول وتقولون، ويجازى كلا بما يستحق، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: « إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا ».
والخلاصة - إن الخير كله من الله وفيما أنزله علي من الوحي والحق المبين.
[سورة سبإ (34): الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
تفسير المفردات
الفزع: انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، التناوش: التناول السهل لشيء قريب يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته، ناشه ينوشه نوشا، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق، يقذفون بالغيب: أي يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه: هو يقذف بالغيب.
بأشياعهم: أي أشباههم ونظرائهم في الكفر جمع شيع، وشيع جمع شيعة وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأى بعض فهم شيع، مريب: أي موقع في الريبة والظّنة، يقال أراب الرجل: أي صار ذا ريبة فهو مريب.
المعنى الجملي
بعد أن أبطل سبحانه شبههم وردّ عليهم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد - هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون آمنا بالرسول، وأنّى لهم ذلك وقد فات الأوان؟ وقد كان ذلك في مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أيولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد - لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه، فهم لا يمكّنون من الهرب، ولا يفوتهم ذلك العذاب ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه.
(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي وأخذوا حين الفزع من الموقف إلى النار ولم يمكّنوا أن يمعنوا في الهرب.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقالوا حينئذ: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنّى لهم ذلك وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان؟ إذ هذه الدار ليست أهلا لقبول التكاليف من الإيمان بالله والعمل الصالح.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ».
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل؟.
(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وهم قد كانوا يرجمون بظنون لا مستند لهم فيها، فيتكلمون في الرسول بمطاعن ليس لها ما يؤيدها، فتارة يقولون إنه شاعر، وأخرى إنه كاهن، وثالثة إنه ساحر، إلى نحو ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وحيل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعلموا صالحا كما قال: « فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ».
ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم فقال:
(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذبت رسلها فتمنّوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا ولكن لم يقبل منهم.
ثم علل عدم قبول إيمانهم ووصولهم إلى بغيتهم حينئذ بقوله:
(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء، وقد تغلغل الشك في قلوبهم حتى صاروا لا يطمئنون إلى شيء مما جاءوا به.
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) حمد الله والثناء عليه بما هو أهله.
(2) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه.
(3) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون.
(4) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.
(5) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان.
(6) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (7) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.
(8) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم.
(9) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم؟ ليكون في ردهم ما يكفى في تبكيتهم.
(10) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد.
(11) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.
(12) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.
(13) إثبات أن الرسول نذير مبين، لا مفتر ولا مجنون.
(14) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته، بل أجره على الله.
(15) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه.