تفسير المراغي/سورة غافر
هي مكية إلا آيتي 56، 57 فمدنيتان، وآيها خمس وثمانون، نزلت بعد سورة الزمر.
ومناسبتها لقبلها:
(1) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر.
(2) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم. وروى أن النبي ﷺ قال: « لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم ».
وعنه أيضا « مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب ».
[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و(يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعزب
يريد بذلك قوله تعالى: « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه، وبما يقولون وما يفعلون.
وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به.
(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها).
وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص لله في العمل والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه.
(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب، فيجازى كل نفس بما كسبت.
أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ (من قرأ حم المؤمن إلى - إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح).
[سورة غافر (40): الآيات 4 الى 6]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
تفسير المفردات
الجدل: شدة اللدد في الخصومة، تقلبهم: أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش، والأحزاب: الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل، وهمّت: أي عزمت، ليأخذوه: أي ليقتلوه ويعذبوه، ليدحضوا: أي ليزيلوا، حقت: أي وجبت، كلمة ربك: أي حكمه بالإهلاك.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه - ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء نوره، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار في الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال - إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره.
وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الاشارة بقوله ﷺ « لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر »
أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح « يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « هاجرت إلى رسول الله ﷺ يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب » رواه مسلم.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علي: « ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » الآية، وقوله: « وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ » ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله ﷺ أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال:
(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة في البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف في الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
وفي هذا تسلية له ﷺ ووعيد لهم.
ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال:
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هي سنتنا في أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك.
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدي ليقتلوه، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: « أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ».
(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم: « ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله، وليطفئوا النور الذي أوتيه، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان.
(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال: « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ »
وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابي - وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، لأن الأسباب واحدة وهي كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته في دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله.
[سورة غافر (40): الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
تفسير المفردات
العرش: مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه، وقهم: أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته، السيئات: أي الجزاء المرتب عليها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم - أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش - يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.
الإيضاح
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد الله والبراءة من كل معبود سواه.
ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذي العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه، وتوسطهم في نفاذ أمره.
ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم:
(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم.
(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدّل القول لديك.
قال مطرّف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية.
وقال خلف بن هشام البزّار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » بكى، ثم قال يا خلف: ما أكرم المؤمن على الله، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.
(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية، لتقرّبهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس.
قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي؟
وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتى؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم، فيقال أدخلوهم الجنة، ثم تلا: « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ » إلى قوله: « وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ » ويقرب من هذه الآية قوله: « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ».
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور.
ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا:
(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.
(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك.
(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه، ولا مطمع وراءه لطامع، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله.
[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
تفسير المفردات
المقت: أشد البغض، والروح: الوحي، يوم التلاقي: هو يوم القيامة وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق، بارزون: أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله - أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم.
وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات، لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحي على من يشاء من عباده، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار - إن مقت الله لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون - أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال.
والخلاصة - إن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه - أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.
ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال:
(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة: « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ».
(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها.
ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا:
(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإنك قادر على ذلك.
وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ » وقوله: « رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ».
فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال:
(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه، فإنكم كنتم فيها إن دعى الله وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال: « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».
ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال:
(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ لله الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شيء، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به، واقتضت حكمته خلودهم في النار، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه.
ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال:
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحد
ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال:
(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر.
(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات، ويستدل بها على عظمة خالقها، إلا من ينيب إلى ربه، ويتفكر في بديع ما خلق، وعظيم ما أوجد، ويترك التقليد واتباع الهوى.
والخلاصة - إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء، وظفر بالفوز، وظهرت له سبل النجاة.
ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال:
(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها، وخالفوا المشركين في مسلكهم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير « أن رسول الله ﷺ كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه ».
وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق - ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال:
(1) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا، لأن كل شيء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وإنه أزلى أبدي ليس لوجوده أول ولا آخر، وإنه العالم بكل شيء « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ».
(2) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح وهي مسخرة له، وإلى ذلك أشار قوله:
(3) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحي بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه.
ونحو الآية قوله: « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ » وقوله: « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ».
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شيء، ولا يسترهم شيء.
(لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ».
ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال:
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه فيقول: لله الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له، القهار لكل شيء سواه بقدرته، الغالب بعزته. وقيل: المجيب هم أهل المحشر، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا.
وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم - أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال:
(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله، فيلاقى أجره، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق، لا يبخس أحد ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله.
روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ فيما يحكيه عن ربه « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ».
ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال:
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة، لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: « يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم - إلى قوله الحساب ».
ونحو الآية قوله: « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » وقال: « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ».
[سورة غافر (40): الآيات 18 الى 20]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
تفسير المفردات
يوم الآزفة: يوم القيامة وسميت بذلك لقربها يقال أزف السفر: أي قرب، قال:
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
والحناجر: واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى، وهي لحمة بين الرأس والعنق، كاظمين: أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج، والحميم: القريب، خائنة الأعين: يراد بها النظر إلى ما لا يحل، ما تخفى الصدور: أي ما تكتمه الضمائر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي - أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.
الإيضاح
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركي قومك يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هي ترجع ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا.
ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال:
(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.
ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال:
(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب، قال ابن عباس في الآية: هي الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها.
وقد اطّلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم.
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته الصدور من النوايا، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزى الذين رددوا النظر، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك - لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شيء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله.
[سورة غافر (40): الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة - أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات.
الإيضاح
حذر الله هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشد منهم بطشا، وأبقى في الأرض آثارا، فلم تنفعهم شدة قواهم، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم؟
قصص موسى عليه السلام مع فرعون
[سورة غافر (40): الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
تفسير المفردات
السلطان: الحجة والبرهان، فرعون: ملك القبط بالديار المصرية، وهامان وزيره، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا، عذت: التجأت وتحصنت، متكبر: أي مستكبر عن اتباع الحق.
المعنى الجملي
لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم - سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بني إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا، فتعوّذ موسى بربه ورب بني إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فإن الله أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته.
وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم.
ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد الله ووجوب العمل بطاعته، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بني إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر.
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:
(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم - إلا ذاهب سدى وباطلا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ».
والخلاصة - إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.
ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بني إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه: دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله.
وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن.
ثم ذكر السبب في قتله فقال:
(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إني أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب.
والخلاصة - إنه يقول: إني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مرّ.
وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.
ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ بالله من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور، فصانه من كل بليّة، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إني استجرت بالله ربى وربكم، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا.
وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة، وأقرب إلى تحقق الغرض، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل « منه » سلوكا لطريق التعريض، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر.
[سورة غافر (40): الآيات 28 الى 29]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)
تفسير المفردات
الرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله: « وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى »، والبينات: هي الشواهد الدالة على صدقه، والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري، ظاهرين: أي غالبين عالين على بني إسرائيل، ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب.
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله، على أن استعاذ بالله من شره - أردف ذلك بيان أن الله قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد في إزالة ذلك الشر.
الإيضاح
(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال: ربى الله وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله، قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال: « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ».
وخلاصة ذلك - أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء، وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص: أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ قال: بينا رسول الله ﷺ يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي ﷺ ثم قال: « أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ ».
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب أنه قال: « أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا أنت، قال أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا لا نعلم، فمن؟ قال أبو بكر: رأيت رسول الله ﷺ وأخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجأ هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم: أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه ».
ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال:
(1) (وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه، فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطا على الكفر، وسخطا على قتل رسوله.
وفي قوله: بعض الذي يعدكم - مبالغة في التحذير، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب.
(2) (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله، ولما عاضده بتلك المعجزات، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.
وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعاء الربوبية، لا يهديه الله إلى سبيل الرشاد، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح.
(3) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه بقتله، فإنه لا قبل لكم به، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد.
وفي قوله: ينصرنا وجاءنا، تطييب لقلوبهم، وإيذان بأنه ناصح لهم، ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه.
ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله:
(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة، وإني لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أعدّ غير هذا صوابا.
[سورة غافر (40): الآيات 30 الى 35]
وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
تفسير المفردات
الأحزاب: أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم، والدأب: العادة، يوم التناد: يوم القيامة، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.
قال أمية بن أبي الصّلت:
وبثّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكانها حتى التّناد
عاصم: أي مانع، مرتاب: أي شاك في دينه، ويوسف: هو يوسف بن يعقوب عليه السلام، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيا عشرين سنة، والسلطان: الحجة، والمقت: أشد الغضب.
المعنى الجملي
بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك - أعاد النصح مرة أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم، فذكّرهم بأس الله وسنته في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين، وكأنّ لسان حاله يقول: هأنذا قد أسمعت، ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه: يا قوم إني أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما، وهذه سنة الله في المكذبين جميعا، فحذار حذار أيها القوم، إني لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله:
(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ) أي وما أهلك الله هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم، وتكذيبهم رسله، بعد أن جاءوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره، وأحل بهم وعيده.
وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروي فقال:
(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا، ليستغيث به من شدة الهول، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادى « أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ » وينادى « أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ».
يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها، فلا يجديكم ذلك شيئا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.
ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال:
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص.
وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.
ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين فقال:
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال: « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها ».
والخلاصة - إنهم كفروا بيوسف في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة.
وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارا منهم برسالته، بل هو ضم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده.
ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس الله بصائرهم، وران على قلوبهم، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام.
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح، يضل الله ويصد عن سبيل الحق، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، لغلبة الوهم عليه، وانهما كه في التقليد.
ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال:
(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأي.
ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال:
(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.
ثم بين أن هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال:
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق.
ونسب التكبر إلى القلب، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي ﷺ « إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ».
قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.
[سورة غافر (40): الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
تفسير المفردات
هامان: وزير فرعون، الصرح: القصر الشامخ المنيف، الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يتوصل به إلى شيء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا الأبواب.
قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ » وقوله سبحانه: « وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ».
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته - أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا » ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان ابن لي قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.
والخلاصة - إن هذا نفى لرسالته من عند ربه.
ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله:
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا) أي وإني لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب، وكأنه يقول: لو كان إله موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض، فإذا هو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال:
(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء، فانهمك في غيّه، واستمر في طغيانه، ولم يرعو بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها، ويثوب بها إلى رشدها.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه، ومهلك أعداءه و« مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وإلى هذا أشار بقوله:
(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شيء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ».
[سورة غافر (40): الآيات 38 الى 46]
وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)
تفسير المفردات
الرشاد: ضد الغي والضلال، متاع: أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول، دار القرار: أي دار البقاء والدوام، إلى النجاة: أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة، إلى النار: أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار، ما ليس لي به علم: أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان، لا جرم: أي حقّا، دعوة: أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه، مردّنا: أي مرجعنا، وأن المسرفين، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم، فستذكرون: أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب، وقاه: حفظه، يعرضون عليها: أي تعرض أرواحهم عليها.
المعنى الجملي
اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هي الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم مني ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى.
ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال:
(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هي دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم.
ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال:
(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أيمن عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره، وانتهى عما نهى عنه، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.
ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال:
(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبروني كيف أنتم وما حالكم، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون مني من الشرك؟.
ثم فسر الدعوتين بقوله:
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.
ونحو الآية: « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » وقوله: « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ».
(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.
ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:
(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم، وإني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.
ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال:
(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمري وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال:
(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.
ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال:
(فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا، إذ نجاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.
وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.
ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم: أدخلوا آل فرعون النار.
قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما روى البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ قال « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة، ثم قرأ: « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ».
وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: « ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب وقرأ: « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ».
وقد أثبت علماء الأرواح حديثا، نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد في نومه، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروى أنه كان في حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء، وجمال ورواء.
[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 50]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
تفسير المفردات
المحاجة: المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر، الضعفاء: الأتباع والمرءوسون، والمستكبرون: السادة أولو الرأي فيهم، والتبع: واحدهم تابع كخدم وخادم، مغنون: أي دافعون، نصيبا: أي قسطا وجزءا، حكم: قضى، الخزنة: واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار، ضلال: أي في ضياع وخسار.
الإيضاح
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ؟) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولو لا أنتم لكنا مؤمنين.
ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.
فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله:
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء: إنا جميعا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم.
وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء.
(إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وكل منا كافر، وكل منا يستحق العقاب، ولا يغني أحد عن أحد شيئا.
ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.
فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب.
(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) أي أوما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة؟.
فأجابوهم:
(قالُوا بَلى) أي قالوا أتونا فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة، والبراهين الساطعة، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.
(قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.
روى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء قال: « يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلون لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: « ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ » فيجيبونهم: « أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ »
[سورة غافر (40): الآيات 51 الى 56]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
تفسير المفردات
يوم يقوم الأشهاد: هو يوم القيامة، والأشهاد: واحدهم شهيد بمعنى شاهد، والهدى: ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع، والإبكار: أول النهار إلى نصفه، والعشى: من النصف إلى آخر النهار، والسلطان: الحجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه - أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور.
الإيضاح
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد ﷺ بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل - وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله.
وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها - بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ».
(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة الله، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم.
ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة في الدنيا فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.
وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا ﷺ بقوله:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك، على من كذبك وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى: « وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ».
وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله وألا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: « يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ».
ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة - ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك، لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا في خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأماني.
والخلاصة - إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلهم.
ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال:
(فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى الله تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك، فهو السميع لأفوالهم، البصير بأفعالهم، لا يخفى عليه شيء منها.
[سورة غافر (40): الآيات 57 الى 59]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أقيسة وهمية، وقضايا جدلية، كقولهم: « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ » وقولهم: « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ » ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى: « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ».
الإيضاح
(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة - أعظم في النفوس وأجل في الصدور، من خلق الناس لكبر أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن الله لا يعجزه شيء.
وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال:
(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به - والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهي لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال: « وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ».
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ) أي وكذلك لا يستوي المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ».
(قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج الله فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.
ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر - أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال:
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه الله الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فأيقنوا بمجيئه، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.
[سورة غافر (40): الآيات 60 الى 65]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
تفسير المفردات
ادعوني: أي اعبدوني، أستجب لكم: أي أثبكم على عبادتكم إياي، داخرين: أي صاغرين أذلاء، لتسكنوا فيه: أي لتستريحوا فيه، مبصرا: أي يبصر فيه، تؤفكون: أي تصرفون، قرارا: أي مستقرا، بناء: أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها، فتبارك: أي تقدس وتنزه، الدين: الطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة الله والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة، لا جرم أمر الله تعالى بها في هذه الآية.
ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات.
الإيضاح
(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله: « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثًا » وما
رواه النعمان بن بشير قال:
قال رسول الله ﷺ « الدعاء هو العبادة » ثم قرأ: « وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله: داخِرِينَ ». أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.
ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر، ويرجحه ما روى عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ « الدعاء الاستغفار »
وعن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ « من لم يدع الله يغضب عليه ». أخرجه أحمد والحاكم.
وعن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال « لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء » أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ « الدعاء مخ العبادة » أخرجه الترمذي.
وعن ابن عباس قال: « أفضل العبادة الدعاء » وقرأ هذه الآية.
وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت « سئل النبي ﷺ أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه ».
ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم كبير، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم إليه، وعوّلوا في كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.
ولما أمر بالدعاء، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ - ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال:
(1) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له، ولا تنبغى العبادة لغيره - هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة.
(2) (وَالنَّهارَ مُبْصِرًا) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات.
ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى.
ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال:
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ » وقوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ».
ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال:
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهي مخلوقة منحوتة بأيديكم.
ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال:
(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير الله ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى.
وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال:
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا وَالسَّماءَ بِناءً) أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.
وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان - ذكر دلائل الأنفس فقال:
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة، بادى البشرة، متناسب الأعضاء، مهيأ لمزاولة الصناعات، واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا من لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين.
ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال:
(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا.
ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره، وعن ابن عباس أنه قال: « من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها: الحمد لله رب العالمين » وذلك قوله: « فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».
[سورة غافر (40): الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال - أمر رسوله ﷺ أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة، لا الأحجار المنصوبة، والخشب المصوّرة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت.
الإيضاح
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك من قريش وغيرهم: إني نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتنى الأدلة من عند ربي وهي آيات الكتاب الذي أنزله علي وهي مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها.
وجملة ذلك - إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.
ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله - أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال:
(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له ديني.
ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المنى، والمنى مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء - ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.
وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب:
(1) الطفولة. (2) بلوغ الأشد. (3) الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر - استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة فقال:
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة.
وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور.
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
تفسير المفردات
الكتاب: القرآن، يسحبون: أي يجرّون، الحميم: الماء الحار، يسجرون: أي يحرقون، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه: « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » أي: المملوء، ضلوا عنا: أي غابوا، تفرحون: أي تبطرون، تمرحون: تختالون أشرارا وبطرا.
المعنى الجملي
عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها، كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.
ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله:
(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات.
ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال:
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار.
ونحو الآية قوله: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ » وقوله: « خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ».
ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال:
(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) أي ثم يسألون ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء - لا، بل الحق أننا ما كنا ندعوا في الدنيا شيئا يعتدّ به، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشىء، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا.
والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل الله تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها.
ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال:
(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب، بسبب فرحكم لذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات.
(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى: « لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » خالدين فيها أبدا، فبئس منزل المتكبرين على الله في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله - جهنم.
[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، إن الله سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال:
(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك في حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ونحو الآية قوله: « فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ».
ثم قال مسلّيا رسوله:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.
وعن أبي ذر قال: « قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا » رواه الإمام أحمد.
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل التعنت والعناد لا للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء.
[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
المعنى الجملي
بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد - عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا: الإبل خاصة، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية:
(1) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق.
(2) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى.
(3) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر، وهي لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا « الجمل سفينة الصحراء » وقال شاعرهم يصف ذلك:
ما فرّق الألّاف بعد الله إلا الإبل وما غراب البين إلا ناقة أو جمل
وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر.
ونحو الآية قوله في سورة النحل « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ».
ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال:
(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) أيإنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون، وهي ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.
وقصارى ذلك - إنكم لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.
[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
المعنى الجملي
ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته، طلبا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل، لا يغني عنهم من الله شيئا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنّى لهم ذلك؟، وهيهات هيهات.
فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا، سنة الله في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟
الإيضاح
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش - في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد - إلى ما حل بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد بطشا، وأقوى جندا، وأبقى في الأرض أثرا، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهراما ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم: « وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ » وقولهم: « لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا » وقولهم:
(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ » ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية.
وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة، وشبههم الدّاحضة علما، تهكما واستهزاء بهم.
ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.
ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فقال سبحانه:
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: « آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ » - « آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟ ».
وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال:
(سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.
وقصارى ذلك - إن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة، وقد جاء في الحديث « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر » أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة، ولهذا قال: « وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ».
اللهم اقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وآمن روعتنا: واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الجدل بالباطل في آيات الله.
(3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.
(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.
(5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.
(6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.
(7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.
(8) أمر الرسول ﷺ بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
(9) تعداد نعم الله على عباده في البر والبحر.