رسالة السجزي إلى أهل زبيد/الفصل السادس


الفصل السادس: في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما

ينبغي أن ينظر في كتب من درج وأخبار من سلف هل قال أحد منهم: إن الحروف المتسقة التي [ يتأتى ] سماعها وفهمها ليست بكلام الله سبحانه على الحقيقة؟ وأن الكلام غيرها ومخالف لها، وأنه معنى لا يدرى ما هو غير محتمل شرحا وتفسيرا؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل والسلف، وأهل النحل قبل مخالفينا الكلابية والأشعرية عذروا في موافقتهم إياه.

وإن لم يرد ذلك عمن سلف من القرون والأمم ولا نطق به كتاب منزل ولا فاه به نبي مرسل ولا اقتضاه عقل، علم جهل مخالفينا و[ ابتداعهم ] ولن يقدر أحد في علمي على إيراد ذلك عن الأوائل ولا اتخاذه [ دينا ] في أثر أو عقل. وكل ما يتعلق به مخالفونا في هذا الفصل فمن المجاز أو بنيات الطريق. والعقل والسمع معا يؤيدان ما نقوله، وبه نطق الكتاب والأثر، وثبت العرف به.

فأما تعلقهم ببيت الأخطل فإن معنى قوله: إن البيان من الفؤاد....

هو أن المرء إنما [ ينوي ] في نفسه أولا ما يريد أن يتكلم به، فالموجب للبيان هو الذي انطوى عليه القلب وحقيقة الكلام هو النطق به المسموع لا غير. والذي قاله الأخطل إنما يكون في أوقات مخصوصة لآحاد من الناس والغالب من أحوالهم الكلام على الهاجس بما لم يرددوه في أنفسهم ولم يهموا به.

ولو كان حقيقة الكلام ما يتعلق بالفؤاد دون النطق لكان كل ذي فؤاد ناطقا متكلما في حال سكوته، ووجود الآفة به، كالأخرس والطفل النائم.

ولا خلاف بين العقلاء في أن الطفل الرضيع أول ما يولد غير متكلم وأن الأخرس والساكت ليسا بمتكلمين، وكذلك النائم في الغالب.

وقد دل القرآن على أن القرآن هو النطق، وذلك قوله سبحانه { وإذا قريء القرءآن فاستمعوا له وأنصتوا } والإنصات عند العرب ترك النطق وقال النبي ( رحم الله من تكلم فغنم أو سكت فسلم ) فعلم بذلك أن السكوت والكلام لا يجتمعان في الوقت الواحد، في محل واحد ولا خلاف بين صدور علماء المسلمين في أن من قال في نفسه: عبدي حر من غير أن ينطق بذلك لم يعتق عبده.

ولو قال: عبدي حر نطقا ثم قال: لم أنو بما قلت عتقه حكم بعتق العبد ولم يلتفت إلى نيته.

ولو قال إنسان في نفسه: أم فلان زانية أو فلان زان ولم ينطق بذلك لم يلزمه حد القذف وإن نطق بذلك وقال: ما في نفسي شيء مما قلته حٌد ولم يلتفت إلى ما في نفسه.

وغير جائز عند ذوي التحصيل تعلق الأحكام بالمجاز دون الحقيقة فيها فلما وجدنا أحكام الشريعة المتعلقة بالكلام منوطة بالنطق الذي هو حرف وصوت، دون ما في النفس، علمنا أن حقيقة الكلام هي الحرف والصوت.

ولو حلف امرؤ أنه لا يتكلم ساعة من النهار، فأقام في تلك الساعة يحدث نفسه بأشياء، ولا ينطق بها، كان بارا غير حانث، ولو كان الكلام هو ما في النفس حنث في أول ما يحدث به نفسه.

فإن قيل: الإيمان إنما تعلق بالعرف فلذلك لم يحنث إذا لم ينطق قيل: هذا أعظم الحجج عليكم لأنكم ألجئتم إلى الإقرار بأن عرف الناس كافة هو: أن حقيقة الكلام هي النطق الذي لا يعرى عن حرف وصوت، دون ما في النفس.

ولو كان الكلام من الفؤاد على ما زعموا لم يجز أن يوصف الله سبحانه بالكلام أصلا لأنه ليس بذي فؤاد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والأخطل نصراني إسلامي وهو ومن تقدمه من شعراء الجاهلية إنما نحتج بقولهم في موضوعات لغة العرب.

ومعرفة الكلام ما هو مما يشترك فيه العرب وسائر الناس ولا يحتج فيه ببيت نادر مع ظهور فساده.

وأما احتجاجهم بقوله الله سبحانه وتعالى { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } فنقلت عليهم لأن القول لما كان في الحقيقة هو الحروف المتسقة المسموعة والذي من المنافقين بخلاف ذلك بين الله سبحانه أنهم قالوه في أنفسهم.

ونحن لا ننكر تجويز العرب وسائر العقلاء أن يقال: قلت في نفسي وحدثت نفسي، وإنما نقول إن ذلك تجوز واتساع وليس بحقيقة الكلام لما ذكرنا أولا من تعلق الأحكام بما هو حروف دون ما في النفس.

وأما تعلقهم بقوله جل جلاله { فأسرها يوسف في نسفه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا } فمثل الأول ، والقول في النفس مجاز وإنما سمي وإنما سمي بذلك لأنه يصير في ثاني الحال قولا والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان قريبا منه أو كان منه بسبب.

وقد ذكرنا قول الأوائل والعرب قبل هذا وأن الكلام هو الحروف المتسقة والأصوات المتقطعة والاسم والفعل والحرف الجاي لمعنى وقد ( نهى النبي عن صوم الصمت ).

وإذا كان الصامت متكلما في حال صمته فلا معنى للنهي.

ومن قول الحكماء [ لئن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب ] ففضل السكوت على الكلام لاقتران السلامة به. فإن النبي قال ( من صمت نجا ).

والشاعر قال:

ما إن ندمت على سكوت مرة فلقد ندمت على الكلام مرارا

والذي يقول في نفسه من غير أن ينطق به ساكت عند الخلق كافة ولا يقع التفاضل بينه وبين السكوت وإنما يقع ذلك بين النطق بالحروف والأصوات والسكوت عنه.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث السقيفة: [ كنت زورت في نفسي مقالة أردت أن أقوم بها بين يدي أبي بكر ] فبين أنه لم يقم بها في حال تزوره.

والتزوير في هذا الموضع هو أن يروي المرء في نفسه أولا ما يحب أن يتكلم به ويصلحه، ويتأمل إن قيل به، حتى يتصور كالمقول ثم ينطق به وهذا شأن ذوي التحصيل خيفة منهم على وقوع الزلل مع العجلة.

وقال النبي : ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به ). وهو حديث صحيح مشهور، وقد تلقته الأمة بالقبول وعلقوا به كثيرا من الأحكام. وقد أخرج النبي حديث النفس عن أن يكون كلاما في الحقيقة بقوله: ( ما لم تكلم به ) فبين أن من [حدث ] نفسه بالشيء غير متكلم به في تلك الحالة وغير مؤاخذ بما كان فيه.

وقال اليزيدي في كتاب "ما اتفق لفظه واختلف معناه من لغات العرب": الحرف هو الواحد من حروف الكلام والحرف حرف البئر وحرف الرغيف وحرف كل شيء جانبه والحرف الشك فسروا قوله عز وجل { على حرف } على شك والحرف الناقة الضامرة التي قد نحلت.

فبين أن الكلام عند العرب هو الحروف لا غير.

واليهود والنصارى مقرون بأن لله كلاما ومختلفون في نفي الخلق عنه وإثباته كاختلاف المسلمين ومجمعون على أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا فإن قال قائل: إن أكثر ما ذكرت في هذا الفصل مما يتعلق بالشاهد والله تعالى بخلاف المشاهدات فوجب أن لا يكون كلامه حرفا وصوتا إلا أن يأتي نص من الكتاب أو إجماع من الأمة أو خير من أخبار التواتر بأن كلام الله سبحانه حرف وصوت.

قيل له: الواجب أن يعلم أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم ولم يبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه ولا فسرها النبي لما أداها بتفسير يخالف الظاهر فهي على ما يعقلونه ويتعارفونه.

والذي يوضح ذلك: هو أن الله سبحانه قد أثبت لذاته علما ونطق بذلك كتابه فقال { أنزله بعلمه } وكان المعقول من العلم عند المخاطبين به أنه إدراك المعلوم على ما هو به فكان علم الله سبحانه إدراك المعلوم على ما هو به وعلم المحدث أيضا إدراك المعلوم على ما هو به.

وكذلك لما أثبت لنفسه السمع بدلالة النص حيث قال: { إن الله كان سميعا بصيرا } وقال النبي في ذكر الحجب: ( ما أدركه بصره ) وقالت عائشة رضي الله عنها: ( يا سبحان من وسع سمعه الأصوات ) وكان المعقول أن السمع هو إدراك المسموعات على ما هي به والبصر إدراك كل ما يبصر على ما هو به كان سمعه سبحانه إدراك المسموع وبصره وإدراك ما يبصر به وكذلك سمع المحدث وبصره ومع ذلك فليس مثل علمه علم ولا مثل سمعه وبصره سمع ولا بصر لأن علمه صفة لازمة لذاته سبحانه في الأزل لا يدخل عليه السهو ولا يجوز الجهل ولا النسيان.

وعلم المحدث عرض مكتسب يوجد وقتا ويعدم وقتا.

وكذلك السمع والبصر ليسا من الله تعالى بجارحتين وهما من المحدث جارحتان.

وهذه القضية توجب أن يكون كلامه حرفا وصوتا وكذلك كلام المحدث إلا أن كلامه معجز ولا انتهاء له وأزلي وكلام المحدث غير معجز وهو متناه وعرض لم يكن في وقت ولا يكون في وقت.

وكلامه سبحانه بلا أداة ولا آلة ولا جارحة وكلام المحدث لا يوجد إلا عن أداة وآلة وجارحة في المعتاد.

وقول الأشعري: "لما كان سمعه بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت " مغالطة وبناؤه لا يقتضي ما قاله وإنما يقتضي: أن سمعه لما كان بلا انخراق وجب أن يكون كلامه من غير لسان وشفتين وحنك ولو قال ذلك لاستمر ولم يقع فيه خلاف وإنما موه وغالط ويمر ذلك على من قصر علمه.

فهذا الذي ذكرناه من طريق العقل الذي يدعون أنه الحجة القاطعة.

وأما على طريقتنا فالله سبحانه قد بين في كتابه ما كلامه؟ وبين ذلك رسوله واعترف به الصدر الأول والسلف الصالح رحمهم الله وآمنوا به.

فقال الله سبحانه { فأجره حتى يسمع كلام الله } وقال { فاقرءوا ما تيسر من القرءآن } وقال: { فاقرءوا ما تيسر منه } وما سمع مستجير قط إلا كلاما ذا حروف وأصوات ولا قرأ قارئ البتة إلا ذلك.

فلما ( سمى ) سبحانه هذا القرآن العربي ( الفصل ) كلامه علم أن كلامه حروف كيف وقد أكد ذلك بذكر الحروف المقطعة في أوائل السور منه مثل:"آلم" و"الر" و"كهيعص" و"طه" و"حم" و"يس" و"ص" و"ق" و"نون".

فمن زعم أنها ليست من القرآن فهو كافر ومن زعم أنها من القرآن والقرآن ليس بكلام الله فهو كافر ومن زعم أنها عبارة عن الكلام الذي لا حروف فيه قيل له: هذا جهل وغباء لأن الكلام الذي تزعمه ليس يعرف سواك ولا يدري ما هو غيرك وأنت أيضا لا تدريه وإنما تتخبط فيه.

ثم لو كان قولك صحيحا لوجب أن تكون عنه مفهومة المعنى بالاتفاق لأن موضوع العبارة التفسير ليفهم ما أشكل من ظاهر الكلام فإذا كان الكلام شيئا واحدا لا يدرى ما تفسيره وكانت العبارة حروفا كثير الاختلاف في معانيها ولم يتفق على معنى منها لم تفد العبارة شيئا.

والنبي يقول: ( من قرأ سورة الإخلاص ) ومن ( قرأ آية الكرسي ) و ( من قرأ حرفا من القرآن ) فبين أن القرآن سور وآي وحروف ويقول: ( من حلف بسورة البقرة لزمه في كل آية كفارة ) وروي ( في كل حرف ) وأفتى بذلك غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم منهم عبد الله بن مسعود وأبو هريرة.

وأظهر مما ذكرنا ويبين خزي مخالفنا فيه قول الله سبحانه { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وكن حرفان ولا يخلو الأمر من أحد وجهين إما أن يكون المراد بقوله: { كن } التكوين كما قالت المعتزلة أو يكون المراد به ظاهره وأن الله تعالى إذا أراد إنجاز شيء قال له كن. على الحقيقة فيكون.

وقد اتفق الأشعري معنا على أنه على ظاهره لا بمعنى التكوين واستدل على نفي الخلق عن القرآن لما رد على المعتزلة بقوله: ( كن ) فإن ثبت على أنه فاعل ظاهره فهو حرفان وانتقص مذهبه وإن قال: إنه ليس بحرف البتة صار بمعنى التكوين ولم يبق بينه وبين المعتزلة فرق.

وأيضا فلو كان الكلام غير حرف وكانت الحروف عبارة عنه لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارة بحكم إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده فتكون منسوبة إليه.

( فيلزم ) الأشعري أو من قال بقوله أن يفصح بما عنده في السور والآي والحروف أهي عبارة جبريل أم عبارة محمد عليهم في التفسير والمعاني.

وأن يجيز لهم القراءة في الصلاة بأي لغة أرادوا: إذا أدوا معنى ما في السور لأن التضييق إنما وقع لكون السور كلام الله فأما من قال: إنها ليست كلام الله البتة فلا معنى لتضييقه.

والإجماع حاصل من الفقهاء على أن الصلاة لا تجزي إلا بقراءة هذا النظم على ما هو به إلا ما كان من أبي حنيفة فإنه قال: " تجوز القراءة بالفارسية" وقد سألت القاضي أبا جعفر النسفي عن هذه المسألة فحكى عن أبي بكر أنها تجوز عند أبي حنيفة إن سميت الفارسية قرأنا وقال أبو جعفر فالكلام يرجع إلى ارتفاع الخف.

وسألت أبا محمد عبد الله بن الحسين الناصحي قاضي قضاة خراسان عنها فقال: ( إنما تجوز القراءة بالفارسية إذا وافقت النظم والبلاغة ) وذلك متعذر. ثم عند أبي حنيفة لا يجوز أن يقرأ بالعربية بغير ألفاظه ومقتضى مذهب الأشعري جواز ذلك.

وإذا أفصح بأنها عبارة محمد وافق الوليد بن المغيرة لما قال: {إن هذا إلا قول البشر } ونحن نقول هو كلام الله تعالى لقوله سبحانه { فأجره حتى يسمع كلام الله } فمن لم يميز بين المقالتين كان كمن حش له فهذا في الحروف.

وأما الصوت: فقد زعموا أنه لا يخرج إلا من هواء بين جرمين ولذلك لا يجوز وجوده في ذات الله تعالى. والذي قالوه باطل من وجوه: ألا ترى أن النبي ذكر سلام الحجر عليه وعلم تسبيح الحصى في يده وتسبيح الطعام بين يديه وحين الجذع عند مفارقته إياه وما ( جاء ) لشيء من ذلك هواء منخرق بين جرمين.

وقد أقر الأشعري أن السماوات والأرض قالتا ( أتينا طائعين ) حقيقة لا مجاز ولا خلاف بين العقلاء.............. في أن الله سبحانه قادر على أن ينطق الحجر الأصم على ما هو به وقال الأشعري: ( بعد أن يجعل فيه روحا) والناس كلهم مخالفون له فيما قال.

وإذا وصف بقدرة على إنطاق الحجر الأصم على ما هو به بطل قول من زعم أن وجود الصوت غير جائز إلا من هواء بين جرمين.

ثم لو كان الأمر على ما زعموا، لم يجب أن لا يوصف الله سبحانه بما يخالف الشاهد إلا ترى أن الله سبحانه بالاتفاق واحد، حي، قادر، عالم، سميع، بصير، قوي، مريد، فاعل، وليس بجسم ولا في معناه.

وفي الشاهد لا يجوز وجود حي عالم، قادر، سميع بصير، إلا جسما وإذا صح ما ذكرناه لم يضرنا قول من عزم أن الصوت في الشاهد لا يوجد إلا من هواء من منخرق بين جرمين كيف وقد بينا بطلان دعواه قبل هذا.

وقبل كل شيء ينبغي أن يعلم اعتمادنا في المعتقدات أجمع على السمع فإذا ورد السمع بشيء قلنا به ولم نلتفت إلى شبهة يدعيها مخالف.

وقد ورد السمع بذكر الصوت من قبل الله تعالى، ومن قبل أنبيائه ( عليهم السلام ) ومن قبل الأئمة والعلماء بعدهم.

قال الله سبحانه لموسى عليه السلام { فاستمع لما يوحى } وكان يكلمه من وراء حجاب لا ترجمان بينهما واستماع البشر في الحقيقة لا يقع إلا للصوت، ومن زعم أن غير الصوت يجوز في المعقول أن يسمعه من كان على هذه البينة التي نحن عليها احتاج إلى دليل.

وقد روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن جرير بن جابر عن كعب أن قال: "لما كلم الله موسى عليه السلام كلمة بالألسنة كلها قبل لسانه فطفق موسى يقول " والله يا رب ما أفقه هذا حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته " وذكر الحديث.

وهذا محفوظ عن الزهري رواه عنه ابن أبي عتيق والزبيدي ومعمر ويونس ابن يزيد وشعيب بن أبي حمزة وهؤلاء كلهم أئمة ولم ينكره واحد منهم.

وقوله: بمثل صوت معناه: أن موسى عليه السلام حسبه مثل صوته في تمكنه من سماعه وثباته عنده ويوضح صحة هذا آخر الحديث فإنه قال:( لو كلمتك يا موسى بكلامي لم تك شيئا ولم تستقم له ) وروى عن وهب بن منبه أنه قال: لما سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى أنس بالصوت فقال: ( يا رب [ اسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال الله سبحانه أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك ومحيط بك ) وذكر الحديث.

وروى أبو الحويرث أن قوم موسى عليه السلام كانوا ينظرون إلى أذنه فقال عليه السلام ( ما لكم تنظرون إلى أذني؟ فقالوا: أذن سمعت كلام الله سبحانه ) وروى همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنس عن النبي أنه قال: ( يحشر الله الناس يوم القيامة عراة حفاة بهما فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أن الديان وذكر الحديث، رواه عن همام، يزيد بن هارون وأبو الوليد الطيالسي وجماعة من الأئمة واستشهد به البخاري في كتابه الصحيح.

وروى عطية بن سعيد وأبو صالح السمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي في ذكر إسرافيل أنه قد التقم القرن بفيه وحتى جبهته وأصغى سمعه تحت العرش ينتظر متى يؤمر فينفخ والنفخة الآخرة التي للبعث قد نطقت الأخبار بأنها تكون ولا حي إذ ذاك إلا الله سبحانه ثم إن إسرافيل فإصغاءه سمعته تحت العرس انتظارا للأمر لا يكون إلا لصوت الأمر.

وقال الله تعالى { وإذ نادى ربك موسى } وقال تعالى { هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى } وقال جل جلاله { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } والنداء عند العرب صوت لا غير ولم يرد عن الله تعالى ولا عن رسوله عليه السلام أنه من عند الله غير صوت.

ولا خلاف بيننا في أن موسى مكلم بلا واسطة فسقط قول من زعم أن العرب تقول: نادى الأمير من ينادي.

وروى أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال: إذا تكلم الله سبحانه بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا ).

ذكره بهذا اللفظ عبد الله بن أحمد عن أبيه في " كتاب الرد على الجهمية " وما في رواته إلا إمام مقبول.

وقد ذكرنا في كتاب الإبانة عدة أحاديث سوى ما ذكرناه ها هنا في ذكر الصوت وحد الصوت هو ما يتحقق سماعه، فكل متحقق سماعه صوت وكل ما لا يتأتى سماعه البتة ليس بصوت.

وصحة الحد هذا وهو أن يكون مطردا منعكسا يمنع غيره من الدخول عليه. وأما قول خصومنا إن الصوت هو الخارج من هواء بين جرمين فحد غير صحيح لأنا قد بينا أنه قد يوجد خلاف ما زعموه والله أعلم.

فإن قالوا: الصوت والحرف إذا ثبتا في الكلام اقتضينا عددا والله سبحانه واحد من كل وجه.

قيل لهم: قد بينا لك مرارا أن اعتماد أولي الحق في هذه الأبواب على السمع وقد ورد السمع بأن القرآن ذو عدد وأقر المسلمون بأنه كلام الله حقيقة لا مجازا.

وكلامه صفة وقد عد الأشعري صفات الله سبحانه ( سبع عشرة ) صفة وبين أن منها مالا يعلم إلا بالسمع وإذا جاز أن يوصف بصفات معدودة لم يلزمنا بدخول العدد في الحروف شيء.

فإن قالوا: إن التعاقب يدخلها وكل ما تأخر عن ما سبقه محدث.

قيل: دخول التعاقب إنما يتعين فيما يتكلم بأداة والأداة تعجز عن أداء شيء إلا بعد الفراغ من غيره.

وأما المتكلم بلا جارحة فلا يتعين في تكلمه التعاقب.

وقد اتفقت العلماء على أن الله سبحانه يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده وهذا خلاف التعاقب.

ثم لو ثبت التعاقب لم يضرنا لأن النبي قال لما خرج من باب الصفا ( نبدأ بما بدأ الله به ثم قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله ) فبين أن الله بدأ بذكر الصفا والقرآن كله بإجماع المسلمين كلام الله سبحانه وفي هذا القدر كفاية لمن وفق للصواب

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب " الرد على الجهمية " سألت أبي فقلت " إن قوما يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت فقال أبي: بلى إن الله يتكلم بصوت وإنما ( ينكر ) هذا الجهمية وإنما يدورون على التعطيل واحتج بحديث عبد الرحمن بن محمد المحاربي الذي سقناه.

فقول خصومنا إن أحدا لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت كذب وزور بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك وإذا أوردنا فيه المسند وقول الصحابة من غير مخالفة وقعت بينهم في ذلك صار كالإجماع.

ولم أجد أحدا يعتد به ولا يعرف ببدعة [ من ] نفر من ذكر الصوت إلا [ البويطي ] إن صح عنه ذلك فإن عند أهل مصر رسالة يزعمون أنها عنه وفيها: لا أقول إن كلام الله حرف وصوت ولا أقول إنه ليس بحرف وصوت وهذا إن صح عنه فليس فيه أكثر من أعلامنا أنه لم يتبين هذه المسألة ولم يقف على الصواب فيها.

وأما غيره ممن نفا الحرف والصوت فمبتدع ظاهر البدعة أو مقروف بها مهجور على ما جرى منه.... والله الموفق للصواب.

رسالة السجزي إلى أهل زبيد لأبي نصر السجزي
المقدمة | الفصل الأول في إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة في التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب | الفصل الثاني في (بيان ما هي السنة وبم يصير المرء من أهلها) | الفصل الثالث في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة | الفصل الرابع في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الخامس بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل السادس في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما | الفصل السابع بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل الثامن في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات | الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم | الفصل العاشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الحادي عشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه