ذكرما جاء من الأشعار محتملاً للهجاء والافتخارأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الثامن والثمانون ذكرما جاء من الأشعار محتملا للهجاء والافتخار
أخبرنا الحارث بن أسامة عن زيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن قدامة قال عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: كانت أم عبد الله بن عمرو بن العاص وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج وكانت تلطف برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأتاها ذات يوم فقال لها كيف أنتِ يا أم عبد الله قالت بخير وعبد الله رجل قد ترك الدُّنيا فقال له أبوه يوم صفين اخرج فقاتل فقال يا أبتي كيف تأمرني أن أخرج فأقاتل وكان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قد سمعت. فقال: نشدتك الله أتعلم أن آخر ما كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليك أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: أطع عمرو بن العاص، قال فإنِّي آمرك أن تقاتل فخرج فقاتل فلما وضعت الحرب أوزارها أنشأ عمرو بن العاص يقول فذكر أبياتاً بعدها، وقال عبد الله بن عمر:
ولو شهدت جمل مقامي ومشهدي
بصفّين يوما شاب منها الذوائب
وعشية جا أهلُ العراق كأنهم
سحاب ربيع رفّعته الجنائب
وجئناهم تردى كأن خيولنا
من البحر مدٌّ موجه متراكب
فدارت رحانا فاستدارت رحاهم
شداة النهار ما تزل المناكب
إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا
كتائب منهم وارجحنّت كتائب
فقالوا لنا إنّا نرى أن تبايعوا
عليّاً فقالوا بل نرى أن نضارب
قال أبو بكر قائل هذا الشعر قد أجاد تأليفه وأحكم ترصيفه غير أنَّه لم يعلمنا بقوله أقصد إلى ذم أعدائه أم مدحهم وكذلك لم يتبين أمر الضَّيف الذين هو منهم لأنه لم يحرز ذماً ولا مدحاً لهم ولغيرهم وقال:
فلم أرَ حيّاً صابروا مثل صبرنا
ولا كافحوا مثل الذين نكافحُ
إذا شئت لاقاني كميٌّ مدججٌ
علَى أعوجي بالطعان مسامحُ
وأقبل صفّانا وفي عارضيهما
جنيّ تُرى فيه البروق اللوامحُ
إذا أقبلوا في السابغات حسبتهم
سيولاً إذا جاشت بهنَّ الأباطحُ
كأن القنا الخطِّي فينا وفيهمُ
شواطن بئرٍ هيجتها المواتحُ
وثم فرقنا بالرّماح ولم يكن
هنالك في جمع الفريقين رامحُ
ودرنا كما دارت علَى قطبها الرحى
ودارت علَى هام الرِّجال الصفائحُ
فقلت عيون حين دارت رحاهُمُ
لما قطرت من خشية الموت طامح
وقال زفر بن الحارث:
وكُنّا حسبْنا كلَّ بيضاءَ شحمةً
ليالي لاقينا جُذامَ وحمْيَرا
فلما قرعنا النَّبْعَ بالنَّبع بعضهُ
ببعضٍ أبتْ عيدانهُ أن تكسَّرا
سقيناهمُ كأساً سقونا بمثلها
ولكنهمْ كانوا علَى الموت أصبرا
وبلغنا أن الزبرقان بن بدر استعدى عمر بن الخطاب على الحطيئة فقال أنَّه هجاني. قال وما قال لك؟ قال: قال:
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها
واقعدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي
قال له عمر: ما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً. قال له: والله لولا الإسلام لأنكرتني، قال ما أعلمه هجاك ولكن ادع ابن الفريعة بعني حساناً. فلما جاءه حسان قال له عمر أهجاه قال لا يا أمير المؤمنين ولكنه سلح عليه. قال فقال عمر للحطيئة: لأحسبنَّك أوْ لتكفنَّ عن أعراض المسلمين قال يا أمير المؤمنين لكل مقام مقال. قال وإنك لتهددني فحبسه فلما حبسه كتب إليه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ
زُغب الشوارب لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهُمْ في قعْرِ مُظْلمةٍ
فارحمْ عليك سلامُ الله يا عمرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينهمُ
من عرض داوية يعمى بها الخبرُ
قال: فلما قرأها عمر رقَّ له وخلَّى سبيله. وبيت الحطيئة وإن كان غيره أشدّ إيضاحاً بالهجاء منه، فإن معه ما يوضح عن مراد صاحبه ويزيل توهم المديح فيه عن سامعه وهو:
ما كان ذنبُ بَغيضٍ لا أبا لكمُ
في يابس جاء يحدو آخر النَّاس
ملّوا قِراهُ وهرَّتْهُ كلابهمُ
وقطَّعوهُ بأنيابٍ وأضراسِ
لمّا بدا ليَ منكمْ خبثُ أنفسكم
ولم يكنْ لجراحي منكمُ آسي
أزمعتُ يأساً مُبيناً من نوالكمُ
ولن ترى طارداً للمرءِ كالياسِ
ويُرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع:
وقبيلةٍ لا يغدرون بجارهم
ولا يظلمون النَّاس حبة جرولِ
قال وما تستوي أن ابن الخطاب كذلك فلما سمع:
ولا يردون الماء إلاَّ عشيّةً
إذا صدروا الورّاد عن كل منهلِ
قال ما أحبّ كل هذه الذلة، ومع هذين البيتين ما يوضح على أنهما هجاء صحيح غير مشبَّه بشيء من المديح وهو:
أولئك أخوال اللئيم وأسرة ال
هجين ورهط الخائن المتبدّلِ
إذا الله عادى أهل لؤم وشرّةٍ
فعادى بني القعقاع رهط ابن مقبلِ
وقال رجلٌ من بني العنبر:
لو كنت من مازنٍ لم تستبحْ إبلي
بنو اللَّقيطة من ذُهْلِ بنِ شَيْبانا
إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشنٌ
عند الحفيظةِ إنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيهِ لهمْ
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهُم حين يندبُهمْ
في النائبات علَى ما قال بُرهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ
ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
يجزونَ من ظلمِ أهل الظُّلم مغفرةً
ومن إساءةِ أهلِ السُّوء إحسانا
كأن ربَّكَ لم يخلقْ بخشيتهِ
سواهُمُ من جميع الناسِ إنسانا
وقال البحتري:
فضلُ الخلائفِ في الخلائف واقفٌ
في الرُّتبة العُليا وفضلُك أفضلُ
أوفيتَ عاشرهمْ فإن يدنوا إلى
كرم وإحسانٍ فأنتَ الأولُ
فهذا إن شاء إنسانٌ يصير به إلى غاية المدح، وإن شاء آخر أن يصرفه إلى غاية الذم، وجد كلُّ امرئ منهم مقالا. أي مدح أبلغ من أن يكون كل ما دين من الخلفاء دون الممدوح بهذا القول. وأي ذنب أوكد حجةً على المرء من تشريفه على آبائه وأجداده والأخيار بأنه نجم من بينهم، مخالفاً لسؤددهم كما قال لجماعتهم.
وقال آخر:
عادات طيٍّ في بني أسدٍ
ريِّ القنا وخضاب كل حسام
لا تكثري جزعاً فإنِّي واثق
يوم جنا وعواقب الأيَّام
فمن لم يعرف قبيلة هذا القائل، ومقصده من غير شعره لم يدرِ أطيئ المهجوّون أم هم الممدحون، وذلك الحال في بني أسد أيضاً. وقال أبو علي البصير:
لعمرُ أبيكَ ما نُسبَ المُعَلَّى
إلى كرمٍ وفي الدُّنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرَّتْ
وصوَّحَ نبتُها رُعي الهشيمُ
قال آخر:
رويدَ بني شيبانَ بعضَ وعيدكمْ
تُلاقوا غداً خَيلي علَى صَفَوانِ
تُلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغى
إذا الخيل جالت في القنا مُتدانِ
تُلاقوهُمُ فتعرفوا كيف صبرهُمُ
إذا ما جنت منه يدُ الحدثانِ
مقاديمُ وصَّالون في الرّوع خطوهُم
بكلِّ رقيق الشَّفرتين يمانِ
إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهُمُ
لأيَّةِ حربِ أم بأي مكانِ
وفي نحو ذلك قال الأخطل لشقيق بن ثور:
خلتْ الديارُ فسدتَ غير مُسوّدٍ
ومن العناءِ تفردي بالسؤدد
وقال آخر:
وما جذْعُ سوءٍ خرَّق السُّوس جوفه
لما حمَّلتهُ وائلٌ بمُطيقِ
فقال شقيق: يا أبا مالك: ما تُحسنْ أن تهجو، ولا تمدح، أردت أن تهجوني، فجعلت وائلاً كلها تحملني أمرها فسكت.