مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في أقسام القلوب
فصل في أقسام القلوب
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيميّة الحرانى الدمشقى:
الحمد للّه رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } إلى قوله: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 1.
جعل الله القلوب ثلاثة أقسام: قاسية، وذات مرض، ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون يابسة جامدة.
فالأول: هو القاسي: وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعى محلا لينا قابلا.
والثاني: لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتًا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض، والأول هو القوي اللين.
وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلا فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم، فبالرحمة خرج عن القسوة، وبالعلم خرج عن المرض؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات.
ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات. وفي قوله: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } 2 دليل على أن العلم يدل على الإيمان، ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان كما يتوهمه طائفة من المتكلمة بل معهم العلم والإيمان، كما قال تعالى: { لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } 3، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } الآية 4.
وعلى هذا فقوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } 5 نظير هذه الآية. فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم، وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ، وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم؛ فإن الكلام هناك في المتشابه، وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه الله ثم يحكم الله آياته، وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان؛ ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: إن المحكم هو الناسخ، والمتشابه: المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } 6، والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله.
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد، وهو: أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى. والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف العام كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام وتقييد المطلق؛ فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخًا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ، كما يقال: المحكم والمتشابه.
وقوله بعد ذلك: { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } جعل جميع الآيات محكمة، محكمها ومتشابهها، كما قال: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } 7، وقال: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } 8 على أحد القولين. وهنالك جعل الآيات قسمين: محكمًا ومتشابها، كما قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } 9. وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه الله. فصار المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه، والجميع من آيات الله، وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان.
ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقًا، حتى يقول: هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكمًا، وإن كان الله أنزله أولا اتباعًا لظاهر قوله: { فَيَنسَخُ اللَّهُ } { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ }
فهذه ثلاث معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها.
وجماع ذلك: أن الإحكام تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي: فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد، فالمنع جزء معناه لا جميع معناه.
وتارة يكون الإحكام في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي، أو يقال وهو أشبه بقول السلف: كانوا يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة. وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه كما قال: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الآية 10. ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رفع حكمه أو دلالة له، فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد. وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال: المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار، والله أعلم.
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا، فتكون محتملة للمعنيين. قال أحمد بن حنبل: المحكم: الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا.
ولم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } 11، وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع؛ فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة وعليه أصحاب رسول الله ﷺ وجمهور التابعين وجماهير الأمة.
ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } 12، وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر. وقال: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } 13، ولم يستثن شيئًا منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه.
يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي ﷺ كحيى بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عامًا؛ لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر، وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر.
وروى أن من النصارى الذين وفدوا على النبي ﷺ في وفد نجران من تأول إنا و نحن على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله، فأولئك تأولوا في اليوم الآخر، وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن: إنا و نحن من المتشابه، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه، التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، فصار هذا متشابهًا؛ لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع.
والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئة أيضا من المتشابه، ويسميها أهل التفسير الوجوه والنظائر، وصنفوا كتب الوجوه والنظائر، فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعًا في الأسماء المشتركة. فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله.
والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 14. { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } 15، { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } 16، { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } 17، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } 18. ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها.
وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء فيه الأمر، وإخبار، فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي » يتأول القرآن، تعنى قوله: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } 19.
وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه.
وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع وهذا معناه، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } 20، فقد أخبر أنه فصل الكتاب، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه، ثم قال: { هَلْ يَنظُرُونَ } أي ينتظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجىء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة، وأشراطها؛ كالدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ومجىء ربك والملك صفًا صفًا، وما في الآخرة من الصحف، والموازين، والجنة والنار، وأنواع النعيم والعذاب، وغير ذلك، فحينئذ يقولون: { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } 21.
وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله؛ فإن الله يقول: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } 22 ويقول: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ علَى قلب بَشَر»، وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء؛ فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرًا ولبنًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعًا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه، كما في قوله: { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها } 23 على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه. وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به.
وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم، فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد، وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته.
وكان في هذا أيضا متبعًا للمتشابه؛ إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق، { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال الله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } 24، فإن تلك الحقائق قال الله فيها: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } 25 لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } إما أن يكون الضمير عائدًا على الكتاب، أو على المتشابه؛ فإن كان عائدًا على الكتاب كقوله: { مِنْهُ } و { منه } فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يصح؛ فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله. وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } 26. فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل.
وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتًا وقدرًا ونوعًا وحقيقة إلا الله، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا، وكذلك قوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 27.
وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى قوله: { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } 28، وكذلك قوله: { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا } 29، فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به. فعلم تأويله كعلم الساعة، والساعة من تأويله. وهذا واضح بين، ولا ينافى كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها، فهذا هذا.
وإن كان الضمير عائدًا إلى ما تشابه، كما يقوله كثير من الناس؛ فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا في الآثار: «العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه». لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا قال بعض العلماء: المتشابه: الأمثال والوعد والوعيد، والمحكم: الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لابد أن نتصورها.
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 30، والكناية عائدة على القرآن، أو على ما لم يحيطوا بعلمه وهو يعود إلى القرآن، قال تعالى: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } 31.
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله، وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } 32، وقوله: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } 33، لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله، كما تحداهم وطالبهم لما قال: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 34 فهذا تعجيز لجميع المخلوقين، قال تعالى: { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } 35 أي: مصدق الذي بين يديه { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ } 36 أي مفصل الكتاب فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب. والكتاب اسم جنس، وتحدي القائلين: { افْتَرَاهُ }، ودل على أنهم هم المفترون، قال: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 37 أي: كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله؛ فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله.
و نكتة ذلك أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم، كذهن الإنسان مثلا، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله.
ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } 38، فقد أخبر ذمًا للمشركين أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك، وقوله: { أّن يّفًقّهٍوهٍ } يعود إلى القرآن كله، فعلم أن الله يحب أن يفقه؛ ولهذا قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها، وما استثنى من ذلك، لا متشابهًا ولا غيره.
وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقف عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حَبْر الأمة، وهو أحد من كان يقول: لا يعلم تأويله إلا الله، يجيب مجاهدًا عن كل آية في القرآن.
وهذا هو الذي حمل مجاهدًا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } 39 فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل؛ لأن مجاهدًا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه، فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله.
وأصل ذلك أن لفظ التأويل فيه اشتراك بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن. ومجاهد إمام التفسير. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وأما التأويل فشأن آخر.
ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال: هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله ﷺ ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه.
وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها: «هل يجوز أن يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه».
وأما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } 40 وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: «لايجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعنى به شيئًا خلافًا للحشوية». وهذا لم يقله مسلم أن الله يتكلم بما لا معنى له.
وإنما النزاع هل يتلكم بما لا يفهم معناه؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بَوْن عظيم.
ثم احتج بما لايجري على أصله فقال: هذا عبث، والعبث على الله محال. وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا بل يجوز أن يفعل كل شيء، وليس له أن يقول: العبث صفة نقص، فهو منتف عنه؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صحيح ولا عقل صريح.
ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم: أن مدعى التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف وكلام العرب، علموا يقينًا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن؛ فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر حتى عن أكثر أحوال الأنبياء وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه.
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزًا وعيبًا وقبيحًا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه، وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه. وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلامًا وجدالا ولكن بفرية على الله، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا.
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل.
فإن "التأويل" في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحدهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر. وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول. وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.
وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربًا أو مترادفًا، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك، ومراده التفسير.
و المعنى الثاني في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقًا: هو نفس المراد بالكلام؛ فإن الكلام إن كان طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشيء المخبر به.
وبين هذا المعنى والذي قبله بون؛ فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة. فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي. فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب؛ إما بضرب المثل، وإما بالتقريب، وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك.
وهذا الوضع والعرف الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها، وقد قدمنا التبيين في ذلك، ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف: { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } 41، وقوله: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } 42، وقول الملأ. { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } 43، وقول يوسف لما دخل عليه أهله مصر: { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } 44.
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه كما قال يوسف: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } والعالم بتأويلها: الذي يخبر به، كما قال يوسف: لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ }، أي: في المنام { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } أي: قبل أن يأتيكما التأويل.
وقال الله تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } 45 قالوا: أحسن عاقبة ومصيرًا. فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن، وكذلك في سورة آل عمران.
وقال تعالى في قصة موسى والعالم: { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } إلى قوله: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } 46، فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها، ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار. فهو تأويل عمل لا تأويل قول، وإنما كان كذلك؛ لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا، مثل حول تحويلا، وعول تعويلا. وأول يؤول تعديه آل يؤول أَوْلا مثل حال يحول حَوْلا. وقولهم: آل يؤول، أي: عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه "المآل" وهو ما يؤول إليه الشيء ويشاركه في الاشتقاق الأكبر "الموئل"، فإنه من وأل وهذا من أول. والموئل المرجع، قال تعالى: { لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا } 47.
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر "الآل" فإن آل الشخص من يؤول إليه؛ ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه أعظم من المضاف يصلح أن يؤول إليه الآل، كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون، بخلاف الأهل، والأول أفعل؛ لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى الأولى، وفي القصص: { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } 48.
ومن الناس من يقول: فوعل، ويقول: أولة، إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل؛ فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف، سمى المتقدم أول والله أعلم لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له. والصيغة صيغة تفضيل لا صفة. مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى، لا من باب أحمر وحمراء؛ ولهذا يقولون: جئته من أول أمس، وقال: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } 49 { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } 50، { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } 51 فإذا قيل: هذا أول هؤلاء فهو الذي فضل عليهم في الأول؛ لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله فيعتمد عليه، وهذا السابق كلهم يؤول إليه، فإن من تقدم في فعل فاستن به من بعده كان السابق الذي يؤول الكل إليه، فالأول له وصف السؤدد والاتباع.
ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود، و الأوّل مشعر بالابتداء والمبتدأ، خلاف العائد؛ لأنه إنما كان أولا لما بعده فإنه يقال: أول المسلمين و { أول يوم } فما فيه من معنى الرجوع والعود هو للمضاف إليه لا للمضاف.
وإذا قلنا: آل فلان، فالعود إلى المضاف؛ لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعًا لغيره؛ لأن كونه مفضلا دل على أنه مآل ومرجع لا آيل راجع؛ إذ لا فضل في كون الشيء راجعًا إلى غيره آيلا إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤول إليه. فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعًا، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضى أن يكون هو السابق المبتدئ. والله أعلم.
فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم، أو ما يؤول إليه الكلام، أو ما تأوله المتكلم؛ فإن التفعيل يجري على غير فعل، كقوله: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } 52 فيجوز أن يقال: تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا، وتأولت الكلام تأويلا، وأولت الكلام تأويلا. والمصدر واقع موقع الصفة، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل، كعدل وصوم وفطر، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير وهذا خلق الله.
فالتأويل: هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه. والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله: { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } 53 قال: حقيقة؛ فإنه إن كان خبرًا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذبًا، وإن كان طلبًا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإن لم يكن مقصوده موجودًا ولا حاصلا، ومتى كان الخبر وعدًا أو وعيدًا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول، كما روى عن النبي ﷺ أنه تلا هذه الآية: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا } 54 قال: إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد. وعن عبد الله قال: خمس قد مضين: البطشة واللزام والدخان والقمر والروم.
هامش
- ↑ [الحج: 52 54]
- ↑ [الحج: 54]
- ↑ [النساء: 162]
- ↑ [الروم: 56]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [الحج: 52]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [يونس: 1]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [الرعد: 17]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [ص: 29]
- ↑ [محمد: 24]
- ↑ [البقرة: 163]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [المؤمنون: 91]
- ↑ [الفرقان: 2]
- ↑ [الإخلاص: 3، 4]
- ↑ [النصر: 3]
- ↑ [الأعراف: 52، 53]
- ↑ [الأعراف: 53]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [البقرة: 25]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [الأعراف: 52، 53]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [الأعراف: 187]
- ↑ [الأحزاب: 63]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [يونس: 37 40]
- ↑ [هود: 117]
- ↑ [الأنفال: 33]
- ↑ [يونس: 38]
- ↑ [يونس: 37]
- ↑ [يونس: 37]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [الإسراء: 45، 46]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [البقرة: 78]
- ↑ [يوسف: 6]
- ↑ [يوسف: 36، 37]
- ↑ [يوسف: 44، 45]
- ↑ [يوسف: 99، 100]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [الكهف: 78-82]
- ↑ [الكهف: 58]
- ↑ [القصص: 70]
- ↑ [التوبة: 108]
- ↑ [الأنعام: 163]
- ↑ [البقرة: 41]
- ↑ [المزمل: 8]
- ↑ [الأنعام: 67]
- ↑ [الأنعام: 65]