مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في الاختلاف في التفسير
فصل في الاختلاف في التفسير
الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم، وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول؛ وهو ما لاطريق لنا إلى الجزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه، فالكلام فيه من فضول الكلام.
وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصب على الحق فيه دليلا، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحًا عن النبي ﷺ كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحاق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه».
وكذلك ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي ﷺ أو من بعض من سمعه منه أقوى؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب فيما يقوله، فكيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟
والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه، ولا تفيد حكاية الأقوال فيه، هو كالمعرفة لما يروى من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك.
وأما القسم الأول، الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يحتاج إليه وللّه الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا ﷺ وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، و فيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل.
فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي. ويروي: ليس لها أصل، أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم، كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي، ونحوهم في المغازي؛ فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم؛ ولهذا عظم الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.
وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة مولي ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضا ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب.
والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصدًا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعًا، فإن النقل إما أن يكون صدقًا مطابقًا للخبر، وإما أن يكون كذبًا تعمد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقًا بلا ريب.
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد علم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا بلا قصد علم أنه صحيح، مثل شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيعلم قطعًا أن تلك الواقعة حق في الجملة؛ فإنه لو كان كل منهما كذبها عمدًا أو خطأ، لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه، فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتًا وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية ورَوِيٍّ فلم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظًا ومعنى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدث حديثًا طويلا فيه فنون، وحدث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقًا، وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدها كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله، لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق فلا يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق؛ ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بَدْر وأنها قبل أُحُد، بل يعلم قطعًا أن حمزة وعليًا وعبيدة برزوا إلى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ والوليد، وأن عليًا قتل الوليد، وأن حمزة قتل قرنه، ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أو شيبة.
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف؛ فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك.
ولهذا إذا روى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي ﷺ من وجهين، مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق، لا سيما إذا علم أن نَقَلَتَه ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط؛ فإن من عرف الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب، وابن عمر، و جابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم علم يقينًا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله ﷺ، فضلا عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطع الطريق، ويشهد بالزور ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة، والشام والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم وأمثالهم، علم قطعًا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلا عمن هو فوقهم، مثل محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، أو سعيد بن المسيب، أو عبيدة السلماني، أو علقمة، أو الأسود أو نحوهم. وإنما يخاف على الواحد من الغلط؛ فإن الغلط والنسيان كثيرًا ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدًا، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم، لا سيما الزهري في زمانه، والثوري في زمانه، فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط، مع كثرة حديثه وسعة حفظه.
والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطًا، كما امتنع أن يكون كذبًا؛ فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة.
ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي ﷺ البعير من جابر؛ فإن من تأمل طرقه علم قطعًا أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن. وقد بين ذلك البخاري في صحيحه، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي ﷺ قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له، لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن، بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنًا وظاهرًا.
ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقًا له أو عملا به أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرًا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء، وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية، كأبي إسحاق وابن فُورَك، وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل وابن الجوزي وابن الخطيب والآمدي ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبوحامد وأبو الطيب وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية، وهو الذي ذكره أبو يعلي وأبو الخطاب، وأبو الحسن ابن الزاغوني، وأمثالهم من الحنبلية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبًا للقطع به، فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة.
والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة، يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيرًا في علم أحوال الناقلين. وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك؛ ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره. قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره، ومثل هذا بعبد الله بن لَهِيعة قاضي مصر؛ فإنه كان من أكثر الناس حديثًا ومن خيار الناس، لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط، فصار يعتبر بذلك ويستشهد به، وكثيرًا ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثَبْت إمام.
وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ، فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا علم علل الحديث، وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عرف؛ إما بسبب ظاهر، كما عرفوا أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو حلال. وأنه صلى في البيت ركعتين. وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حرامًا؛ ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه اعتمر أربع عمر. وعلموا أن قول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب، مما وقع فيه الغلط، وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع، وأن قول عثمان لعلي: كنا يومئذ خائفين، مما وقع فيه الغلط، وأن ما وقع في بعض طرق البخاري «أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر» مما وقع فيه الغلط وهذا كثير.
والناس في هذا الباب طرفان:
طرف من أهل الكلام ونحوهم، ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث، أو في القطع بها، مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم به.
وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظًا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة، يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلا له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط.
وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك، مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل، مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيًا.
وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم.
والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف، والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة.
والموضوعات في كتب التفسير كثيرة، مثل الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة، وحديث على الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما روى في قوله: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } 1 أنه علي { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } 2 أذنك يا علي.
هامش