مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا
سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا
عدلوَسُئلَ شَيْخُ الإسلام رَحمَهُ اللهُ عما ذكر الأستاذ القشيري في « باب الرضا» عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: الرضا ألاّ يسأل الله الجنة، ولا يستعيذ من النار، فهل هذا الكلام صحيح؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين:
أحدهما: من جهة ثبوته عن الشيخ.
والثاني: من جهة صحته في نفسه وفساده.
أما المقام الأول: فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم، تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكره مرسلًا، وكثيرًا ما يقول: وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، بل موضوعًا. وما يذكره مرسلًا، ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع.
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة، فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع. وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في التفسير فيها هذا وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارة؛ لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب؛ إذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب، ورواية
الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز. وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين». وقد فعل كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه لتعريف أنه روى؛ لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه.
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها: من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي ﷺ وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع. فالصحيح: الذي قامت الدلالة على صدقه، والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه، إما لسوء حفظه وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ.
وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة. ومن ذلك: باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي ﷺ أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًا». وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه، بإسناد صحيح.
وذكر في أول هذا الباب حديثا ضعيفًا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد الكذب، فإن كثيرًا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني: لو ولد أخرس لكان خيرًا له، وقال سفيان بن عيينة: لا شيء، وقال الإمام أحمد والنسائي: هو ضعيف. وقال يحيى بن معين: رجل سوء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث.
وكذلك ما ذكره من الآثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب مقامات الأولياء وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة.
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال: سمعت النصر آبادي يقول: من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل الله رضاه فيه، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم مايرضى الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته» الحديث. وذلك أن الرضا نوعان:
أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. ويتناول ما أباحه الله من غيرتعد إلى المحظور، كما قال: { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } 1، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } 2 وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } 3.
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء. وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر. كما قال الحسن: الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روى في حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا».
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان: فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن الله لا يرضاه كما قال: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } 4 وقال: { وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } 5، وقال تعالى: { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } 6، وقال تعالى: { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } 7، وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } 8، وقال تعالى: { وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } 9، وقال تعالى: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } 10، وقال تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } 11 فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك، وهو يسخط عليهم، ويغضب عليهم، فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وألا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه؟.
وإنما ضل هنا فريقان من الناس:
قوم: من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافًا للقدرية. وقالوا: هو أيضا محب لها مريد لها، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا: لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد: أي لا يريده للمؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر: أي لا يريده لعباده المؤمنين. وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان: أي لا يريده للكافرين، ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر الله به فإنه يكون مستحبًا يحبه. ثم قد يكون مع ذلك واجبًا، وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل. والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والفريق الثاني: من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين: فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب. قالوا: والكون كله مراد المحبوب. وضل هؤلاء ضلالًا عظيمًا، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني. كما بسطناه في غير هذا الموضع.
وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الله وأعدائه، والأنبياء والمتقين. ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والشرائع وربما سموا هذا: حقيقة، ولعمري إنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ } 12، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الآيات 13.
فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام.
والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه الله، ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب. فهو من الذنوب يستغفر. وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } 14 فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب. كما قال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } 15، وقال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } 16، وقال يوسف: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 17.
والمقصود هنا: أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق، وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته، كلام حسن. لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل.
وكذلك ما ذكره معلقًا قال: قال الشبلي بين يدي الجنيد: لاحول ولا قوة إلا بالله. فقال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. فإن هذا من أحسن الكلام. وكان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعًا لا صبرًا. فالجنيد أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالًا ينافى الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه.
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا. قال: وقيل: قال موسى: «إلهي، دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدًا متضرعًا. فأوحى الله إليه: يابن عمران، رضائي في رضاك عني»، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال: لا يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران. ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين، إلا إذا كانت منقولة لنا نقلًا صحيحًا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم، وأكابر المسلمين؛ فكيف يقال: إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى الله به عنه؟ والله تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. أفلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟ وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } 18 ومعلوم أن موسى بن عمران عليه السلام من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم إن الله خص موسى بمزية فوق الرضا، حيث قال: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } 19. ثم إن قوله له في الخطاب: يابن عمران، مخالف لماذكره الله من خطابه في القرآن حيث قال: يا موسى، وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر. ومثل ما ذكر أنه قيل: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أما بعد: فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. فهذا الكلام كلام حسن. وإن لم يعلم إسناده.
وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلقًا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة. وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس: إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف. فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء. كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه.
والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن، وصفوة الصفوة لابن الجوزي. وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان. ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال: قال لأحمد بن أبي الحواري: يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا. فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه. فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان.
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال: وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي ﷺ: «أسألك الرضا بعد القضاء»، فقال: لأن الرضا بعد القضاء هوالرضا. فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلام حسن سديد. ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: أرجو أن أكون قد عرفت طرفًا من الرضا. لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا.
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا. وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم. وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } 20، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } 21 وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي ﷺ: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }الآية 22. فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به، ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول:
وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني
فأخذه العسر من ساعته: أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون: يارب، قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ، فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما أطلق بوله، قال: ربي قد تبت إليك. قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال: رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم؛ ومات الطائر. وقال: رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا.
وقد ذكر القشيري في «باب الرضا» عن رويم المقري رفيق سمنون حكاية تناسب هذا حيث قال: قال رويم: إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحولها عن يساره، فهذا يشبه قول سمنون: فكيف ما شئت فامتحني. وإذا لم يطق الصبر على عسر البول، أفيطيق أن تكون النار عن يمينه؟
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبي لك ألا فرجت عني؛ ففرج عنه.
ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون: إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يستكتم سرًا فليفعل. كما فعل رويم. كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها، فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها. هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود.
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلًا؛ ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة، ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق سبيل الله وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو كافرًا.
ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي ﷺ وهو مريض كالفرخ فقال: «هل كنت تدعو الله بشيء، قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال: سبحان الله لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» فهذا أيضا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطًا، والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدًا، فليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا من الخطأ والغلط؛ بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال له لما عبر الرؤيا: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضا».
ويشبه والله أعلم أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة: لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار. وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ، وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛ فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا. فإن تلك الكلمة مضمونها: أن من سأل الله الجنة، واستعاذ من النار، لا يكون راضيًا.
وفرق بين من يقول: أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا، وبين من يقول: لا يكون راضيًا إلا من لا يطلب خيرًا، ولا يهرب من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ، وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال: إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة. فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين، يقول هذا مثل الكلام؟ وقال الشيخ أبو سليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة، فكيف أبو سليمان؟.
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار.
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس، من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة، وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك. ثم صاروا ضربين:
ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم. كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من أقر بالرؤية، إما الرؤية التي أخبر بها النبي ﷺ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية. والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء.
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا: لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى الجويني في الرسالة النظامية، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك. فقال: يا هذا، هب أن له وجهًا، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟ وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد.
وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومشائخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي ﷺ: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين». وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه».
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه، وكلامهم في ذلك كثير.
ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى الله تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من... والفقهاء إلى أن الله لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا: هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم. ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء.
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد الله القسري. وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه.
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق: أن الله يحب ويحب. ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من أهل الكلام: كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما. ونصر ذلك أبو حامد في «الإحياء» وغيره. وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في «الرسالة» على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى ب «قوت القلوب» وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا: يعشق ويعشق.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه. وقد قال تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } 23، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } 24، وقال: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ } 25، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب، ونحو ذلك. وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين.
والضرب الثاني: طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة: وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية الله والتنعم بالنظر إليه، وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم، وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالًا لك، وأمثال هذه الكلمات. مقصودهم بذلك: هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة. وقد يغلطون أيضا في ظنهم أنهم يعبدون الله بلا حظ ولا إرادة، وإن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة.
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده.
فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام، إذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطؤوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئًا يقرأ: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } 26. فصرخ وقال: أين مريد الله؟ فيحمد منه كونه أراد الله؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله؛ وهذه الآية في أصحاب النبي ﷺ الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من هو دونهم. كالشبلي، وأمثاله؟
ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى: { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } 27 قال: فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال.
والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم، بالنظر إليه وما سوى ذلك، هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 28، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: «يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه» وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال: { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } 29 وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة.
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين. كما في السنن أن النبي ﷺ سأل بعض أصحابه: «كيف تقول في دعائك؟» قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال: «حولهما ندندن» فقد أخبر أنه هو ﷺ ومعاذ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي ﷺ إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله ﷺ ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار؟ ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة.
وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين. قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ. وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } 30 قال ابن عباس: تمزج لأصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة»، فقد أخبر أن الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله ورجاء أن يكون هو ذلك العبد هي درجة في الجنة، فهل بقى بعد الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟
وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: «فيقولون للرب تبارك وتعالى: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك». قال: «فيقول: وما يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة». قال: «فيقول: وهل رأوها؟» قال: «فيقولون: لا»، قال: «فيقول: فكيف لو رأوها؟» قال: «فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا». قال: «ومم يستعيذون؟» قالوا: «يستعيذون من النار». قال: «فيقول: وهل رأوها؟» قال: «فيقولون: لا». قال: «فيقول: فكيف لو رأوها؟» قالوا: «لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة». قال: «فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون» أو كما قال قال: «فيقولون: فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم»، قال: «فيقول: هم القوم لايشقى بهم جليسهم». فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار.
والنبي ﷺ لمّا بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم، قالوا للنبي ﷺ: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال: «أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم». قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «لكم الجنة». قالوا: مد يدك فوالله لا نقيلك، ولا نستقيلك. وقد قالوا له في أثناء البيعة: إن بيننا وبين القوم حبالًا وعهودًا وإنا ناقضوها.
فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله، على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا. كما قال تعالى: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } 31، وقال: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } 32 ففيها ما يشتهون، وفيها مزيد على ذلك، وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه. كماقال ﷺ: «مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهذا باب واسع.
فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك ألا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار. فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن الله. ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به، ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال: يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين. ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول، ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيًا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه: كغلط سمنون كما تقدم.
وإن أراد بذلك ألا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين:
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة.
ومن جهة أنه أيضا أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا، فإذا كان الرضا لا ينافى هذا الطلب، فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه. ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله.
وأيضا فإذا لم يسأل الله الجنة، ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة. وإما ألا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى. وإن كان الرضا ألا يطلب شيئًا قط، ولو كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا، فلا يخلو: إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى الله في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى الله فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه.
وإن كان معرضًا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته، ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار، إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده. فإن أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركًا مذمومًا، فضلا عن أن يكون محمودًا. وإن قال: لا أحبه وأطلبه وأريده لا من الله ولا من خلقه. قيل: هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه ألا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك. فكيف يسلب عنه ذلك كله؟ فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام.
وأما في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه:
أحدها أن يقال: الراضي لابد أن يفعل ما يرضاه الله، وإلا فكيف يكون راضيًا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمه، وينهي عنه.
وبيان هذا: أن الرضا المحمود إما أن يكون الله يحبه ويرضاه، وإما ألا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه. قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } 33، فمن اتبع ما أسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله، وقال النبي ﷺ: «إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها»، وقال ﷺ: «سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك». وقال تعالى: { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } 34 فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا يرضى عنهم. وقال تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } 35 فهذا رضا قد ذمه الله. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } 36 فهذا أيضا رضا مذموم، وسوى هذا، وهذا كثير.
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا الله ولا هو مؤمن بالله. بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه، لاعن له، ذام له، متوعد له بالعقاب.
وطريق الله التي يأمر بها المشائخ المهتدون: إنما هي الأمر بطاعة الله والنهي عن معصيته. فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه الله ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو لله لا ولى لله وهو يصد عن سبيل الله وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله. وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه الله، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب لله ومكروه لله مباح.
فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل الله الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له: سؤال الله الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم: إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضا مباحة مستوية الطرفين. ولو قيل: إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟ وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن الله يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء الله لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء الله لا أولياء الله.
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال: اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء الله الذي أمر بالرضا به، إذ ليس كل ماهو بقضائه يجوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به. كالمعاصي وفنون محن المسلمين. وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء: كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لما احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء الله مأمور به، فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضا بما نهى الله عنه لا يجوز فأجابهم أهل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة:
أحدها وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة: أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة الله ورسوله. وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم.
والجواب الثاني: أنهم قالوا: إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله. وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع.
الثالث: أنهم قالوا: هذه المعاصي لها وجهان: وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد. وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان. فإن هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين.
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في الرسالة أيضا.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال: الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار؟ وغلط من يستحسن مثل هذا الكلام كائنا من كان؟.
قيل: غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار. فقالوا: ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين:
أحدهما: ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه الله ويرضاه وأن هذا من أعظم طرق أولياء الله، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى الله، فضلوا ضلالًا مبينًا والطريق إلى الله إنما هي أن ترضيه بأن تفعل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل ما يحدث ويكون، فإنه هو لم يأمرك بذلك، ولا رضيه لك ولا أحبه؛ بل هو سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط الله قد نالك.
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا الله.
الوجه الثاني: أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع:
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب: مثل قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }، ومثل دعائه في آخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي ﷺ يأمر به أصحابه فقال: «إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال». فهذا دعاء أمرهم النبي ﷺ أن يدعوا به في آخر صلاتهم. وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه الله ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه. فأوجبه طاووس وطائفة، وهو قول في مذهب أحمد رضي الله عنه، والأكثرون قالوا: هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي ﷺ يدعو بها: لا تخرج عن أن تكون واجبة، أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه الله ويرضاه، ومن فعله رضي الله عنه وأرضاه فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه؟
ونوع من الدعاء ينهي عنه: كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى. مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل الله تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب. وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله حصل له من الخلق ضير. وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء. وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ. ومثل أن يقولوا: اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشيء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول: اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي ﷺ عن ذلك وقال: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له»، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها.
ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها.
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع. فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين.
ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هذا الغلط أنهم وجدوا كثيرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريده، وألا يكون لأحدهم إرادة أصلا، بل يكون مطلوبه الجريان تحت القدر كائنًا من كان وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات.
وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى الله: طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى الله، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى الله، وأن يشكر الله. قال الله تعالى: { كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } 37، وقال تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } 38، فأمر بالأكل والشرب، فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا، ومن لم يأكل ولم يشكر كان مذمومًا، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»، وقال النبي ﷺ لسعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك»، وفي الصحيح أيضا أنه قال: «نفقة المؤمن على أهله يحتسبها صدقة». فكذلك الأدعية هنا من الناس من يسأل الله جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعًا وعادة لا شرعًا وعبادة، فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا وعبادة.
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى: { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } 39 وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الآخرة فهو محمود.
ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء: بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا. فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب. فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول: أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول: أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم.
أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين.
وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه.
ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا. { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } 40.
وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر. وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر. كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل. وهذه الأصناف الثلاثة هي: القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل، ويشكره عليها بعد الفعل ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار: «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي»، وكما في الحديث الصحيح الإلهي: «ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وقال الجنيد بن محمد: علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، والله أعلم.
هامش
- ↑ [التوبة: 62]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [التوبة: 58، 59]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [البقرة: 205]
- ↑ [التوبة: 96]
- ↑ [النساء: 93]
- ↑ [محمد: 28]
- ↑ [التوبة: 68]
- ↑ [المائدة: 80]
- ↑ [ الزخرف: 55]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [المؤمنون: 84، 85]
- ↑ [غافر: 55]
- ↑ [آل عمران: 120]
- ↑ [آل عمران: 186]
- ↑ [يوسف: 90]
- ↑ [البينة: 7، 8]
- ↑ [طه: 39]
- ↑ [آل عمران: 143]
- ↑ [الصف: 2-4]
- ↑ [النساء: 77]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [آل عمران: 152]
- ↑ [التوبة: 111]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [الإسراء: 21]
- ↑ [المطففين: 18-28]
- ↑ [ق: 35]
- ↑ [الزخرف: 71]
- ↑ [محمد: 28]
- ↑ [التوبة: 96]
- ↑ [التوبة: 38]
- ↑ [يونس: 7]
- ↑ [المؤمنون: 51]
- ↑ [البقرة: 172]
- ↑ [البقرة: 200-202]
- ↑ [النور: 40]