مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية
فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية
عدلقال الشيخ عبد القادر: وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية: فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين:
أحدهما: أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن.
والقسم الثاني: ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته بالله تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم.
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه عليهم السلام فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي.
وقال أيضا: اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به. ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات. قال النبي ﷺ: «حمى يوم كفارة سنة».
قلت: فقد بين الشيخ عبد القادر رضي الله عنه أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها: حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق. فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر.
فإن قلت: فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟.
قيل: أما الذي بعده الذين سماهم: الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال: فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة.
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون أن الله هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن الله خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على الله شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك.
ويشهدون: أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل. ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا.
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين لله، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا لله، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك. فكلاهما قائم بالأمر مطيع لله، لكن هذا يشهد أن الله هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا. وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن الله خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
وأيضا، بينهما فرق من جهة ثانية: وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو بالله، وإما فعلا فيه فيفعله الله به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي.
وأما الأول: الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به.
وأما الثالث: فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا لله وبالله، فلا يفعل إلا ما أمر الله به لله، ويشهد أن الله هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير الله، ولا يفعل بنفسه ولا بغير الله تعالى.
والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة. والله أعلم.
فإن قيل: كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلمًا لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون لله فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون: الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب. وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق.
ثم الفعل المعين الذي يقال: هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته. فهذا يصير أيضا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له.
والسالك المتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله. فيقال: لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى الله بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات. فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
ومن هذا أنكر الكعبي: المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير.
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار. فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه: كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي. ومنهم من قال: هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير: هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق: هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا.
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول: عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب.
وتحقيق الأمر أن قولنا: الأمر بالشيء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به. فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر. والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود.
فالأول: هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال: فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا: الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب.
فقولنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب. يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني. فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه.
ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل. فقول من قال: كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال: المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال: المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي. فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية.
وبهذا تنحل شبهة الكعبي. فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي ﷺ بقوله: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال؟»، ومنه قوله ﷺ: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته» رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
وقد يقال: المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد. فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك. فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري. وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم. أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة الله، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال.
وسؤال ثان: وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم. إذ الكلام في ذلك.
وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل.
وسؤال ثالث: وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله.
قيل: هذه الأسولة أسئلة صحيحة.
هامش