مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم

مجموع فتاوى ابن تيمية المؤلف ابن تيمية
فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم


فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم

عدل

والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه، وأن نقتدي بهم، وبهداهم. قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } 1، وقال تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } 2 ومحمد خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره، فلم يبق طريق إلى الله إلا باتباع محمد فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب، فهو مشروع، وكذلك ما رغب فيه، وذكر ثوابه، وفضله.

ولا يجوز أن يقال: إن هذا مستحب، أو مشروع، إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي، وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة، جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة، فإذا روى في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب، لم يجز أن يكذب به، وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل، وغيره يرخصون فيه، وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف، فحاشا لله، كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب، فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي في الحديث الصحيح: «من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».

وما فعله النبي على وجه التعبد، فهو عبادة يشرع التأسي به فيه. فإذا خصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعل.

وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد، فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك، كنا متبعين له، وكذلك إذا ضرب لإقامة حد، بخلاف من شاركه في السفر، وكان قصده غير قصده، أو شاركه في الضرب، وكان قصده غير قصده، فهذا ليس بمتابع له، ولو فعل فعلًا بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان، أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟ كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك. وأما الخلفاء الراشدون، وجمهور الصحابة، فلم يستحبوا ذلك؛ لأن هذا ليس بمتابعة له، إذ المتابعة لابد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكم الاتفاق كان في قصده غير متابع له، وابن عمر رضي الله عنه يقول: وإن لم يقصده، لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان، فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته، وإما لبركة مشابهته له.

ومن هذا الباب: إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته، وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك، ويرخص في مثل ما فعله ابن عمر، وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لابن عمر، وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان.

أشهرهما أنه مكروه، كقول الجمهور، وأما مالك وغيره من العلماء، فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر، فإن أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، لم يفعلها. فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله . فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته فيه الصلاة فليصل فيه وإلا فليمض.

وهكذا للناس قولان، فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط، أو مستحبة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر، ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط، وإن كان هو لم يقصد التعبد به، فأما الأمكنة نفسها، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها، إلا ما عظمه الشارع.


هامش

  1. [البقرة: 136]
  2. [ الأنعام: 90]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العاشر - الآداب والتصوف
كلمات في أعمال القلوب | القائلون بتخليد العصاة | فصل في الأعمال الباطنة | فصل في محبة الله ورسوله | فصل في مرض القلوب وشفائها | فصل مرض القلب نوع فساد | فصل الحسد من أمراض القلوب | فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب | سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها | فصل التفاضل في حقيقة الإيمان | مخالفات السالكين في دعوى حب الله | معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله | أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء | سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون | فصل الضر لا يكشفه إلا الله | التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله | محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة | غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين | التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها | فصل في موجبات المغفرة | هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة | ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق | فصل في تفسير الفناء الصوفي | فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين | فصل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة | أصل النسبة في الصوفية | فصل في قولهم فلان يسلم إليه حاله | فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها | أصول العبادات الدينية | فصل في الخلوات | فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم | فصل في أهل العبادات البدعية | سئل شيخ الإسلام ما عمل أهل الجنة وما عمل أهل النار | فصل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة | من مستلزمات العقل والبلوغ | فصل في أحب الأعمال إلى الله | سئل عمن يقول الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق | الرسل جميعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها | فصل في طريق العلم والعمل | فصل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله | فصل في شرح أمر الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس | فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية | احتمال خفاء الأمر والنهي على السالك | فصل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية | سئل عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب | فصل في ذكر الله ودعائه | فصل في الصراط المستقيم | فصل في جاذبية الحب | فصل في جماع الزهد والورع | فصل في قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة | فصل في تزكية النفس | سئل شيخ الإسلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض | سئل شيخ الإسلام عن مقامات اليقين | سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي | سئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل | سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا | سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم | فصل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل | مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح