وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر - وهو أبو خزاعة - وصّى بنيه فقال لهم: يا بنيَّ، إن الرائد لا يكذب أهله، والعالم لا يستحسن جهله، يا بني إن الحكم زرع في القلوب، ومثلها كمثل الحب، مهما زرع منه في أراضي حريمه نما نباته وزكا حصاده، ومهما زرع منه في... أو سبخة أخبث نباته ولم يرج حصاده. فهذا لتعلموا أن الطيب لا يقبله إلا الطيب، ولا ينمو إلا عند مثله. يا بني، اجتهدوا في خمسة أشياء تعزوا بها وتسودوا، واجتهدوا في إماطة العدو ونصرة الصديق وكرامة الضيف واصطناع العشيرة وتوسيط المستجير وبلوغه ما أمّل. بذلك آمركم، وعما يخالفه أنهاكم. ثم أنشأ يقول:
أبنيَّ إنَّ وصَّيتي فيها لكُم
ما تُدرِكُونَ بهِ المكارِمَ فاعلمُوا
لا تِعدلُوا عنها لأُخرى ما بدتْ
للَّيلِ في أُفقِ السَّماءِ الأنجمُ
أبنيَّ إنَّي قد كبِرتُ وخانَني
ريبُ الحوادِثِ والزَّمانُ الأزلم
أبنيَّ أنتُمْ في بلادٍ جُلُّها
بعدَ العمالِقةِ الأوائلِ جُرهُمُ
والحيُّ جُرهُمُ لا يُلائمُكُم بها
إذ طابَ مسرحُهَا وطابَ المجثَمُ
بلدٌ يهِيم السَّرح فيها آمناً
والطَّيرُ فيها والأواتك تسلمُ
فيهَا المشاعِرُ والعَلاماتُ الَّتي
نَصبَ الخليلُ بهِ النَّبيُّ الأكرمُ
والبيتُ بيتُ اللهِ والحِجرُ الَّذي
من دُونِهِ تلكَ القليبُ الزَّمزمُ
ولسوفَ يُسفكُ مِنكُمُ فيهِ ومِنْ
أحياءِ جُرهُمَ يا بنيْ أفصَى الدَّمُ
فمتى غُشيتُم مِنهُمُ بظُلامةٍ
من بعدِ أُخرى مِثلهَا فلتعزِمُوا
أن تصبحُوها بالقواضِبِ والقَنَا
غشما، وبادي القوم منهم أظلمُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن سبب إخراج خزاعة جرهماً من مكة حفظ خزاعة لهذه الوصية وعلمهم بها وثباتهم عليها، حتى استولوا على البيت دون جرهم، ونفوا جرهماً عن مكة وأخرجوها من أرض الحجر إلى الأصدار من دوقة والسقف من فنونى. ويقال: إن بقايا جرهم بها إلى اليوم،وفي ذلك يقول قائل جرهم:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً
وأهلِي معي بالمأزِمينِ حُلولُ
وهل تُصبحُ الخيلُ الوحى وتردها
بدارِ بني كعبٍ لهُنَّ صهيلُ
عليها بنُو هيٍّ ورهُط مسلّم
وآل مضاضٍ في الحُروبِ تجُولُ
منازِلُ كُنَّا أهلهَا فأزالَنا
زمانٌ نبا بالصَّالحين خذولُ
فأضحَتْ بنُو كعبٍ وهُم أهلُ عِزِّها
وغالَت بَنِي سعدٍ بِمكَّة غُولُ
قوله: فأضحت بنو كعب، يريد بذلك خزاعة. وأما سعد فبيت الرئاسة من جرهم، فأجابه عمرو بن ربيعة بن كعب الخزاعي حيث يقول:
تمَّنيت أن تلقَى من الدهر ترحه
وذا معجب منه عليك مهول
تمنَّى أمانَي الذَّليلُ وإنَّما
تفُتكَ رجالٌ ذادةٌ وخُيولُ
فَحُلَّ بأرضِ الحِجرِ إنْ كنتُ فاعلاً
فإنِّي لكُمْ بالمجحِفاتِ كفيلُ
ففي ذلك يقول مضاض بن عمرو الجرهمي حيث يقول:
وكُنَّا وُلاةَ البيتِ والقاطِن الَّذي
يُوفِّي إليهِ نَذرهُ كُلُّ محرمِ
سكنَّا بهِ قبلَ الظِّبَاءِ وراثةً
لنا من بني هيِّ بن بيِّ بن جُرهُمِ
فأزعجنَا منهُ وكُنَّا وُلاتهِ
قبائلُ من كعبِ بن عمروٍ وأسلمِ
فأجابه الأعصم بن مالك الخزاعي حيث يقول:
بغاكَ عن البيتِ المُحرَّمِ معشرِي
رموكَ بطلَّاعِ الثَّنايا عرمرمِ
فحازُوا موارِيثَ ابنِ نبتٍ لأنَّهُم
أحقُّ وأولى مِنكَ عمروَ بنَ جُرهُمِ
وللحيين خزاعة وجرهم في ذلك أخبار وأشعار، ملنا عن شرحها إلى ما احتجنا إليه في هذا الكتاب.