وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر - وهو الحارث الأكبر - وصّى ابنه عمرو بن الحارث في شعره حيث يقول: " من البسيط "
يا عمرُو دُونَكَ مُلكُ الشَّام دُونكَهُ
دُونَ المُلُوكِ ولِلحُسَّاد ترغيمُ
ما إنْ مضتْ حِميرٌ إلا بغُصَّتِهَا
ولا العَمَالِقةُ الأُولى ولا الرُّومُ
هِيَ الشَّآمُ الَّتي ما مِثلُهَا بلدٌ
يا عمرُو دُونكَهَا والرِّزقُ مَقسُومُ
يا عمرُو أصلِحْ لكَ النَّاسَ الَّذينَ لهُمْ
فِيهَا السَّوارِحُ ...
احلل بوادي بِهَا عن قُربِ حاضِرِهَا
بحيثُ موجوءها شِيحٌ وقيصُومُ
وحيثُ ليسَ بها حَيٌّ يُجاوبُهَا
إلاَّ الصَّدى في سوادِ اللَّيلِ والبُومُ
إنَّ البُداةَ إذا ما استوطَنَتْ بَلَداً
فيهِ لأَهليهِ جَنَّاتٌ وتنعيمُ
حَنَّت لإفسادِ ما فِيهِ هُناكَ كما
تَحِنُّ مذودة عن وردها ...
ما لِلبُداةِ سِوى الأقصى إذا نزلت
ولا لها موطنٌ إلا الدَّياميمُ
بهذِه كانَ وصَّاني أبي وبِها
يا عمرُو أُوصِي وَمِنهَا المُلكُ مرسُومُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن عمرو بن الحارث الأكبر حفظ وصيته أبيه، وثبت عليها، وعمل بها، وملك ما ملك أبوه من أرض الشام وقبائل العرب. ويقال: إنه رسم لنفسه في كل ليلة جارية بكراً، لا بد له منها من السبايا التي تصيبها خيله وسراياه المغيرة في البلاد على العصاة من أهلها. ولم تزل تلك حاله حتى وقعت في السبي أخت عمرو بن الصعق العدواني، قال: فلم يشعر عمرو بن الحارث وقد أمر أن يؤتى بها إلا وبقناة تقرع اللهج فأشرف، فإذا هو بفارس يقول:
يا أَيُّها المَلِكُ المهِيبُ أما ترى
ليلاً وصُبحاً فِيكَ يختلِفانِ
هل تستطيعُ الشَّمسُ أن تأتي بِهَا
مشياً وهلْ لَكَ في الصَّباحِ يَدانِ
اعلمْ وأيقِنْ أنَّ مُلككَ زائِلٌ
واعلمْ بأنَّ كما تدِينُ تُدانُ
قال: فناداه عمرو بن الحارث، وقال له: قد أمنك الله فيمن لك عندي، وأمن كافة الناس فيمن وقع لهم إلي من السبايا، ثم أمر ألا تبقى سبية سبيت إلا كسيت وردت، وحملت إلى أهلها ورد إليها من كان في الأسرى من أهلها، وأن يرد عليها ما أخذ لها واغتنم من مالها. وآلى يميناً من أوكد ما كانت تحلف به الملوك أنه لا يعود فيما كان يفعله أبداً. ففي ذلك يقول عمرو بن الصعق العدواني:
أتيتُ ابن هندٍ طارقاً بعدَ رقبةٍ
مخافَةَ ما تصتكُّ مِنهُ المسامعُ
قرعتُ برُمحِي لهجه فوعظتُهُ
وضاقَتْ بأحشائِي وقلبِيْ الأضالِعُ
فأمَّننِيْ ممَّا خشيتُ ولم تزلْ
بهِ تنجلِي عنَّا الأمُورُ الرَّوائعُ
وأَطلقَ لي عُونَاً وعذراً كأنَّها
وقد أقبلتْ تمشِيْ الظِّباءُ الرَّواتِعُ
فِداءَ لهُ عدوانُ طُرَّاً وغيرُها
ألا ونأَى عَنهُ الرَّدى والفجائِعُ
هوَ المَلِكُ البَرُّ السَّميذعُ والَّذي
نَمَتهُ المُلوكُ الأكرمُونَ السَّماذِعُ
لهُمْ أوَّلُ الدُّنيا وحادِثُها لهُمْ
وآخِرُهَا فيهِمْ معَ المُلكِ رَاجِعُ