أدب الطلب/حب الشرف والمال


حب الشرف والمال

ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف ويصدر عنها البعد عن الحق وكتم الحجة وعدم ما أوجبه الله من البيان حب الشرف والمال اللذين هما أعدى على الإنسان من ذئبين ضاريين كما وصف ذلك رسول الله فإن هذا هو السبب الذي حرف به أهل الكتاب كتب الله المنزلة على رسله وكتموا ما جاءهم فيها من البينات والهدى كما وقع من أحبار اليهود وقد أخبرنا الله بذلك في كتابه العزيز وأخبرنا به رسول الله في الثابت عنه في الصحيح وبهذا السبب بقى من بقى على الكفر من العرب وغيرهم بعد قيام الحجة عليهم وظهور الحق لهم وبه نافق من نافق ووقع في الإسلام من أهل العلم بذلك السبب عجائب مودعة بطون كتب التاريخ وكم من عال قد مال إلى هوى ملك من الملوك فوافقه على ما يريد وحسن له ما يخالف الشرع وتظهر له بما ينفق لديه من المذاهب بل قد وضع بعض المحدثين للملوك أحاديث عن رسول الله كما وقع من وهب بن وهب أبو البخترى مع الرشيد ووقع من آخر في حديث لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل فزاد في الحديث أو جناح موافقة للملك الذي رآه يلعب بالحمام ويسابق بينها ووضع جماعة مناقب لقوم وآخرون مثالب لآخرين لا حامل لهم على ذلك إلا حب الدنيا والطمع في الحطام والتقرب إلى أهل الرئاسة بما ينفق لديهم ويروح عليهم نسأل الله الهداية والحماية من الغواية وكم قد سمعنا ورأينا في عصرنا من أهله فكثيرا ما نرى الرجل يعتقد في نفسه اعتقادا يوافق الحق ويطابق الصواب فإذا تكلم عند من يخالفه في ذلك ويميل إلى شئ من البدعة فضلا عن أن يكون من أهل الرئاسة وممن بيده من الدنيا فضلا عن أن يكون من الملوك وافقه وساعده وسانده وعاضده وأقل الأحوال أن يكتم ما يعتقده من الحق ويغمط ما قد تبين له من الصواب عند من لا يجوز منه ضررا ولا يقدر منه نفعا فكيف ممن عداه وهذا في الحقيقة من تأثير الدنيا على الدين والعاجلة على الآجلة وهو لو أمعن نظره وتدبر ما وقع فيه لعلم أن ميله إلى هوى رجل أو رجلين أو ثلاثة أو أكثر ممن يجاملهم في ذلك المجلس ويكتم الحق مطابقة لهم واستجلابا لمودتهم واستبقاء لما لديهم وفرارا من نفورهم وهو من التقصير بجانب الحق والتعظيم لجانب الباطل فلولا أن هؤلاء النفر لديه أعظم من الرب سبحانه لما مال إلى هواهم وترك ما يعلم أنه مراد الله سبحانه ومطلبه من عباده وكفاك بهذه الفاقرة العظيمة والداهية الجسيمة فإن رجلا يكون عنده فرد من أفراد عباد الله أعظم قدرا من الله سبحانه ليس بعد تجرئه على الله شئ أرشدنا الله إلى الحق بحوله وطوله ومن غريب ما أحكيه لك من تأثر هوى الملوك والميل إلى ما يوافق ما ينفق عندهم واقعة معي مشاهدة لي وإن كانت الوقائع في هذا الباب لا يأتي عليها الحصر وهي مودعة بطون الدفاتر معروفة عند من له خبرة بأحوال من تقدم وذلك أنه عقد خليفة العصر حفظه الله مجلسا جمع فيه وزراءه وأكابر أولاده وكثيرا من خواصه وحضر هذا المجلس من أهل العلم ثلاثة أنا أحدهم وكان عقد هذا المجلس لطلب المشورة في فتنة حدثت بسبب بعض الملوك ووصول جيوشه إلى بعض الأقطار الإمامية وتخاذل كثير من الرعايا واضطرابهم وارتجاف اليمن بأسره بذلك السبب فأشرت إلى الخليفة بأن أعظم ما يتوصل به إلى دفع هذه النازلة هو العدل في الرعية والاقتصار في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرع وعدم مجاوزته في شئ وإخلاص النية في ذلك وإشعار الرعية في جميع الأقطار والعزم عليه على الاستمرار فإن ذلك من الأسباب التي تدفع كل الدفع وتنجع أبلغ النجع فإن اضطراب الرعايا ورفع رؤوسهم إلى الواصلين ليس إلا لما يبلغهم من اقتصارهم على الحقوق الواجبة وليس ذلك لرغبة في شئ آخر فلما فرغت من أداء النصيحة انبرى أحد الرجلين الآخرين وهو ممن حظى من العلم بنصيب وافر ومن الشرف بمرتبة علية ومن السن بنحو ثمانين سنة وقال إن الدولة لا تقوم بذلك ولا تتم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها ثم أطال في هذا بما يتحير عنده السامع ويشترك في العلم بمخالفته للشريعة العالم والجاهل والمقصر والكامل وذكر أنه قد أخذ الجباية ونحوها من الرعية فلان وفلان وعدد جماعة من أئمة العلم ممن لهم شهرة وللناس فيهم اعتقاد وهذا مع كونه عنادا للشريعة وخلافا لما جاءت به وجرأة على الله نصبا للخلاف بينه وبين من عصاه وخالف ما شرعه هو أيضا مجازفة بحتة في الرواية عن الذين سماهم بل هو محض الكذب وإنما يروى على بعض المتأخرين ممن لم يمسه ذلك القائل وهذا البعض الذي يروى عنه ذلك إنما فعله أياما يسيرة ثم طوى بساطه وعلم أنه خلاف ما شرعه الله فتركه وإنما حمله على ذلك رأي رآه وتدبير دبره ثم تبين له فساده فانظر أرشدك الله ما مقدار ما قاله هذا القائل في ذلك الجمع الحافل الذي شمل الإمام وجميع المباشرين للأعمال الدولية والناظرين في أمر الرعية ولم ينتفع هذا القائل بمقالته لا من زيادة جاه ولا مال بل غاية ما استفاده ونهاية ما وصل إليه اجتماع الألسن على ذمة واستعظام الناس لما صدر منه وهكذا جرت عادة الله في عباده فإنه لا ينال من أراد الدنيا بالدين إلا وبالا وخسرانا عاجلا أم آجلا خصوصا من كان من الحاملين لحجة الله المأمورين بإبلاغها إلى العباد فإن خيره في الدنيا والآخرة مربوط بوقوفه على حدود الشريعة فإن زاغ عنها زاغ عنه وقد صرح الله سبحانه بما يفيد هذا في غير موضع من كتابه العزيز فأنت أيها الحامل للعلم لا تزال بخير ما دمت قائما بالحجة مرشدا إليها ناشرا لها غير مستبدل بها عرضا من أعراض الدنيا أو مرضاة من أهلها

أدب الطلب للشوكاني
واجبات طالب العلم | إخلاص النية لله | قصد تحصيل علم الدين | تجنب التحيز والمعصية وتكون غايته العلم بما بعث الله به رسوله وأنزل فيه كتبه | تحري الإنصاف | توطين النفس على البحث والاجتهاد | تجربة الشوكاني مع الاجتهاد | الأسباب التي تؤدي إلى البعد عن الحق والتعصب | حب الشرف والمال | الجدال والمراء وحب الانتصار والظهور | حب القرابة والتعصب للأجداد | صعوبة الرجوع إلى الحق الذي قال بخلافه | أن يكون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن | من آفات الشيخ والتلميذ | علاج التعصب | العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عن الحق | الاستناد إلى قواعد ظنية | عدم الموضوعية في عرض حجج الخصوم | تقليد المتعصبين من علماء الجرح والتعديل | المنافسة بين الأقران بلا تبصر | التباس ما هو من الرأي البحث بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد | كيفية الوصول إلى مراتب العلم المختلفة | طبقات طلاب العلم | كيفية الوصول إلى المرتبة الأولى للعلم | كيفية الوصول إلى المرتبة الثانية للعلم | كيفية الوصول إلى المرتبة الثالثة للعلم | كيفية الوصول إلى المرتبة الرابعة للعلم | مباحث ضرورية لطالب الحق | جلب المصالح ودفع المفاسد | الدلائل العامة والكليات | أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة أو قرابة | التحايل على أحكام الشريعة | الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان | مفاسد أصابت دين الإسلام | تعدد المذاهب | الاعتقادات الفاسدة في بعض الأموات | مفاسد بعض أدعياء التصوف