الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصلاة/باب سجود السهو
سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما إذا قصر الإنسان في صلاته ، أن يسجد سجدتين تداركاً لما فرط ، ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة ، والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة وسيأتي . قال في سفر السعادة : من جملة منن الحق تعالى ونعمه على الأمة المحمدية ، أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يسهو في الصلاة لتقتدي الأمة به في التشريع ، وإذ ذاك يقول إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وقال : إنما أنسى أو أنسى لأسن يعني لأسن ما شرع في جبر ذلك انتهى .
هو سجدتان قبل التسليم أو بعده ووجه التخيير أن النبي (ﷺ) صح عنه أنه سجد قبل التسليم وصح عنه أنه سجد بعده ، أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول إذا شك أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة ، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً فليجعلها ثنتين ، وإذا لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً ، ثم يسجد إذا فرع من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين وفي الباب أحاديث منها : ما هو في الصحيح كحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ﷺ) : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما تستيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ومنها ما هو في غير الصحيحين . وأما ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم فكحديث ذي اليدين الثابت في الصحيحين ، فإن فيه أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سجد بعدما سلم . وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين وغيرهما مرفوعاً بلفظ إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين وحديث المغيرة بن شعبة أنه صلى بقوم فترك التشهد الأوسط فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم وقال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والترمذي وصححه . وحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له أزيد في الصلاة فقال: لا وما ذاك فقالوا : صليت خمساً فسجد سجدتين بعد ما سلم فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم وتارة بعده ، تدل على أنه يجوز جميع ذلك ، ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع ، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم ، ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم ، وما عدا ذلك فهو بالخيار والكل سنة . قال في سفر السعادة : وسجد للسهو قبل السلام في بعض المواضع وبعده في بعضها ، فجعله الإمام الشافعي في كل حال قبل السلام . والإمام أبو حنيفة جعله بعد السلام في كل حال . وقال الاإام مالك : يسجد لسهو النقصان قبل السلام ، ولسهو الزيادة في الصلاة بعد السلام ، وإن اجتمع سهوان أحدهما زائد والآخر ناقص يسجد لهما قبل السلام . وقال الإمام أحمد : يسجد قبل السلام في المحل الذي سجد فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل السلام ، وما عداه يسجد للسهو بعد السلام . وقال داود الظاهري : لا يسجد للسهو إلا في هذه المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولوسها في غيرها لا يسجد للسهو ، ولم يعرض له صلى الله عليه وآله وسلم الشك في الصلاة لكن قال : من شك فليبن على اليقين ولم يعتبر الشك ويسجد للسهو قبل السلام . وقال الإمام أبو حنيفة : أن كان له ظن بنى على غالب ظنه ، وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين . وقال الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد : بنى على اليقين مطلقاً انتهى . ولا يشك منصف ، أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام ، وفي بعضها بعد السلام ، فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة ، لا لموجب إلا لمجرد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان ، كما أن الجزم بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمثل ذلك ، والمذاهب في المسألة منتشرة قد بسطها الماتن في شرح المنتقي . والحق عندي أن الكل جائز وسنة ثابتة ، والمصلي مخير بين أن يسجد قبل أن يسلم أو بعد أن يسلم ، وهذا فيما كان من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له (ﷺ) قبل السلام أو بعده . وأما في السهو الذي سجد له (ﷺ) فينبغي الاقتداء به في ذلك ، وايقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الموافقة في السهو ، وهي مواضع محصورة مشهورة يعرفها من له اشتغال بعلم السنة المطهرة .
و أما كون سجود السهو بإحرام وتشهد وتحليل فقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كبر وسلم كما في حديث ذي اليدين الثابت في الصحيح وفي غيره من الأحاديث . وأما التشهد فلحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين وقد روي نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة .
و أما كونه يشرع لترك مسنون فلحديث سجوده صلى الله تعالى عليه وسلم لترك التشهد الأوسط ، ولحديث لكل سهو سجدتان والكلام فيه معروف . ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهواً ، لأنه قد ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان كما في حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح ، ولا يكون الترغيم إلا مع السهو لأنه من قبل الشيطان ، وأما مع العمد فهو من قبل المصلي وقد فاته ثواب تلك السنة . قلت : مذهب أبي حنيفة والشافعي أن من سلم من ركعتين ساهياً أتم وسجد سجدتين ، وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس الركعتين على ظن أنهما أربعة ، فلو سلم على رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر ، فإنه يستقبل الصلاة كذا في العالمكيرية في فصل المفسدات . واستخرج له الشافعي علة ، وهي فعل شئ يبطل الصلاة عمده دون سهوه .
أقول : ما وقع من اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة ، هو لا يخرج به عن كونه مندوباً ، وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك ما كان مسنوناً دون ما كان مندوباً لا دليل عليه ، ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة ، وإلا فالمسنون والمندوب إليه معناهما لغة أعم من معناهما اصطلاحاً ، وأيضاً الفرق بين المسنون والمندوب إنما هو اصطلاح لبعض أهل الأصول دون جمهورهم . وغاية ما هناك أن المسنون هو المندوب المؤكد ، وصدق اسم السهو على ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون ، فيندرج تحت حديث لكل سهو سجدتان وتحقق الزيادة والنقص حاصل لكل واحد منهما ، فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل . ولا ريب أن بعض ما عدوه من الهيئات لا يتحقق ، مثل ترك نصب القدم وترك وضع اليدين .
و أما كونه يشرع للزيادة ولو ركعة سهواً فللحديث المتقدم وما دون الركعة بالأولى قال في المسوى : عند الحنفية إن سها عن القعدة الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد وتشهد ثم سجد للسهو ، وإن قيد الخامسة بالسجدة بطل فرضه ، ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم وسجد للسهو ، وإن قيدها بالسجدة تم فرضه فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعاً ، فإن لم يضم وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء لأنه إنما شرع ظناً . وعند الشافعية في أية حالة ذكر أنها خامسة قعد وألغى الزائد وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد ثم سجد للسهو . وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود ، ويتجه على مذهب الحنفية أن يقال في حديث ابن مسعود : أنه حكاية حال ، فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة لبيان أنه غير واجب انتهى .
و أما للشك في العدد ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو . قال في الحجة البالغة : وهو الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص وفي معناه الشك في الركوع والسجود ، والثاني زيادة الركعة كما سبق وفي معناه زيادة الركن ، والثالث أنه (ﷺ) سلم من ركعتين فقيل له في ذلك فصلى ما ترك وسجد سجدتين ، وأيضاً روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله وفي معناه أن يفعل سهواً ما يبطل عمده ، الرابع أنه (ﷺ) قام من الركعتين كما مر وفي معناه ترك التشهد في القعود ، وقوله (ﷺ) إذا قام الإمام من الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس وإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو .
أقول : في الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء ربما يستوي فإنه لا يجلس خلافاً لما عليه العامة انتهى . وفي المسوى اختلفوا في ذلك ، فعند الشافعية إذا شك في صلاته بنى على اليقين وهو الأقل سواء كان شك في ركعة أو ركن ، وعند الحنفية إن كان ذلك أول مرة سها يستقبل الصلاة ، وإن كان يعرض له كثيراً بنى على أكبر رأيه ، لحديث ابن مسعود إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وقال أحمد : يطرح الشك إما بأخذ الأقل وإما بالتحري ، فإن اختار الأول سجد قبل السلام ، وإن اختار الثاني سجد بعده انتهى .
وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم لأن ذلك من تمام الصلاة ، ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي (ﷺ) وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق .