الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصلاة/باب كيفية الصلاة
وهي علامات تواتر (ﷺ) وتوارثه الأمة أن يتطهر ويستر عورته ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه ويتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويخلص له العمل ويقول : الله أكبر بلسانه ويقرأ فاتحة الكتاب ويضم معها إلا في ثالثة الفرض ورابعته سورة من القرآن، ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه حتى يطمئن راكعاً ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً ، ثم يسجد على الآراب السبعة اليدين والرجلين والركبتين والوجه ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً ثم يسجد ثانياً كذلك ، فهذه ركعة، ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد فإن كان آخر صلاته صلى على النبي (ﷺ) ودعا أحب الدعاء إليه وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين ، فهذه صلاة النبي (ﷺ) لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة وهي من ضروريات الملة نعم اختلف الفقهاء في أحرف منها هل هي أركان الصلاة لا يعتد بها بدونها ، أو واجباتها التي تنقص بتركها ، أو أبعاض يلام على تركها وتجبر بسجدة السهو ، كذا في الحجة البالغة .
لا تكون شرعية إلا بالنية لقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وروى مالك بإسناده في غير رواية يحيى بن يحيى عن النبي (ﷺ) إنما الأعمال بالنيات قلت : وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم وعندي أن المقدر في حديث إنما الأعمال بالنية أن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به ، فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها ، لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة ، وهذه خاصة الشروط ، وأن كان المقدر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه ، فليست النية بواجبة فضلاً عن أن تكون شرطاً ، لكن قد عرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول لكون الحصر في إنما في معنى ما الأعمال إلا بالنية ، وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا كما تقرر في علمي المعاني والأصول ، والنفي يتوجه إلى المعني الحقيقي وهو الذات الشرعية وانتفاؤها ممكن ، لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية ، وعلى فرض وجود مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي ، فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال لا ستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات وترجيح أقرب المجازين متعين ، فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها ، والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره .
وأركانها كلها مفترضة لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها ، وتعدم الصورة المطلوبة بعدمها ، وتكون ناقصة بنقصان بعضها ، وهي القيام فالركوع فالاعتدال فالسجود فالاعتدال فالسجود فالقعود للتشهد ، وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها وكان يجعلها قريباً من السواء كما ثبت في الصحيح عنه .
أقول : وجملة القول في هذا الباب : أنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول وارجاع فرع الشئ إلى أصله ، أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام : واجبات كالتكبير والتسليم والتشهد ، وأركان كالقيام والركوع والاعتدال والسجود والاعتدال والسجود والقعود للتشهد ، وشروط كالنية والقراءة . أما النية فلما قدمنا ، وأما القراءة فلورود ما يدل على شرطيتها كحديث : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وحديث : لا تجريء صلاة إلا بفاتحة الكتاب ونحوها ، فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها أفاد الشرطية ، إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط ، وأصرح من مطلق النفي النفي المتوجه إلى الإجزاء .
والحاصل : أن شروط الشئ يقتضي عدمها عدمه وأركانه كذلك ، لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع ، وما كان كذلك لا يجزيء الا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة ، كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد وإن كان الحق خلاف ما قال ، وأما الواجبات فغاية ما يستفاد من دليلها وهو مطلق الأمر أن تركها معصية لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها ، إذا تقرر هذا لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها ، والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور وهو الحق ، وحقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه ، والمدح على الغعل والذم على الترك لا يستلزمان البطلان بخلاف الشرط ، فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت ، فاحفظ هذا التحقيق تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفاً للتأصيل ، وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب ، وكثيراً ما تجد العارف بالأصول ، إذا تكلم في الفروع ، ضاقت عليه المسالك ، وطاحت عنه المعارف ، وصار كأحد الجامدين على علم الفروع ، إلا جماعة منهم وقليل ما هم وقليل من عبادي الشكور .
إلا قعود التشهد الأوسط لكونه لم يأت في الأدلة في ما يدل على وجوبه بخصوصه ، كما ورد في قعود التشهد الأخير ، فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد . قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير ، فإن قلت : قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء ، كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة ولم يذكر فيه التشهد الأخير ، قلت : تقوم الحجة بمثل ذلك ، ولا يثبت به التكليف العام ، والتشهد الأخير وان لم يثبت ذكره في حديث المسيء ، فقد وردت به الأوامر ، وصرح الصحابة بافتراضه ، وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء ايضاحاً حسناً فلتراجع .
والاستراحة لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها ، وذكرها في حديث المسيء وهم كما صرح بذلك البخاري .
ولا يجب من أذكارها أي الصلاة إلا التكبير لقوله تعالى : وربك فكبر ولقوله (ﷺ) في حديث المسيء : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير .
أقول : تعيين التكبير للدخول في الصلاة محكم صريح لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر وبما تقدم من النصوص ، وهي نصوص في غاية الصحة ، فردت بالمتشابه من قوله تعالى : وذكر اسم ربه فصلى قال في الحجة : فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه وكل ذلك سنة اهـ .
أقول : إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواتراً لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة ، واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها ، ومعهم من الصحابة جماهير ، ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة بل اتفقوا عليه .
والحاصل : أنه نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة ، فإذا لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها فليس في الدنيا مشروع ، لأن كثيراً مما وقع الاطباق على مشروعيته ، وصار من قطعيات المرويات ، لم يبلغ إلى ما بلغ إليه نقل الرفع ، وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة ، لا من قوله (ﷺ) ولا من فعله ، ولا عن أصحابه من أقوالهم ولا من أفعالهم ، وقد درج عليها خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، وأما حديث البراء قال : رأيت رسول الله (ﷺ) إذا افتتح الصلاة رفع يديه ثم لم يعد فهو قد تضمن اثبات الرفع عند الإفتتاح ، ولفظ ثم لم يعد قد اتفق الحفاظ على أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد ، وقد رواء عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم : شعبة ، والثوري ، وخالد الطحان ، وزهير ، وغيرهم ، ومع هذا فالحديث من أصله قد أطبق الأئمة على تضعيفه ، وكما ثبت الرفع عند الافتتاح ، ثبت عند الركوع وعند الاعتدال منه بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح ، وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط بأحاديث صحيحة كما سيأتي بيانه .
والفاتحة في كل ركعة لقوله (ﷺ) في حديث المسيء : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود : ثم اقرأ بأم القرآن وكذلك لفظ منه لأحمد ، وابن حبان بزيادة ، ثم اصنع ذلك في كل ركعة بعد قوله : ثم اقرأ بأم القرآن فكان ذلك بياناً لما تيسر ، وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء كأحاديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهي صحيحة ، ويدل على وجوبها في كل ركعة ، ما وقع في حديث المسيء ، فإنه (ﷺ) وصف له ما يفعل في كل ركعة ، وقد أمره بقراءة الفاتحة ، فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة ، كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة ، بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه (ﷺ) فإنه قال للمسيء : ثم افعل ذلك في الصلاة كلها وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة ، قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة لا في جملة الصلاة، فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة . قال في الحجة : وما ذكره النبي (ﷺ) بلفظ الركنية كقوله (ﷺ) لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقوله : لا يجزيء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود وما سمى الشارع الصلاة به ، فإنه تنبيه بليغ على كونه ركناً في الصلاة انتهى .
ولو كان مؤتماً فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم ، لما ورد من الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام كحديث لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ونحوه ، ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل . قال في الحجة البالغة : وان كان مأموماً وجب عليه الإنصات والإستماع ، فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة ، وإن خافت فله الخيرة ، فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام وهذا أولى الأقوال عندي وبه يجمع بين أحاديث الباب انتهى . وفي تنوير العينين دلائل الجانبين فيه قوية ، لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل ، أن القراءة أولى من تركها ، فقد عولنا فيه على قول محمد كما نقل عنه صاحب الهداية وتركنا الكلام . وقال ابن القيم في الأعلام : ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحية في تعيين قراءة الفاتحة فرضاً بالمتشابه من قوله تعالى : فاقرؤوا ما تيسر منه وليس ذلك في الصلاة وإنما يدل على قيام الليل ، وبقوله للأعرابي : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة ، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها ، وأن يكون لم يسيء في قراءتها ، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن ، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسرعنها ، فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه ، فلا يترك الصريح انتهى . وقال في إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء : روى البيهقي عن يزيد بن شريك : أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام فقال : اقرأ بفاتحة الكتاب فقلت : وإن كنت أنت قال : وإن كنت أنا قلت : وإن جهرت ؟ قال : وإن جهرت قلت روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين ، أن المأموم لا يقرأ شيئاً ، والجمع أن القبيح في الأصل ، أن ينازع الإمام في القرآن ، وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك ، ثم أن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب فتعارضت مصلحة ومفسدة ، فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل ، ومن خاف المفسدة ترك والله تعالى أعلم انتهى .
أقول : الأوجه هو الاتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض ، والأمر بالإنصات في قوله تعالى : أنصتوا عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها ، وكذلك حديث : وإذا قرأ فأنصتوا وإن كان فيه مقال لا ينتهض معه للاستدلال ، وعلى فرض انتهاضه فغاية ما فيه أنه اقتضي أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم ، ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها ، وأما حديث خلطتم على فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على إمامه إنما يكون قرأ المؤتم جهراً ، وأما إذا قرأ سراً فلا خلط ، وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم ، وأما حديث جابر في هذا الباب فهو من قوله : ولم يرفعه إلى النبي (ﷺ) كما في الترمذي والموطأ وغيرهما ، وقول الصحابي لا تقوم به حجة ، فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف اللإمام حال قراءته إلا الآية الكريمة وحديث إذا قرأ فانصتوا وهما عامان كما عرفت ، يتناولان فاتحة الكتاب وغيرها ، والعام معرض للتخصيص ، والمخصص وههنا موجود ، وهو حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح ، وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول ، فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام ، ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته .
والتشهد الأخير واجب لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة وألفاظه معروفة ، وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة ، وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر ، والحق الذي لا محيص عنه ، أنه يجزيء للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات . الخارجة من مخرج صحيح ، وأصحها التشهد الذي علمه النبي (ﷺ) ابن مسعود ، وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديثه بلفظ التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وفي بعض ألفاظه : إذا قعد أحدكم فليقل . قال في الحجة البالغة : وجاء في التشهد صيغ، أصحها تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، ثم تشهد ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما ، وهي كأحرف القرآن كلها كاف وشاف انتهى . قلت : اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود ، والشافعي تشهد ابن عباس ، ومالك تشهد عمر ، واختلافهم في المختار لا في الأجزاء كذا في المسوى ، وأما الصلاة على النبي (ﷺ) التي يفعلها المصلي في التشهد ، فقد وردت بألفاظ ، وكل ما صح منه أجزأ ، ومن أصح ما ورد ما ثبت في الصحيح بلفظ اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد وزاد في الحجة اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد انتهى . قال الماتن في حاشية الشفاء : ومما ينبغي أن يعلم أن التشهد وألفاظ الصلاة على النبي (ﷺ) وآله عليهم السلاة ، كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر ، وتخصيص بعضها دون بعض كما يفعله بعض الفقهاء ، قصور باع وتحكم محض ، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بأجزاء غيره ، فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات ، وهو من صنيع المهرة بعلم الإستدلال والأدلة انتهى . وقال في موضع آخر : التشهدات الثابتة عنه (ﷺ) موجودة في كتب الحديث ، فعلى من رام التمسك بما صح عنه (ﷺ) أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة ، ويختار أصحها ويستمر عليه ، أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا ، مثلاً يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود ، وفي بعضها بتشهد ابن عباس ، وفي بعضها بتشهد غيرهما ، فالكل واسع ، والأرجح هو الأصح ، لكن كونه الأصح ، لا ينافي اجزاء الصحيح انتهى . قلت : عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي (ﷺ) مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة ، وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد ، وإن التشهد الأول ليس محلاً لها ، وذهب الشافعي وحده إلى وجوبها في التشهد الأخير ، فإن لم يصل لم تصح صلاته ، وإلى استحبابها في التشهد الأول . وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (ﷺ) : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع ، من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال وورد نحو ذلك من حديث عائشة وهو في الصحيحين وغيرهما . فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد ، ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه ، كما أرشد إلى ذلك رسول الله (ﷺ) قال في الحجة : وورد في صيغ الدعاء في التشهد اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وورد اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .
والتسليم وهو واجب لكون النبي (ﷺ) جعله تحليل الصلاة فلا تحليل لها إلا به ، فأفاد ذلك وجوبه وإن لم يذكر في حديث المسيء ، قال في الحجة : وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو أحسن كلام الناس أعني السلام وأن يوجب ذلك انتهى ، قال ابن القيم : إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي (ﷺ) التي رواها خمسة عشر نفساً من الصحابة ، أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله منهم عبد الله بن مسعود بن أبي وقاص ، وجابر ابن سمرة ، وأبو موسى الأشعري ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، ووائل بن حجر ، وأبو مالك الأشعري ، وعدي بن عمرة الضمري ، وطلق بن على ، وأوس بن أوس ، وأبو رمثة ، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن ، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها واردة في تسليمة واحدة انتهى . وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق فليرجع إليه ، قلت : وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله ، واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي (ﷺ) رواه أبو داود والترمذي ولفظه أن النبي (ﷺ) كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيمن ، السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر رواه النسائي وأحمد وابن حبان والدارقطني وغيرهم ، وفي الباب عن سهل بن سعد وحذيفة ومغيرة بن شعبة وواثلة بن الأسقع ويعقوب بن الحسين ، ووقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة وبركاته ، وهي عند ابن ماجه أيضاً ، وعند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر ، فالعجب من ابن الصلاح كيف يقول أن هذه الزيادة ليست في شئ من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر كذا في التلخيص ، وقال مالك يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة السلام عليكم لا يزيد على ذلك ، ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثاً عن يمينه وعن شماله وتلقاء وجهه بردها على إمامه كذا في المسوى .
أقول : ورود التسليمة الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها ، وهي أحاديث التسلميتين لما عرفناك غير مرة ، ان الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها فالقول بتسليمتين أعمال لجميع ما ورد ، بخلاف القول بتسليمة ، فإنه اهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض ، وأما كون التسليم واجباً أو غير واجب ، فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء ، وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه إلا أن يثبت ايجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجاباً لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه ، وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين فلا خلاف في ذلك ، وأما في حال الاعتدال من الركوع وبي السجدتين فخالف في ذلك قوم ، والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين بل المشروع اطالتهما ، وقد ثبت عنه (ﷺ) ما يدل على ذلك كما في حديث البراء ، أنه حزر أركان صلاته (ﷺ) وعد من جملتها الاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجدتين فوجدها قريباً من السواء ، وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود ، وثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود ، حتى يظن من رآه أنه قد نسي لإ طالته لهما . وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما .
فالحاصل : أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين ركن من أركان الصلاة لاتتم بدونه ، وأما طول اللبث زيادة على الاطمئنان فمن السنن المؤكدة ، لأنه لم يدكر في حديث المسيء ، وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدالة إلى غاية ، بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده ، وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلاً من ركوعه ومعتدلاً من سجوده ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود ، فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل والله المستعان .