الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصلاة/باب صلاة الجماعة
هي من آكد السنن وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية لما ورد فيها من الترغيبات ، حتى أنه (ﷺ) صرح بأنه تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة كما في الصحيحين . ووقع منه الاخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتخلفين دورهم . قال ابن القيم : ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة ، فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر ا هـ . ولازمها (ﷺ) من الوقت الذي شرعها الله تعالى فيه إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، ولم يرخص (ﷺ) في تركها لمن سمع النداء ، فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته فرخص له ، فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب وكل ما ذكرناه ثابت في الصحيح . وثبت في الصحيح أيضاً عن ابن مسعود أنه قال : لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق قال ابن القيم : هذا فوق الكبيرة ا هـ . ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتي يقام في الصف .
أقول : أما كونها فريضة متحتمة فالأدلة متعارضة ، ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع بها بين هذه الأدلة ، وهي أن أحاديث أفضلية الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة ، وهي أحاديث كثيرة مثل حديث الذي ينتطر الصلاة مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام وهو في الصحيح . ومنه حديث المسيء صلاته المشهور ، فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفرداً . ومنه حديث ألا رجل يتصدق على هذا عند أن رأى رجلاً يصلي منفرداً ، ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام ، فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في جماعة ، مع أنه قال لمن قال له لا يزيد على ذلك ولا ينقص أفلح وأبيه إن صدق . ونحو ذلك من الأدلة فالجميع صالح لصرف فلا صلاة له الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة إلى نفي الكمال لا إلى نفي الصحة . وأما ما وقع منه (ﷺ) من الهم بتحريق المتخلفين ، فهو إن لم يكن قولاً ولا فعلاً ولا تقريراً ، لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزاً ، ولا يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه ، فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى . قال في الحجة البالغة : لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف ، والسقيم ، وذي الحاجة ، اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك ، ليتحقق العدل بين الافراط والتفريط ، فمن أنواع الحرج ليلة ذات برد ومطر ، ويستحب عند ذلك قول المؤذن : ألا صلوا في الرحال ، ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر ، فإنه ربما يتشوف إليه وربما يضيع الطعام ، وكمدافعة الأخبثين فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة مع ما به من اشتغال النفس . ولا اختلاف بين حديث لا صلاة بحضرة الطعام وحديث لا تؤخر الصلاة لطعام ولا غيره إذ يمكن تنزل كل واحد على صورة أو معنى ، والمراد نفي وجوب الحضور سر الباب التعمق وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن سر التعمق ، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين ، أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع وعدمه إذا لم يكن كذلك مأخوذ من حال العلة ، ومنها ما إذا كان خوف فتنة كامرأة أصابت بخوراً . ولا اختلاف بين قوله (ﷺ) إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن ، إذ المنهي عنه الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة ، والجائز ما فيه خوف الفتنة ، وذلك قوله (ﷺ) الغيرة غيرتان الحديث : وحديث عائشة أن النساء أحدثن الحديث : ومنها الخوف والمرض ، والأمر فيهما ظاهر. ومعنى قوله (ﷺ) للأعمى أتسمع النداء الخ : أن سؤاله كان في العزيمة فلم يرخص له .
وتنعقد باثنين وليس في ذلك خلاف ، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلى بالليل مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحده وقام عن يساره فأداره إلى يمينه .
و إذا كثر الجمع كان الثواب أكثر لأنه قد ثبت عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم .
ويصح بعد المفضول لأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد صلى بعد أبي بكر وبعد غيره من الصحابة كما في الصحيح، ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل ، والأحاديث التي فيها لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه ونحوها لا تقوم بها الحجة ، وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه ، وليس فيها المنع من إمامة المفضول ، وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر ، وخلف من قال لا إله إلا الله وهي ضعيفة وليست بأضعف مما عارضها ، والأصل أن الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة وإن كان الاإام غير متجنب للمعاصي ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره ، ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسن ولم يعتبر الورع والعدالة فقال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود ، وفي حديث مالك بن الحويرث وليؤمكما أكبركما وهو في الصحيحين وغيرهما ، وقد استخلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى .
والحاصل : أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة ، والعلم بالسنة ، وقدم الهجرة ، وعلو السن ، فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه ، ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك .
والأولى أن يكون الإمام من الخيار لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله (ﷺ) اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم رواه الدارقطني . وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه (ﷺ) إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم قال في منح المنة : وكان (ﷺ) يجيز إمامة الارقاء وكان سالم مولى أبي حذيفة يصلي بالمهاجرين الأولين لما نزلوا بقباء لكونه أكثرهم قرآناً ، وكان (ﷺ) يقول : صلوا خلف كل بر وفاجر وكانت الصحابة خلف الحجاج وقد أحصي الذين قتلهم من الصحابة والتابعين فبلغوا مائة ألف وعشرين ألفاً ا هـ .
أقول : الأحاديث الواردة في الصلاة خلف كل بر وفاجر ، وما قابلها من الأحاديث المقضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر ومن كان ذا جرأة ، لم يبلغ منها شئ إلى حد يجوز العمل عليه ، فوجب الرجوع إلى الأصل ، وأما عدم اعتبار قيد العدالة ، فلعدم ورود دليل يدل عليه ، وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة ، واسع العلم ، كثير الورع ، أفضل وأحب ، فلا نزاع في ذلك ، إنما النزاع في كون ذلك شرطاً من شروط الجماعة ، مع أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار مثل حديث يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطؤا فعلى أنفسهم أو كما قال وهو حديث صحيح .
والحاصل : أن الدين يسر وقد جاءنا (ﷺ) بالشريعة السمحة السهلة ، ولم يأمرما بالكشف عن الحقائق ، وسن أن نصلي بعد من كان بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض ، باعتبار المزايا الموجبة للفضل ، فإنه (ﷺ) بعد أبي بكر وعتاب بن أسيد وهما بالنسبة إليه لا يعدان شيئاً ، ولا ريب أن الذي ينبغي تقديمه لمثل هذه العبادة ليكون وافد المؤتمين به إلى الله هو من أرشد إليه (ﷺ) بقوله : يؤم القوم أقرؤهم إلى آخر الحديث . إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة المتبعين للسنة ، فيوقع في قلبه العداوة لكل واحد منهم بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة ، فيقول له هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه كذا ، وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا ، ثم ينقله من درجة إلى درجة ، ومن واحد إلى واحد ، حتى لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة ، فهذا مخدوع قد لعب به الشيطان كيف يشاء حتى أحرمه فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر الإسلام وأجل أسباب الأجور ، ومع هذا فهو قد أوقعه في ورطة أخرى وهي حمل جميع المسلمين على غير السلامة ، فصار ظالماً لكل واحد منهم مظلمة يستوفيها منه بين يدي الجبار ، وقد ينضم إلى هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان يلعب به كيف يشاء قد يعتقد الفضل في نفسه ، وأن الإمامة لم تكن تصلح إلا له ، ولم يكن يصلح إلا لها ، فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من المسلمين ، بل يجمع له جماعة يكون إمامهم فهو أسقى ممن قبله ، لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض الله من عباده الصلحاء سواه ، فلا حياه الله ولا بياه .
ويؤم الرجل بالنساء لا العكس لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما ، أنه صف هو واليتيم وراء النبي (ﷺ) والعجوز من ورائهم . وقد أخرج الاسماعيلي عن عائشة أنها قالت : كان النبي (ﷺ) إذا رجع من المسجد صلى بنا وقد كانت النساء يصلين خلفه (ﷺ) في مسجده ، وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع ، وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط ، ومن زعم أن ذلك لا يصح فعليه الدليل . وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل فلأنها عورة وناقصة عقل ودين ، والرجال قوامون على النساء ، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة كما ثبت في الصحيح ، ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته .
والمفترض بالمتنفل والعكس لحديث معاذ أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي (ﷺ) وهو في الصحيحين وغيرهما ، وهذا دليل على جواز ذلك لأنه كان متنفلاً وهم مفترضون لما في بعض الروايات من تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلاً ، وهذه الزيادة المصرحة بالمطلوب وإن كان فيها مقال معروف لكنها معتضدة بما عرف من حرص الصحابة على الأوفر أجراً والأكمل ثواباً ، ولا شك أن الصلاة خلفه (ﷺ) أفضل وأكمل وأتم . وأما الجواب عن حديث معاذ بأنه حكاية فعل فساقط لا ستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة ، وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن وجماهير من أحكام الشريعة ، مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا ، لأن الحجة هي تقريره (ﷺ) لمعاذ ولقومه على ذلك ، لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك . وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة فكلام صحيح ، ولكن الحجة ليست فعل معاذ بل تقريره (ﷺ) كما عرفت ، وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى .
والحاصل : أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل ، فمن زعم أن ثم مانعاً في بعض الصور فعليه الدليل ، فإن نهض به صح ما يقوله ، وإن لم ينهض به بطل . وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل فكما فعله (ﷺ) في صلاة الليل وصلى معه ابن عباس ، وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك والكل ثابت في الصحيح .
ويجب المتابعة في غير مبطل لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه وهو ثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وأنس وجابر وثابت خارج الصحيح عن جماعة من الصحابة . وورد الوعيد على المخالفة كحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (ﷺ) : أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار ، أو يحول صورته صورة حمار أخرجه الجماعة . ولا يتابعه في شئ يوجب بطلان صلاته ، نحو أن يتكلم الإمام أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي ولا خلاف في ذلك . قال في المسوى : هو كذلك عند الجمهور أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات ، وقوله إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً منسوخ . ومعنى كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر على الصحيح أنه كان مسمعاً لمن خلفه في العالمكيرية إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يصير ركوعين وسجودين قلت عامة أهل العلم على أن هذا الفعل منهي عنه وصلاته مجزئة وأكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود .
ولا يؤم الرجل قوماً هم له كارهون لحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة . من يقدم قوماً وهم له كارهون . ورجل أتى الصلاة دباراً . ورجل اعتبد محررة أخرجه أبو داود وابن ماجة . وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي وفيه ضعف . وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، وإمام قوم وهم له كارهون وقد حسنه الترمذي وضعفه البيهقي . قال النووي في الخلاصة : والأرجح قول الترمذي . وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضاً .
أقول : ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب عن ذلك ، أنه لا فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من غيرهم ، فيكون مجرد حصول الكراهة عذراً لمن كان يصلح للإمامة في تركها ، وغالب الكراهات الكائنة بين هذا النوع الإنساني خصوصاً في هذه الأزمنة راجعة إلى أغراض دنيوية ، والراجع هنا إلى أغراض دينية أقل قليل ، ومع كونه كذلك فغالبه صادر عن اعتقادات فاسدة وخيالات مختلفة كما يقع بين المتخالفين في المذاهب ، فإن العصبية الناشئة بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب ، فلا يقيم أحدهم للآخر وزناً ، ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا بعين الرضا ، فيرى محاسنه مساويء كائنة ما كانت . وقد تفع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين بالدين والعلم ، والآخر من الجهلة المتهتكين . وكثيراً ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض ولا يطيقونهم بغضاً ، فإن كان ثم دليل يدل على تخصيص الكراهة بما كان منها راجعاً إلى ما هو مختص بالله عز وجل كمن يكره إنسانا لكونه مكباً على المعاصي ، أو متهاوناً بما أوجبه الله عليه ، فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر لا توجد حقيقتها إلا عند أفراد من العباد ، وإن لم يوجد دليل يخصص الكراهة بذلك ، فالأولى لمن عرف أن جماعة من الناس يكرهونه لا لسبب أو لسبب ديني أن لا يؤمهم ، وأجره في الترك يفضل أجره في الفعل .
ويصلي بهم صلاة أخفهم لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف . قال في الحجة : وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت ، واختار بعض السور في بعض الصلوات لفوائد من غير حتم ولا طلب مؤكد ، فمن اتبع فقد أحسن ومن لا فلا حرج . وقصة معاذ في الإطالة مشهورة انتهى حاصله . وأما ارتفاع الإمام عن المأموم فلا يضر قدر القامة ولا فوقها ، لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الإرتفاع والإنخفاض ، والبعد والحائل ، ومن زعم أن شيئاً من ذلك تفسد به فعليه الدليل ، ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على دكان ، الحديث أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه . ورواه أبو داود من وجه آخر وفيه قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله (ﷺ) يقول : إذا أم الرجل القوم فلا يقم أرفع من مقامهم أو نحو ذلك الحديث : وفي إسناده الرجل المجهول . ورواه البيهقي أيضاً ، ففي هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم ، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته (ﷺ) على المنبر كما في الصحيحين وغيرهما . ومن قال إنه (ﷺ) فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك ، لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي (ﷺ) . وقد جمع الماتن رح تعالى في هذا البحث رسالة مستقلة جواباً عن سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها .
ويقدم السلطان ورب المنزل لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعاً لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه وفي لفظ لايؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه وورد تقييد جواز ذلك بالإذن ، وفي لفظ لأبي داود لا يؤم الرجل في بيته وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن مالك بن الحويرث قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم .
والأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن لما في حديث أبي مسعود بلفظ يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء ، فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً وهو في الصحيح ، وإنما لم يذكر الهجرة في المتن لأنه لا هجرة بعد الفتح كما في الحديث الصحيح .
وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين به لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم . وإن أخطؤا فلكم وعليهم أخرجه البخاري وغيره . وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه .
وموقفهم أي المؤتمين خلفه أي خلف الإمام إلا الواحد فعن يمينه لحديث جابر بن عبد الله أنه صلى مع النبي (ﷺ) فجعله عن يمينه ، ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي (ﷺ) ، فأخذ بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما خلفه وهو في الصحيح . وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة يقف الواحد عن يمين الإمام والإثنان فما زاد خلفه . وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك . وقال سعيد بن المسيب : إنه مندوب فقط ، وروي عن النخعي أن الواحد يقف خلف الإمام .
وإمامة النساء وسط الصف لما روي من فعل عائشة أنها أمت النساء فقامت وسط الصف أخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم . وروي مثل ذلك عن أم سلمة أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والدارقطني . قال ابن القيم في المسند والسنن من حديث عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت الحرث : أن رسول الله (ﷺ) كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذناً كان يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها قال عبد الرحمن : فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً . ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله (ﷺ) : تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لكفى . وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة أن رسول الله (ﷺ) قال : لا خير في جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة والاعتماد على ما تقدم ، فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله (ﷺ) : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة رواه البخاري ، وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء . وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا ، ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين ، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ، ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن . انتهى حاصله .
وتقدم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء لحديث أبي مالك الأشعري إن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان ، والغلمان خلفهم ، والنساء خلف الغلمان أخرجه أحمد ، وأخرج بعضه أبو داود وفي إسناده شهر بن حوشب . ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أنس أنه قام هو واليتيم خلف النبي (ﷺ) وأم سليم خلفهم .
و أما كون الأحق بالصف الأول هم أولو الأحلام والنهي فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال ليليني منكم أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه قال في الحجة : ولئلا يشق على أولي الأحلام تقدم من دونهم عليهم انتهى .
و أما كون الأمر على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل فلما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : وسطوا الإمام وسدوا الخلل وفي الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سووا صفوفكم فإن تسوية الصفرف من تمام الصلاة وعنه أيضاً في الصحيحين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول : تراصوا واعتدلوا وثبت في الصحيح من حديث نعمان بن بشير أنه قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم قلت وهو قول أهل العلم : أن تسوية الصفوف سنة . وأن يتموا الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإتمام الصف الأول ، ثم الذي يليه ثم كذلك . فالسنة أن لا يقف المؤتم في الصف الثاني وفي الصف الأول سعة ، ثم لايقف في الصف الثالث وفي الصف الثاني سعة ثم كذلك ، وورد أيضاً أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل . وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً ففيه خلاف لجماعة من الأئمة ، والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة ، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليراجع إلى شرح المنتقي ، وطيب النشز ، والسيل الجرار ، وحاشية الشفاء ، والفتح الرباني ، ودليل الطالب فالمسألة من المعارك . وأما جعل ما أدركه مع الإمام أول صلاته فهذا هو الحق ، فالهيئة المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير ، بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة ، فيفعل الداخل مع الإمام بعد أن فاته بعض الركعات ما يفعله لو كان داخلاً معة في الابتداء أو كان منفرداً . وحديث فاقضوا وإن كان صحيحاً فحديث أتموا أصح منه ، وقد أمكن الجمع بحعل معنى القضاء على التمام لأنه أحد معانيه ، ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في الأركان ، فلا يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام وإن كان موضع قعود له ، ولا يدع القعود في موضع قعود للإمام وإن لم يكن موضع قعود له ، لأن الاقتداء والمتابعة لا زمان في صلاة الجماعة ، وتركهما يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة ، وقد ورد الأمر بالمتابعة في الأركان بياناً لقوله لا تختلفوا على إمامكم ولم يرد الأمر بذلك في الأذكار .