العقد الفريد/الجزء الأول/10
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما جند جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديماً منها فاقداً لها لا يثق بقوة ولا يصول بعدة ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفى خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والإعطاء لما يسألون فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم. ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وأبرق لهم وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثراً فيهم. ثم ادسس الرسل وابثث الكتب وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضاً على خوف من وعيدك. وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم وأغرض أشجار التنافس بينهم حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغضة ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع من النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستلب العقول ويسترق القلوب ويسبى الآراء ويستميل الأهواء ويستدعي المواتاة أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملاً وألطف نظراً وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال وإتلاف الأموال والتغرير والخطار. وليعلم المهدي - وفقه الله - أنه إن وجه لقتالهم رجلاً لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة وتقدم على أسفار صعبة وأموال متفرقة وقواد غششة إن ائتمنهم استنفذوا ماله وإن استنصحهم كانوا عليه لا له. قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره وبرق ضوؤه وتمثل صوابه للعيون وتجسد حقه في قال علي: أيها المهدي إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يداً ولم ينصبوا من دونك أحداً يكدح في تغيير ملكك ويربض الأمور لفساد دولتك ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر والحال أذل لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه. ولكنه قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم والياً وجعل العدل بينك وبينهم حاكماً. طلبوا حقاً وسألوا إنصافاً فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حالاً أو يحدث من عندهم فتق أطعت أمر الرب وأطفأت نائرة الحرب ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك وإسجاح خليقتك ومعدلة نظرك. فأمنت أن تنسب إلى ضعف. وأن يكون ذلك لهم فيما بقى دربة. وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته مقرين بمملكته مذعنين لطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم ويقف على الجدل معهم ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة ومضمار المخاطرة أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعي قبلهم. ولو نالها فحملت إليه ووضعت بخرائطها بين يديه ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها لكان ذلك مما إليه ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالاً لغيرهم وعظة لسواهم فيعلم المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد مقرنين في الأصفاد ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولإقامة عثرتهم صفحه واستقبالهم لما هم فيه من حربه أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعاً من رأيه ولا مستنكراً من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفواً وأشدها وقعاً وأصدقها صولة وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يتكاءده صفح وإن عظم الذنب وجل الخطب. فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم براً بهم وتوسعاً لهم فإنهم إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزتهم يصول وبحجتهم يقول. إنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه وتعرضوا له من معاصيه وانطووا فيه عن إجابته ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم أو تغير من نعمته عليهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين أصاب أحدهما خبل عارض ولمم حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه فلم يزد ذلك أخاه إلا رقة له ولطفا به واحتيالاً لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفاً عليه وبراً به ومرحمة له. فقال المهدي: أما علي فقد نوى سمت الليان وفض القلوب عن أهل خراسان ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم قال: ما ترى يا أبا محمد يعني موسى ابنه. فقال موسى: أيها المهدي لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. الحال من القوم تنادى بمضرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليه ستراً واتخذوا العلل من دونها حجاباً رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير والأمور بالتطويل فيكسروا حيل المهدي فيهم ويثنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم. والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أحوال الولاة وغب سكون الأمور. فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة لفسادهم وقوة على معصيتهم وداعية إلى عودتهم وسببا لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين أقرهم على تلك العادة وأجراهم على ذلك الأدب لم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة والمؤونة الشديدة. والرأي للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم الموت ويحيط بهم البلاء ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه مؤونة غزوات كثيرة ونفقات عظيمة. قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل. فقال العباس بن محمد: أيها المهدي أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أموراً قصر نظرهم عنها لأنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق والجنود أن لا تفرق وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا وجاء بأمر بين ذلك استصغاراً لأمرهم واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها. وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسيفه حقه اللين بحتاً والخير محضاً لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحيشهم إلى خيره فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم ولا شدة حال أخرجتهم لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم ونزوة في رؤوسهم يستعدون بها البلاء إلى أنفسهم ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه النفوس ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها. فلولا أنه خلق ناراً لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا. وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لما فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفرداً والشر مجرداً ليس معهما طمع يكسرهم ولا لين يثنيهم امتدت الأمور بهم وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف الاستبسال في القتال والاستسلام للموت وإما أن ينقادوا بالكره ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة وعداوة باقية تورث النفاق وتعقب الشقاق فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابت لهم قدرة وقال: في قول الفضل أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان وأبين خبر بان قد اجتمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق وإجابتهم إلى ما سألوا من العدل. قال المهدي: ذلك رأى. قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب ولكن أرى غير ذلك. قال المهدي: لقد قلت قولاً بديعاً خالفت به أهل بيتك جميعاً والمرء متهم بما قال وظنين بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت. قال هارون: أيها المهدي إن الحرب خدعة والأعاجم قوم مكرة وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترقت الحالان وخالف القلب اللسان فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخوله لا تعلن. والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل وموالاة العيون حتى تهتك حجب غيوبهم وتكشف أغطية أمورهم فإن انكشفت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه عصبهم بشدة لا لين فيها ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت الغيوب واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيهم مريعة والأمور بهم معتدلة عن أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما فتقوا ويولي عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي الحدب الذي يحتال لمرابض غنمه وضوال رعيته. حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الضالة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم ولا المؤاخذة لهم ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ أحزم في الرأي. وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح مما قال وانسل انسلال السيف فيما ادعى. فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي وثنى بعده هارون. ولكن من لأعنه الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة قال الصالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله منه ما تحب وجمع لك منه ما تريد. قال المهدي: إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي والاعتبار بالمشاورة في الأمر المهم. قال محمد بن الليث: أهل خراسان أيها المهدي قوم ذو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة وملابس الأنفة عليهم ظاهرة. فالروية عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة تسبق سيولهم مطرهم وسيوفهم عذلهم لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بالشدة ولا يفطمون إلا بالقهر. وإن ولى المهدي عليهم وضيعاً لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفاً تحامل على الضعفاء. وإن أخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحاً يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا عصبية تنفرهم تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد ولا يستصلحه وإن جهد إلا بعد دهر طويل وشر كبير. وليس المهدي - وفقه الله - فاطماً عاداتهم ولا قارعاً صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا يثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل تقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضعت الدنيا عن قدره وسما نحو الآخرة بهمته فجعل الغرض الأقصى لعينه نصباً والغرض الأدنى لقدمه موطئاً فليس يغفل عملاً ولا يتعدى أملاً وهو رأس مواليك وأنصح بني أبيك رجل قد غذي بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قويم أدبك. فإن قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلاً فتحه أمرك وباباً أغلقه نهيك فجعل العدل عليه وعليهم أميراً والإنصاف بينه وبينهم حاكماً فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم غرس لك في الذي بين صدورهم وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متمثلة في حواشي عوامهم متمكنة من قلوب خواضهم فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه وهذا أحدهم. والآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي. فسلطه - أعزك الله - عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز ثابتة. قال معاوية بن عبد الله: أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر وأهل خراسان في حال عز على ما وصف ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان أحدهما: أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر: أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساس الحروب وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم. قال المهدي: جانيت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلفه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجري به المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود وموضع الوجوه ومجمع الأموال التي جعلها الله عز وجل قطباً لمدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء المروق. وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه واستدامت الحال بأيامه حتى يقع عرض لا يستغنى فيه أو يحدث أمر لا بد فيه منه صار ما بعده مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً له تبعاً وبه متصلاً. قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه. نحن - أهل البيت - نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر قد أنبأت به الكتب وتتابعت عليه الرسل وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا فبه ندبر وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي عقبي من بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيله ثم يخرج نشطاً إليهم حنقاً عليهم يريد أن لا يدع أحد من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال إلا توطأه بحر القتل وألبسه قناع القهر وطوقه طوق الذل ولا أحداً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول بذله. فإذا خرج مزمعاً له مجمعاً عليه لم يسر إلا قليلاً حتى يأتيه أن قد عملت حيله. وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القلوب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظراً لهم وبراً بهم وتعطفاً عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال. وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسألون فإذا سمت الفرق بقرانها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه فأصغت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبسها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة. فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليهم الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه فيضطمر عليها موجدة ويبتغي لها علة لا يلبث أن يجدها بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر فيهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد ويوتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أماناً ولا يقبل لهم عهداً ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا. ولكنه يقتل أعلامهم ويأسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وخمر الأردية وبطون الأرض تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً حتى يدع الديار خراباً والنساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف في كتبناً وقتاً ولا نصحح منع غير ما قلنا تفسيراً. وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذأب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه. فمن يصحبه من الوزراء ومن يختار له من الناس قال محمد بن الليث: أيها المهدي إن ولى عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علماً قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها. وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك: عطل الحال غفل الأمر واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره فإن من شأن العامة وأمراء الأمة أن تتفقد مخارج رأيه وتستنصت لمواقع آثاره وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظراً له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعاً في قلوب رعيته وأحمد حالاً في نفوس أهل ملته. ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر من أثره ومحبة للخير وأهله. وإن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواماً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه. قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى فقال: أي بني إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصباً ولمثنى أعطاف الرعية غاية فحسنتك شاملة وإساءتك نامية وأمرك ظاهر. فعليك بتقوى الله عز وجل وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما ولا تطلب رضاهم بخلافهما فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه إيثارك رضاه وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمن عترة من رسله وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذهم لأولياء دينه أنصاراً وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل ويقيمون الميل ويدفعون عن الأرض الفساد. وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع ريب الزمان بعزائمهم ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها وحتوف الأعداء إذا برزت صفحتها وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها. قد مضت لهم وقائع صادقات ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن وقصمت دواعي البدع وأذلت رقاب الجبارين ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم وجعلهم بها أرباباً في أقطار الأرضين وملوكاً على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومحالفة الأسى وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حتى طاعتهم ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمسيئهم. أي بني: ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها وتحسن بذلك لربك وتزين به في عين رعيتك واجعل عمال القدر وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك ونصفة منك لرعيتك وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت هؤلاء عمال القدر وولاة الحجج. فلا يضيعن عليك ما في ذلك - إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع - من انعقاد ألسنة المرجفين وكبت قلوب الحاسدين وإطفاء نيران الحروب وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلاً وبعراً حبلك متعلقاً رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح. والآخر له دين غير مغمور وموضع مدخول بصير بتقلب الكلام وتصريف الرأي وإيحاء الأدب ووضع الكتب عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب يضع آداباً نافعة وآثاراً باقية من تجميل محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي ويرعى في خضرة جناني: ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواماً يكونون جيرانك وسمارك وأهل مشاورتك فيما تورد وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلاً يهدي إلى الصواب قلبك وهادياً ينطق بالحق لسانك. وكتب في شهر ربيع الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد.
باب في مداراة العدو
في كتاب للهند: إن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا ترد بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها. وقالوا: أزفن للقرد في دولته. أخذه الشاعر فقال: لا تعبدن صنماً في فاقة نزلت وازفن بلا حرج للقرد في زمنه وقال أحمد بن يوسف الكاتب: إذا لم تقدر أن تعض يد عدوك فقبلها. وقال سابق البلوي: وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً عليك ولن يحتال من لا يداهن وقالت الحكماء: رأس العقل مغافصة الفرصة عند إمكانها والانصراف عما لا سبيل إليه. وقال الشاعر: بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ويرتع منك في عرض مصون إن أبدى لك المودة قالت الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك. فإنما السلامة من العدو بتباعدك منه وانقباضك عنه وعند الأنس إليه والثقة به تمكنه من مقاتلك. وقالوا: لا تطمئن إلى العدو إن أبدى لك المقاربة وإن بسط لك وجهه وخفض لك جناحه فإنه يتربص بك الدوائر ويضمر لك الغوائل ولا يرتجى صلاحاً إلا في فسادك ولا رفعة إلا بسقوط جاهك. كما قال الأخطل: بني أمية إني ناصح لكم فلا يبيتن فيكم آمناً زفر واتخذوه عدواً إن شاهده وما تغيب من أخلاقه دعر إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر وفي كتاب الهند: الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر المواثبة إن قرب والمعاودة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولى والكرة إن فر. وأوصى بعض الحكماء ملكاً فقال: لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه ثم تقتله العبيد التي يملكها. ولم يقل أحد في العدو المندمل على العداوة مثل قول الأخطل: إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعرق يكمن حيناً ثم ينتشر وقد أشار الحسن بن هانئ إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول: وابن عم لا يكاشفنا قد لبسناه على غمره كمن الشنآن فيه لنا ككمون النار في حجره وشبهوا العدو إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة. قال ابن أخت تأبط شراً: مطرق يرشح موتاً كما أطرق أفعى ينفث السم صل وقال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال: بل معاوية قالها لعبد الله بن الزبير -: مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر وفي كتاب الهند: إذا أحدث لك العدو صداقة لعلة ألجأته إليك فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله بارداً: والشجرة المرة لو طليتها بالعسل وقال دريد بن الصمة: وما تخفى الضغينة حيث كانت ولا النظر المريض من الصحيح وقال زهير: وما يك في صديق أو عدو تخبرك العيون عن القلوب وقيل لزياد: ما السرور قال: من طال في العافية والكفاية عمره حتى يرى في عدوه ما يسره.
باب من أخبار الأزارقة
كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه: حوثرة الأقطع فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج ومعاوية بالكوفة وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم. فقال الحسن عليه السلام: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني فكيف أن أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم فلما رجع الجواب إليه وجه إليهم جيشاً أكثره من أهل الكوفة ثم قال لأبي حوثرة: تقدم فاكفني أمر ابنك. فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فداوره فصمم. فقال له: أي بني أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه فقال له: يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني. فرجع إلى معاوية فأخبره. فقال: يا أبا حوثرة عتا هذا جداً. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه. ثم جعل يشد عليهم ويقول: احمل على هذي الجموع حوثرة فعن قريب ستنال المغفره وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم وشهد النهروان ونجا فيمن نجا فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج فقال لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجرى علينا أحكامهم مجانيين للعدل مفارقين للفصل. والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً منهم: حريث بن حجل وكهمس ابن طلق الصريمي فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى. فولوا أمرهم مرداساً. فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقاً فقال له: يا ابن أخي أين تريد فقال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. قال: له: أعلم أحد بكم قال: لا قال: فارجع. قال: أو تخاف علي مكروها قال: نعم وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك. فمر به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين: فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى وقال: قولوا لصاحبكم: إنما أخذنا أعطياتنا. فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي قال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة. فوجه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين. فلما وصل إليهم قال له مرداس: اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً وإنما هربنا من الظلم ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال: لا بد من ردكم إلى ابن زياد. قال: وإن أراد قتلنا. قال: وإن أراد قتلكم! قال: فتشرك في دمائنا. قال: نعم. فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه. ثم وجه إليهم ابن زياد عباداً. فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة فناداهم أبو بلال: يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي. فوادعوهم فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد. فقال عمران بن حطان يرثي أبا بلال: يا عين بكي لمرداس ومصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس أبقيتني هائماً أبكي لمرزئتي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً ولا أوطن أنفساً على الموت فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك رب لترضى. ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان من عتاب بن ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم: يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هريرة الهرار يعروكم بالليل والنهار وهو من الرحمن في جوار فتعاظمهم ذلك. فكمن له عبيدة بن هلال فضربه واحتمله أصحابه فظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم: ما فعل الهرار فيقولون: ما به من بأس. حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال: يا أعداء الله. أترون بي بأساً فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية. فلما طال الحصار على عتاب قال لأصحابه: ما تنتظرون: إنكم والله ما تؤتون من قلة وإنكم فرسان عشائركم ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي. قال: فخرج في ألفين وسبعمائة فارس فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله فقتلوا أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء. وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي. كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف. فناداه الناس من بعض البيوت: الحرورية انج بنفسك. فنادوه: لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه. وبلغ أبا بلال خبرهما وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس فقال قريب لا قربه الله من الخير وزحاف لا عفا الله عنه فلقد ركباها عشواء مظلمة. ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها حتى مرا ببني علي ابن سود من الأزد. وكانوا رماة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي. فرموهم رمياً شديداً فصاحوا: يا بني علي البقيا لا لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فهربت عنهم الخوارج. فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة. واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم. ثم عاد الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم. فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه وأتوا به زياداً فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله. ولزياد أخرى في الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها ثم عراها فلم تخرج النساء إلا بعد زياد وكن إذا أرغمن على الخروج قلن: لولا التعرية لسارعنا.