العقد الفريد/الجزء الأول/11

ومن مشاهير فرسان الخوارج: عمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب وكان قال له مولاه خلاج: وددت أنا فضضنا عسكرهم فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي -: أخلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تعانق في الكتيبة معلماً عمرو القنا وعبيدة بن هلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال والمقعطر: من مشاهير فرسانهم. وقطري: أنجدهم قاطبة. وصالح بن مخراق: من بهمهم وكذلك سعد الطلائع. ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه قال المهلب لأصحابه. إن الله قد أراحكم من أقران أربعة: قطري بن الفجاءة واصلح بن مخراق. وعبيدة بن هلال وسعد الطلائع وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان. وكانت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يرتجز: الليل ليل فيه ويل ويل وسال بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول وتعرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي: إن أعداءنا كأعداء الرسول يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله وأقام المسلمون بين المشركين وأقول: إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. وقال عبد الله بن إباض: لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول وإنما هم كفار للنعم ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل ودعوة الإسلام تجمعهم. وقالت الصفرية بقول عبد الله بن إباض ورأت القعود حتى صارت عامتهم قعداً. وإنما سموا صفرية لإصفرار وجوههم وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار.

كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد

قال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه تغمده الله برحمته: قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال وتقدم الرجال على منازلهم من الصبر والجلد والعدة والعدد. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلها لحمد وأدفعها لذم وأسترها لعيب كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري والجواد السخي. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى تسمى بها فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريماً من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته. وقال النبي : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وفي الحديث المأثور: الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله. وفي الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي أنتما إن الله قد عودني أن يتفضل علي وعودته أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت متلاف. قال: منع الجود سوء ظن بالمعبود. يقول الله وقال النبي : أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.

مدح الكرم وذم البخل

قال النبي : اصطناع المعروف يقي مصارع السوء. وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها. وقال النبي لقوم من العرب: من سيدكم قالوا: الجد ابن قيس على بخل فيه. فقال : وأي داء أدوى من البخل يقول الله تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". وقال أكثم بن صيفى حكيم العرب: ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها إلى المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذموه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة ولا تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر. أخذه الشاعر فقال: أمن خوف فقر تعجلته وأخرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغني وما كنت تعدو الذي تصنع وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر. فرد عليه: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع. وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر: أيها الناس عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه. وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه. وأخذه من قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة. يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام: من يفعل الخير يجده عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي. وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً حتى يكون أسعد الناس به فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إما لمصلح فلا يقل عليه شيء وإما لمفسد فلا يبقى له شيء. أخذه الشاعر فقال: أسعد بمالك في الحياة فإنما يبقى خلافك مصلح أو مفسد وقال أبو ذر رضي الله عنه: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل. وقال بزرجمهر الفارسي: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى: أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيماً. وأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال: من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً والبخل من سوء ظن المرء بالله محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان فقال لي: إما أن تحملني وإما أن أحملك. ففهمت ما أراد فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري: وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعففوا وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا فأمر لي بعشرين ألفاً. وقال عبد الله بن عباس: سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء. وقال أبو مسلم الخولاني: ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه. وما كل من قدر على المعروف كانت له نية. فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة وأنشد: إن المكارم كلها حسن والبذل أحسن ذلك الحسن كم عارف بي لست أعرفه ومخبر عني ولم يرني يأتيهم خبري وإن بعدت داري وبوعد عنهم وطني إني لحر المال ممتهن ولحر عرضي غير ممتهن وقال خالد بن عبد الله القسري: من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره. وقال عمرو بن العاص: والله لرجل ذكرني ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى يراني موضعاً لحاجته لأوجب علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له. وقال عبد العزيز بن مروان: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده يده عندي إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يكن لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه عن خناقه وزايله الهم الطروق المساور وكان له فضل علي بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه قال: رأيت رغبته في الشكر وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة. أخذه بشار فنظمه فقال: مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء وقال زياد: كفى بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط. وقال آخر: لقد علمت وقد قطعتني عذلاً ماذا من الفضل بين البخل والجود إلا يكن ورق يوماً أروح به للخابطين فإني لين العود قوله: إلا يكن ورق يريد المال وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة فجعل طالب الرزق مثل الخابط. وقال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها. لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه أو لئيماً فأصون عرضي منه. وقال أرسطو طاليس: من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك. الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف قال النبي : إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك. وقيل لبعض الحكماء: ما أفادك الدهر قال العلم به. قيل: فما أحمد الأشياء قال: أن تبقى للإنسان أحدوثة حسنة. وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين ". إنه أراد حسن الثناء من بعده. وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم. أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال: وما ابن آدم إلا ذكر صالحة أو ذكر سيئة يسري بها الكلم أما سمعت بدهر باد أمته جاءت بأخبارها من بعدها أمم وقال أبو بكر محمد بن دريد: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى وقالوا: الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته. ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق: يا من تجلد للزما ن أما زمانك منك أجلد سلط نهاك على هوا ك وعد يومك ليس من غد إن الحياة مزارع فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى آثارهم والعين تفقد والمال إن أصلحته يصلح وإن أفسدت يفسد والعلم ما وعت الصدو ر وليس ما في الكتب يخلد وقال الأحنف بن قيس: ما أدخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء شيئاً أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب. وقالوا: تربيب المعروف أولى من اصطناعه لأن اصطناعه نافلة وتربيبه فريضة. وقالوا: أحي معروفك بإماتة ذكره وعظمه بالتصغير له. وقالت الحكماء: من تمام كرم النعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته. وقالوا: للمعروف خصال ثلاث: تعجيله وستره وتيسيره فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه وسقط عنه الشكر. وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك فقال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل: فإن لم تكن له فقال: فمن كانت لي عنده يد صالحة. وقال النبي : من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزاول. أبو اليقظان قال: أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أدية أخا أبي بلال وقطع يده ورجله وصلبه على باب داره. فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم. ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة. وقال إبراهيم بن السندي: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجف لبده ولا يستريح قلبه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلاً مفوهاً فقلت له: أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب وهونت عليك التعب في القيام بحوائج الناس ما هي قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار في فروع الأشجار وسمعت خفق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن ومن شكر حر لمنعم حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرماً. إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون الحوائج للناس فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن.

الجود مع الإقلال

قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". وقال النبي : أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر. وقال عليه الصلاة والسلام: أفضل العطية جهد المقل. وقالت الحكماء: القليل من القليل أحمد من الكثير من الكثير. أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلماً: قد بعثنا إليك أكرمك الل ه بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفك الغم ر ولا نيلك الكثير الجزيل واستجز قلة الهدية مني إن جهد المقل غير قليل وقالوا: جهد المقل أفضل من غنى المكثر. وقال صريع الغواني: وقال أبو هريرة: ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب عليه السلام تبعته ذات يوم وأنا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: أدخل فدخلت. ففكر حيناً فما وجد في بيته إلا نحيا كان فيه سمن مر فأنزله من رف لهم فشقه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والرب وهو يقول: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد وقيل لبعض الحكماء: من أجود الناس قال: من جاد من قلة وصان وجه السائل عن المذلة. وقال حماد عجرد: أروق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود بث النوال ولا نمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وقال حاتم: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بجسمي مس الجوع والجوع جاهد لأني أمرؤ عافي إنائي شركة وأنت أمرؤ عافى أنائك واحد أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء بارد ومن أحسن ما قيل في الجود والإقلال قول أبي تمام حبيب: فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله ومن أفرط ما قيل في الجود قول بكر بن النطاح: أقول لمرتاد الندى عند مالك تمسك بجدوى مالك وصلاته فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه فأسدى بها المعروف قبل عداته فلو خذلت أمواله جود كفه لقاسم من يرجوه شطر حياته وإن لم يجز في العمر قسم لمالك وجاز له أعطاه من حسناته وجاد بها من غير كفر بربه وأشركه في صومه وصلاته وقال آخر في هذا المعنى وأحسن: ملأت يدي من الدنيا مراراً وما طمع العواذل في اقتصادي قال سعيد بن العاصي: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتدئ من غير مسألة فالمعروف عوض عن مسألة الرجل إذ بذل وجهه فقلبه خائف وفراصه ترتعد وجبينه يرشح لا يدري أيرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب قد انتفع لونه وذهب دم وجهه. اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظاً فلا تجعل لي حظاً في الآخرة. وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جل. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة. حبيب قال: عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى وتبقى وجوه الراغبين بمائها وقال حبيب أيضاً: ذل السؤال شجاً في الحلق معترض من دونه شرق من خلفه جرض ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت من ماء وجهي إذا أفنيته عوض إني بأيسر ما أدنيت منبسط كما بأكثر ما أقصيت منقبض وقالوا: من بذل إليك وجهه فقد وفاك حق نعمتك وقالوا: السخي من كان مسروراً ببذله متبرعاً بعطائه لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله ولا طلب مكافأة فيسقط شكره ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه. نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له: ما أصبرك على هذا القميص فقال له: رب مملوك لا يستطاع فراقه. فبعث إليه بتخت من ثياب. فقال أبو الأسود: كساني ولم أستكسه فحمدته أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإن أحق الناس إن كنت شاكراً بشكرك من أعطاك والعرض وافر وسأل معاوية صعصعة بن صوجان: ما الجود فقال: التبرع بالمال والعطية قبل السؤال: ومن قولنا في هذا المعنى: كريم على العلات جزل عطاؤه ينيل وإن لم يعتمد لنوال وما الجود من يعطى إذا ما سألته ولكن من يعطى بغير سؤال وقال بشار العقيلي: مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء لا ولا أن يقال شيمته الجو د ولكن طبائع الآباء وقال آخر: إن بين السؤال والإعتذار خطة صعبة على الأحرار وقال حبيب بن أوس لئن جحدتك ما أوليت من نعم إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم أنسى ابتسامك والألوان كاسفة تبسم الصبح في داج من الظلم رددت رونق وجهي في صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم وما أبالي وخير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي استنجاح الحوائج كانوا يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما: اللهم بك أستنجح وباسمك أستفتح وبمحمد نبيك إليك أتوجه. اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لي حزونته وارزقني من الخير أكثر مما أرجو وأصرف عني من الشر أكثر مما أخاف. وقال النبي : استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها فإن كل ذي نعمة محسود. وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ولا تطلبوها من غير أهلها فإن الحوائج تطلب بالرجاء وتدرك بالقضاء. وقال: مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة ومغلاقها اعتراض الكسل دونها. قال الشاعر: إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في أمر يحاوله فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ومن أمثال العرب في هذا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذ تضايق أمر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها وأشد من المصيبة سوء وقالوا: صاحب الحاجة مبهوت وطلب الحوائج كلها تعزير. وقالت الحكماء: لا تطلب حاجتك من كذاب فإنه يقر بها بالقول ويبعدها بالفعل ولا من أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك ولا من رجل له آكلة من جهة رجل فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته. وقال دعبل بن علي الخزاعي: جئتك مسترفداً بلا سبب إليك إلا بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنني رجل غير ملح عليك في الطلب وقال شبيب بن شيبة: إني لأعرف أمراً لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النجح بينهما. قيل له: وما ذاك قال: العقل فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن ولا يرد عما يمكن. وقال الشاعر: أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد إليك سوى أني بجودك واثق فإن تولني عرفاً أكن لك شاكراً وإن قلت لي عذراً أقل أنت صادق وقال الحسن بن هانئ: فإن تولني منك الجميل فأهله وإلا فإني عاذر وشكور لعمرك ما أخلقت وجهاً بذلته إليك ولا عرضته للمعاير فتى وفرت أيدي المكارم عرضه عليه وخلت ماله غير وافر ودخل محمد بن واسع على بعض الأمراء فقال: أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين وإن شئت لم تقضها وكنا لئيمين. أراد إن قضيتها كنت أنت كريماً بقضائها وكنت أنا كريما بسؤالك إياها لأني وضعت الطلبة في موضعها. فإن لم تقضها كنت أنت لئيماً بمنعك وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك. وسرق حبيب هذا المعنى فقال: عياش إنك للئيم وإنني إذ صرت موضع طلبي للئيم ودخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فقال: أصلح الله الأمير: لنا حاجة والعذر فيها مقدم خفيف معناها مضاعفة الأجر فإن تقضها فالحمد لله وحده وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر قال له: ما حاجتك أبا عبد الله قال: كتاب لي إن رأى الأمير - أكرمه الله - أن ينفذه في خاصته كتبه إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو غير ذلك أبا عبد الله نعجلها لك من مالنا وإذا وددت كنت مخيراً بين أن تأخذ أو ترد. فأنشد سوار يقول: وكفك حين ترى المجتدي ن أندى من الليلة الماطرة وكلبك آنس بالمعتفين من الأم بابنتها الزائرة ودخل أبو حازم الأعرج على بعض أهل السلطان فقال: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله فبلك فإن يأذن الله لك في قضائها قضيتها وحمدناك وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك. وفي بعض الحديث: اطلبوا الحوائج عن حسان الوجوه. أخذه الطائي فنظمه في شعره فقال: قد تأولت فيك قول رسول ال له إذا قال مفصحاً إفصاحاً إن طلبتم حوائجاً عند قوم فتنقوا لها الوجوه الصباحا فلعمري لقد تنقيت وجهاً ما به خاب من أراد النجاحا قال المنصور لرجل دخل عليه: سل حاجتك قال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين. قال: سل حاجتك فإنك لست تقدر على مثل هذا المقام في كل حين. قال: والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤالك لزين وما بامرئ بذل إليك وجهه نقض ولا شين فوصله وأحسن إليه. من أمثالهم في هذا: أنجز حر ما وعد. وقالوا: وعد الكريم نقد ووعد اللئيم تسويف. وقال الزهري: حقيق على من أورق بوعد أن يثمر بفعل. وقال المغيرة: من أخر حاجة فقد ضمنها. وقال الموبذان الفارسي: الوعد السحابة والإنجاز المطر. وقال غيره: المواعيد رؤوس الحوائج والإنجاز أبدانها. وقال عبد الله بن عمر رحمه الله: خلف الوعد ثلث النفاق وصدق الوعد ثلث الإيمان وما ظنك بشيء جعله الله تعالى مدحة في كتابه وفخراً لأنبيائه فقال تعالى: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ". وذكر جبار بن سلمى عامر بن الطفيل فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى وإذا أوعد بالشر أخلف وهو القائل: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ويأمن مني صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ليكذب إيعادي ويصدق موعدي وقال ابن أبي حازم: وإلا فقل لا تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " لكفى. وقال عمر بن الحارث: كانوا يفعلون ولا يقولون ثم صاروا يقولون ويفعلون ثم صاروا يقولون ولا يفعلون ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون: فزعم أنهم ضنوا بالكذب فضلاً عن الصدق. وفي هذا المعنى يقول الحسن بن هانئ: قال لي ترضى بوعد كاذب قلت إن لم يك شحم فنفش ومثله قول عباس بن الأحنف ويقال إنه لمسلم بن الوليد صريع الغواني: ما ضر من شغل الفؤاد ببخله لو كان عللني بوعد كاذب صبراً عليك فما أرى لي حيلة إلا التمسك بالرجاء الخائب سأموت من كمد وتبقى حاجتي فيما لديك وما لها من طالب قال عبد الرحمن بن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله بها: نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول وأنت بالإنجاز أولى منك بالمطل. واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف. القاسم بن معن المسعودي قال: قلت لعيسى بن موسى أيها الأمير ما انتفعت بك مذ عرفتك ولا أوصلت لي خيراً مذ صحبتك. قال: ألم أكلم لك أمير المؤمنين في كذا وسألته لك كذا قال: قلت: بلى فهل استنجزت ما وعدت واستتممت ما بدأت قال: حال من دون ذلك أمور قاطعة وأحوال عاذرة. قلت: أيها الأمير فما زدت على أنها نبهت العجز من رقدته وأثرت الحزن من ربضته إن الوعد إذا لم يشفه إنجاز يحققه كان كلفظ لا معنى له وجسم لا روح فيه. وقال عبد الصمد بن الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم عامل الري. أخالد إن الري قد أجحفت بنا وضاق علينا رحبها ومعاشها وقد أطعمتنا منك يوماً سحابة أضاءت لنا برقاً وأبطأ رشاشها فلا غيمها يصحو فييئس طامعاً ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها وقال سعيد بن سلم: وعد أبي بشاراً العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها: صدت بخد وجلت عن خد ثم انثنت كالنفس المرتد فكتب إليه بشار بالغد: ما زال ما منيتني من همي والوعد غم فأرح من غمي فقال له أبي: يا أبا معاذ هلا استنجحت الحاجة بدون الوعيد فإذ لم تفعل فتربص ثلاثاً وثلاثاً فإني والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام: يا أمير المؤمنين لا تصنع إلي معروفاً حتى تعدني فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد وإلا هان علي قدره وقل مني شكره. قال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم الخولاني: إن أوقع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدره المظل. وكان يحيى بن خالد بن برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد ويقول: من لم يبت على سرور لم يجد للصنيعة طعماً. وقالوا: الخلف ألأم من البخل لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذم اللؤم وحده ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمات: ذم اللؤم وذم الخلف وذم الكذب. قال زياد الأعجم: لله درك من فتى ولو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا د وحبذا صدق البخيل استبطأ حبيب الطائي الحسن بن وعيب في عدة وعدها إياه فكتب إليه أبياتاً يستعجله بها. فبعث إليه بألف درهم وكتب إليه: فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ونكون نحن كأننا لم نفعل وقال عبد الله بن مالك الخزاعي: دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ: وأشعث قد قد السفار قميصه يجر شواء بالعصا غير منضج دعوت إلى ما نابني فأجابني كريم من الفتيان غير مزلج فتى يملأ الشيزي ويروي سنانه ويضرب في رأس الكمي المدجج فتي ليس بالراضي بأدنى معيشة ولا في بيوت الحي بالمتولج فرفع رأس إلي المهدي وقال: هذه صفتك أبا العباس فقلت: بك نلتها يا أمير المؤمنين. فضحك إلي وقال: هل تنشد من الشعر شيئاً قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فأنشدني. فأنشدته قول السموأل: وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل إذا المرء أعيته المروءة يافعاً فمطلبها كهلاً عليه ثقيل تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد السيوف نفوسنا وليست على غير السيوف تسيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولا فينا يعد بخيل وأسيافنا في كل شرق ومغرب بها من قراع الدارعين فلول فقال: أحسنت! اجلس بهذا بلغتم سل حاجتك فقلت: يا أمير المؤمنين تكتب لي في العطاء ثلاثين رجلاً من أهلي قال: نعم فرض علي إذا وعدت. فقلت يا أمير المؤمنين إنك متمكن من القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل فما معنى العدة فنظر إلى بن دأب كأنه يريد منه كلاماً في فضل الموعد. فقال ابن دأب: حلاوة الفعل بوعد ينجز لا خير في العرف كنهب ينهز فضحك المهدي وقال: الفعل أحسن ما يكو ن إذا تقدمه ضمان وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني إذ غدا عليكم الرجل وراح مسلماً فكفى بذلك أروح بتسليمي عليك وأغتدي وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وقال آخر: كفاك مخبراً وجهي بشأني وحسبك أن أراك وأن تراني وما ظني بمن يعنيه أمري ويعلم حاجتي ويرى مكاني كتب العتابي إلى بعض أهل السلطان: أما بعد فإن سحائب وعدك قد أبرقت فليكن وبلها سالماً من علل المطل والسلام. وكتب الجاحظ إلى رجل وعده: أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالماً من جوائح المطل والسلام. ووعد عبد الله بن طاهر دعبلاً بغلام فلما طال عليه تصدى له يوماً وقد ركب إلى باب الخاصة فلما رآه قال: أسأت الافتضاء وجهلت المأخذ ولم تحسن النظر ونحن أولى بالفضل فلك الغلام والدابة لما ننزل إن شاء الله تعالى. فأخذ دعبل بعنانه وأنشده: يا جواد اللسان من غير فعل ليت في راحتيك جود اللسان عين مهران قد لطمت مراراً فاتقي ذا الجلال في مهران عرت عيناً فدع لمهران عيناً لا تدعه يطوف في العميان وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد جارية فوعده بها وأبطأت عليه فكتب إليه: أرى حاجتي عند الأمير كأنها تهم زماناً عنده بمقام وأحصر عن إذكاره إن لقيته وصدق الحياء ملجم بلجام أراها إذا كان النهار نسيئة وبالليل تقضى عند كل منام فيا رب أخرجها فإنك مخرج من الميت حياً مفصحاً بكلام فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها وكيف صلاتي عندها وصيامي وكتب أبو العتاهية إلى رجل وعده وعداً وأخلفه: أحسبت أرض الله ضيقة عني فأرض الله لم تضيق وجعلتني فقعاً بقرقرة فوطئتني وطئاً على حنق فإذا سألتك حاجة أبداً فاضرب لها قفلاً على غلق وأعد لي غلاً وجامعة فاجمع يدي بها إلى عنقي ما أطول الدنيا وأوسعها وأدلني بمسالك الطرق ومن قولنا في رجل كتب إلى بعدة في صحيفة ومطلني بها: من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن بت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم ولا تأتدم على أكله فإنه بالجوع مأدوم وقلت فيه: صحيفة كتبت ليت بها وعسى عنوانها راحة الراجي إذا يئسا وعد له هاجس في القلب وقد برمت أحشاء صدري به من طول ما هجسا يراعة غرني منها وميض سنى حتى مددت إليها الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعضا موسى لما انبجسا كأنما صيغ من بخل ومن كذب فكان ذاك له روحاً وذا نفسا وقلت فيه: رجاء دون أقربه السحاب ووعد مثل ما لمع السراب وتسويف يكل الصبر عنه ومطل ما يقوم له حساب لطيف الاستمناح قال الحكماء: لطيف الاستمناح سبب النجاح والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال وانقبضت وامتنعت بجفاء السائل كما قال الشاعر: وجفوتني فقطعت عنك فوائدي كالدر يقطعه جفاء الحالب وقال العتابي: إن طلب حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه وإياك والإلحاح علي فإن إلحاحك يكلم عرضك ويريق ماء وجهك فلا تأخذ منه عوضاً لما يأخذ منك ولعل الإلحاح يجمع عليك إخلاق الوجه وحرمان النجاح فإنه ربما مل المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب. وقال الحسن بن هانئ: تأن مواعيد الكرام فربما حملت من الإلحاح سمحاً على بخل وقال آخر: إن كنت طالب حاجة فتجمل فيها بأحسن ما طلب وأجمل إن الكريم أخا المروءة والنهى من ليس في حاجاته بمثقل وقال مروان بن أبي حفصة: لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذ بعنان دابته وقلت له: إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت منها مائة ألف. قال: هات لله أبوك! فأنشأت أقول: يا أكرم الناس من عجم ومن عرب بعد الخليفة يا ضرغامة العرب أفنيت مالك تعطيه وتنهبه يا آفة الفضة البيضاء والذهب إن السنان وحد السيف لو نطقا لا خبراً عنك في الهيجاء بالعجب فأمر لي بها. المدائني قال: قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن ممن تعرف وحقنا لا ينكر وجئناك من بعيد ونمت بقريب وهما تعطنا فنحن أهله. دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال: أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة قال: بل بالقرابة والخاصة. قال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. فأعطاه وأجزل له. ودخل أبو الريان على عبد الملك بن مروان وكان عنده أثيراً فرآه خائراً فقال: يا أبا الريان مالك خائراً قال: أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين. قال: وكيف ذلك قال: نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك: ما أحسن ما استمنحت واعتررت يا أبا العتابي قال: كتب الشعبي إلى الحجاج يسأله حاجة فاعتل عليه. فكتب إليه الشعبي: والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين فقضى حاجته. وكان جد الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي. العتبي قال: قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال: إني لم أزل أهز ذئاب الرحال إليك فلم أجد معولاً إلا عليك امتطى الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى المجتهد يعذر وإذا بلغتك فقطني. فقال: احطط عن راحلتك رحلها. ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال: أصلح الله الأمير أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل قال: سل حاجتك. قال: قد حملت عن عشيرتي عشر ديات. قال: قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها. العتبي عن أبيه قال: أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال: إنها وقعت بيني وبين قومي ديات فاحتملتها في مالي وأملي فعدمت مالي وكنت أملي فإن تحملها عني فرب هم فرجته وغم كفيته ودين قضيته وإن حال دون ذلك حائل لم أذم يومك ولم أيأس من غدك. فحملها عنه. المدائني قال: سأل رجل خالداً القسري حاجة فاعتل عليه. فقال له: لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال وما دعاك إلى ذلك قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء فأردت أن أتعلق منك بحبل مودة. فوصله وحباه وأدنى مكانه. والأصمعي قال: دخل أبو بكير الهجري على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه. قال: اختر منها ومن الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى حاكة في فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة. وذكروا أن جاراً لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره. فساوموه بها فسألهم ألف دينار فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار. قال: وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة دينار. فبلغ أبا دلف فأمر بقضاء دينه وقال له لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا. ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان قال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا لها بيتاً خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً. إبراهيم بن أحمد عن الشيباني قال: كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث. فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال له ما حاجتك يا أزهر قال: داري متهدمة وعلي أربعة آلاف درهم وأريد أن يبني محمد ابني بعياله فوصله باثني عشر ألفاً وقال. قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا طالباً: فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه. فلما رآه أبو جعفر قال: ما جاء بك يا أزهر قال جئتك مسلماً. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً. قال: ما جئت إلا مسلماً. قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً. فأخذها ومضى.


العقد الفريد - الجزء الأول لابن عبد ربه
العقد الفريد/الجزء الأول/1 | العقد الفريد/الجزء الأول/2 | العقد الفريد/الجزء الأول/3 | العقد الفريد/الجزء الأول/4 | العقد الفريد/الجزء الأول/5 | العقد الفريد/الجزء الأول/6 | العقد الفريد/الجزء الأول/7 | العقد الفريد/الجزء الأول/8 | العقد الفريد/الجزء الأول/9 | العقد الفريد/الجزء الأول/10 | العقد الفريد/الجزء الأول/11 | العقد الفريد/الجزء الأول/12 | العقد الفريد/الجزء الأول/13 | العقد الفريد/الجزء الأول/14 | العقد الفريد/الجزء الأول/15 | العقد الفريد/الجزء الأول/16 | العقد الفريد/الجزء الأول/17 | العقد الفريد/الجزء الأول/18 | العقد الفريد/الجزء الأول/19 | العقد الفريد/الجزء الأول/20 | العقد الفريد/الجزء الأول/21 | العقد الفريد/الجزء الأول/22 | العقد الفريد/الجزء الأول/23 | العقد الفريد/الجزء الأول/24 | العقد الفريد/الجزء الأول/25 | العقد الفريد/الجزء الأول/26 | العقد الفريد/الجزء الأول/27 | العقد الفريد/الجزء الأول/28