العقد الفريد/الجزء الأول/13
وقالوا: ما نحل الله تعالى عباده شيئاً أقل من الشكر واعتبر ذلك بقول الله عز وجل: " وقليل من عبادي الشكور ". محمد بن صالح بن الواقدي قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي فقلت: إن هاهنا قوماً جاءوا يشكرون لك معروفاً فقال: يا محمد هؤلاء يشكرون معروفاً فكيف لنا بشكر وقال النبي ﷺ: ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب: حبيب الله شاكراً لأنعمه وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب: بغيض الله كافراً لأنعمه. وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: إني بأرض كثرت فيها النعم وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلة الشكر والضعف عنه. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا. واعتبر ذلك لقول الله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا ". فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان. وسمع النبي ﷺ عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه يوماً فتدركه عواقب ما جنى يجزيك أو يثني عليك فإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق يا عائشة لا شكر الله من لا يشكر الناس. الخشنى قال: أنشدني الرياشي: إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ولم أذمم الجبس اللئيم المذمما وأنشدني في الشكر: سأشكر عمراً ما تراخت منبتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقة ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفي مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت قلة الكرام في كثرة اللئام قال النبي ﷺ: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. وقالت الحكماء: الكرام في اللئام كالغرة في الفرس. وقال الشاعر: تفاخرني بكثرتها قريظ وقبلي والد الحجل الصقور فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور وقال السموأل: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها عن الكرام قليل وقال حبيب: ولقد تكون ولا كريم نناله حتى نخوض إليه ألف لئيم قال ابن أبي حازم: وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وكيف لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون حولاً حسبك بالمجرب من عليم فلا أحد يعد ليوم خير ولا أحد يعود على عديم وقال دعبل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم والله يعلم أني لم أقل فندا إن لأغلق عيني ثم أفتحها على كثير ولكن ما أرى أحد وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول حبيب الطائي: إن الجياد كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا لا يدهمنك من دهمائهم عجب فإن جلهم أو كلهم بقر وكلما أضحت الأخطار بينهم هلكي تبين من أضحى له خطر قال كسرى: أي شيء أضر فأجمعوا على الفقر. فقال كسرى: الشح أضر منه لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع. من جاد أولاً وضن آخراً نزل أعرابي برجل من أهل البصرة فأكرمه وأحسن إليه ثم أمسك. فقال الأعرابي: تسرى فلما حاسب المرء نفسه رأى أنه لا يستقر له السرو وكان يزيد بن منصور يجري لبشار العقيلي وظيفة في كل شهر ثم قطعها عنه فقال: أبا خالد ما زلت سابح غمرة صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ جريت زماناً سابقاً ثم لم تزل تأخر حتى جئت تقطو مع القاطي كسنور عبد الله بيع بدرهم صغيراً فلما شب بيع بقيراط وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد: أبا حسن قد كنت قدمت نعمة وألحقت شكراً ثم أمسكت وانيا فلا ضير لم تلحقك مني ملامة أسأت بنا عوداً وأحسنت باديا فأقسم لا أجزيك بالسوء مثله كفى بالذي جازيتني لك جازياً يا سوءة يكبر الشيطان إن ذكرت منها العجائب جاءت من سليمانا لا تعجبن بخير زل عن يده فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا من ضن أولاً ثم جاد آخراً قدم الحارث بن خالد المخزومي على عبد الملك فلم يصله فرجع وقال فيه: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها حبست عليك النفس حتى كأنما بكفيك يجري بؤسها ونعيمها فبلغ قوله عبد الملك فأرسل إليه فرده وقال: أرأيت عليك غضاضة من مقامك ببابي قال: لا ولكني اشتقت إلى أهلي ووطني ووجدت فضلاً من القول فقلت وعلي دين لزمني. قال: وكم دينك قال: ثلاثون ألفاً. قال: فقضاء دينك أحب إليك أم ولاية مكة قال: بل ولاية مكة. فولاه إياها. وقدم الحطيئة المدينة فوق إلى عتيبة بن النهاس العجلي فقال: أعطني. فقال: مالك عند فأعطيكه وما في مالي فضل عن عيالي فأعود به عليك. فخرج عنه مغضباً. وعرفه به جلساؤه فأمر برده ثم قال له: يا هذا إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلم وكتمتنا نفسك كأنك الحطيئة قال: هو ذلك. قال: اجلس فلك عندما كل ما تحب. فجلس فقال له: من أشعر الناس قال: الذي يقول: من يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم يعني زهيراً: قال: ثم من قال: الذي يقول: من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب يعني عبيداً. قال: ثم من قال: أنا. فقال لوكيله: خذ بيد هذا فامض به إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء إلا اشتريته له. فمضى معه إلى السوق فعرض عليه الخز والقز فلم يتلفت إلى شيء منه وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والأقبية. فاشترى له منها حاجته ثم قال: أمسك. قال: فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة قال: لا حاجة في أن يكون له على قومي يد أعظم من هذه ثم أنشأ يقول: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلاً فسيان لا ذم عليك ولا حمد وأنت امرؤ لا الجود منك سجية فتعطى وقد يعدى على النائل الوجد من مدح أميراً فخيبه ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة سعيد بن سلم نور كل بلاد لنا سيد أربى على كل سيد جواد حثا في وجه كل جواد قال: فتأخرت عنه قليلاً. فهجاني فأبلغ فقال: لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب مدحت سعيداً والمديح مهزة فكان كصفوان عليه تراب ومدح الحسن بن رجاء أبا دلف فلم يعطه شيئاً فقال: أبا دلف ما أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب وقال آخر في مثل هذا المعنى: إني مدحتك كاذباً فأثبتني لما مدحتك ما يثاب الكاذب وقال آخر في مثل هذا المعنى: لئن أخطأت في مدحي ك ما أخطأت في منعي لقد أحللت حاجاتي بواد غير ذي زرع ومدح حبيب الطائي عياش بن لهيعة وقدم عليه بمصر واستسلفه مائتي مثقال. فشاور فيها زوجته فقالت له: هو شاعر يمدحك اليوم ويهجوك غداً فاعتل عليه واعتذر إليه ولم يقض عياش إنك للئيم وإنني مذ صرت موضع مطلبي للئيم ثم هجاه حتى مات. وهجاه بعد موته فقال فيه: لا سقيت أطلالك الدائرة ولا انقضت عثرتك العاثرة يا أسد الموت تخلصته من بين فكي أسد القاصرة ما حفرة واراك ملحودها ببرة الرمس ولا طاهره ومن قولنا في هذا المعنى وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه فقلت: حاشا لمثلك أن يفك أسيرا أو أن يكون من الزمان مجيرا لبست قوافي الشعر فيك مدارعاً سوداً وصكت أوجهاً وصدورا علا عطفت برحمة لما دعت ويلاً عليك مدائحي وثبورا لو أن لؤمك عاد جوداً عشره ما كان عندك حاتم مذكورا قال: ومدح ربعة الرقي يزيد بن حاتم الأزدي وهو والي مصر فاستبطأه ربيعة. فشخص عنه من مصر وقال: أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم قال: نعم قال: فهل قلت غير هذا قال: لا والله قال: لترجعن بخفي حنين مملوءة مالاً. فأمر بخلع نعليه وملئت له مالاً. فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السلمي مكانه: بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم فهم الفتى الأزدي إنفاق ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم أجود أهل الجاهلية الذين انتهي إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي وهرم بن سنان المري وكعب بن مامة الإيادي. ولكن المضروب به المثل: حاتم وحده وهو القائل لغلامه يسار وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيصمد نحوه فقال في ذلك: أوقد فإن الليل ليل قر والريح ما موقد ريح صر عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر ومر حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير. فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه فاشتراه من العنزيين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه. وقالوا: لم يكن حاتم ممسكاً شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإن كان لا يجود بهما. وقالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير وضنت المراضع على أولادها فما تبض بقطرة وحلقت ألسنة المال وأيقنا بالهلاك. فوالله إنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذا تضاغى صبيتنا جوعاً عبد الله وعدي وسفانة فقام حاتم إلى الصبيين وقمت أنا إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد فقال: من هذا قالت: إلا عليك يا أبا عدي. فقال. أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها. فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر ثم كشطه عن جلده ودفع المدية إلى المرأة فقال لها: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي بالنار ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا فلا والله إن ذاق منه مزعه وإنه لأحوج إليه منا فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر فأنشأ حاتم يقول: مهلاً نوار أقل اللوم والعذلا ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه مهلاً وإن كنت أعطى الإنس والخبلا يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا ورئي حاتم يوماً يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول: أقول لابني وقد سطت يديه بكلبة لا يزال يلدها تدل ضيفي علي في غلس ال ليل إذا النار نام موقدها ذكرت طبئ عند عدي بن حاتم: أن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلاً ما تكلم من رمة بالية فقال: إن طيئاً يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه كالمستهزئ. فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: وا راحلتاه! فقال له أصحابه: ما شأنك قال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها. فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث فقالوا: قد والله أقراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا. فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عدي بن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك وقال لي أبياتاً رددها علي حتى حفظتها وهي: أبا الخيبري وأنت امرؤ حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة بداوية صخب هامها أتبغي أذاها وإعسارها وحولك غوث وأنعامها وإنا لنطعم أضيافنا من الكوم بالسيف نعتامها وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك فخذها فأخذها أماوي قد طال التجنب والهجر وقد عذرتنا عن طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة من الأرض لا ماء لدي ولا خمر تري أن ما أنفقت لم يك ضرني وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين يلونني بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعاً ينفضون أكفهم يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته فأوله سكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتماً أراد ثراء المال كان له وفر فإن وجدي رب واحد أمه أجرت فلا قتل عليه ولا أسر وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه: متى تلاق على علاته هرماً تلق السماحة في خلق وفي خلق وكان سنان أبو هرم سيد غطفان وماتت أمه وهي حامل به وقالت: إذا أنا مت فشقوا بطني فإن سيد غطفان فيه. فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سناناً. وفي بني سنان يقول زهير: قوم أبوهم سنان حين تنبسهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا مرزءون بهاليل إذا قصدوا محسدون على كان من نعم لا ينزع الله منهم ما له حسدوا وقال زهير في هرم بن سنان: وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب نوائله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخور ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله أخذ الحسن بن هانئ هذا المعنى فقال: وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته: إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجهض من أرحامها العلق حتى دفعن إلى حلو شمائله كالغيث ينبت في آثاره الورق من أهل بيت برى ذو العرش فضلهم يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق المطعمون إذا ما أزمة أزمت والطيبون ثياباً كلما عرقوا كأن آخرهم في الجود أولهم إن الشمائل والأخلاق تتفق إن قامروا أو فاخروا فخروا أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا كما تنوفس عند الباعة الورق وقال فيهم أيضاً: وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل على مكثريهم حق من يعتفيهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير ألوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطى إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل وله يقول حبيب: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقص غاية الجود وله ولحاتم الطائي يقول: كعب وحاتم اللدان تقسما خطط العلا من طارف وتليد هذا الذي خلف السجاب ومات ذا في المجد ميتة خضرم صنديد إلا يكن فيها الشهيد فقومه لا يسمحون به بألف شهيد أجواد أهل الإسلام وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلاً في عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم. فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص. وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم: عبد الله بن عامر بن كريز وعبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله ﷺ ومسلم بن زيادة وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التمي وطلحة الطلحات وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وله يقول الشاعر يرثيه ومات بسجستان وهو وال عليها: نضر الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد وهم: عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة الفزاري وعكرمة بن ربعي الفياض. جود عبيد الله بن عباس أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا على طعامه وأول وفي السنة الشهباء أطعمت حامضاً وحلواً ولحماً تامكا وممزعا وأنت ربيع لليتامى وعصمة إذ المحل من جو السماء تطلعا أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة وغوثاً ونوراً للخلائق أجمعا ومن جوده: أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا بن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها. فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال له: ما يدك عندنا قال رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت قال: إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري ثم قال لقيمه: ما عندك قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال فادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا. فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً ﷺ ثم شفعه بك وبأبيك. ومن جوده أيضاً: أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله. فقيل له: لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإن قد قدم بنحو من ألف ألف درهم. فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر. ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم. فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم أصبحت حين لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فض وذهب وثوب ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك. فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا الله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله فأخذ الشطر من ماله. وهو أول من فعل ذلك في الإسلام. ومن جوده: أن معاوية بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال: هل في نفسك منها شيء قال: نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي. قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً. فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه - يعني معاوية - فظن عبيد الله أنها مكيدة منه قال: دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا. ومن جوده أيضاً: أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له: تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال له: وأين أنا من عبيد الله قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال: فيهما قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال فقال له السائل: إن لم تكن عبد الله بن عباس فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى. فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي. ومن جوده أيضاً: أنه جاءه رجل من الأنصار فقال: يا بن عمر رسول الله ﷺ إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت. فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة. قال الأنصاري: لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وكل كرمك أكثر من وابله. جود عبد الله بن جعفر ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمار دخل على نخاس يعرض قياناً له فعلق واحدة منهن فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه أن قال: يلومني فيك أقوام أجالسهم فما أبالي أطار اللوم أم وقعا فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فلم يكن له هم غيره فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت. وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه فقال: مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا! فأخبر الشيخ فأتاه مسلماً. فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال: ما فعل حب فلانة قال: في اللحم والدم والمخ والعصب. قال: أتعرفها لو رأيتها قال: لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه وقال له: إنما اشتريتها لك ووالله ما دنوت منها فشأنك بها مباركاً لك فيها. فلما ولى قال يا غلام احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها. قال: فبكى عبد الرحمن فرحاً وقال: يا أهل البيت لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحداً قبلكم من صلب آدم فتهنئكم هذه النعمة وبورك لكم فيها. ومن جوده أيضاً: أنه أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً. فقيل له: إنها لا تعرفك. وكان يرضيها اليسير. قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي. جود سعيد بن العاص ومن جود سعيد بن العاص: أنه مرض وهو بالشام فعاده معاوية ومعه شرحبيل بن السمط ومسلم بن عقبة المري ويزيد بن شجرة الرهاوي فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاماً لمعاوية فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان أن لا تتحرك فقد ضعفت بالعلة. فسقط فتبادر معاوية نحوه حتى حنا عليه وأخذه بيده فأقعده على فراشه وقعد معه وجعل يسائله عن علته ومنامه وغذائه ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه وأطال القعود معه. فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السمط ويزيد بن شجرة فقال: هل رأيتما خللا في مال أبي عثمان فقالا: ما رأينا شيئاً ننكره. فقال لمسلم بن عقبة: ما تقول قال: رأيت. قال: وما ذاك قال: رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة ورأيت صحن داره غير مكنوس ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه. قال: صدقت كل ذلك قد رأيته فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف. فسبق رسول يبشره بها ويخبره بما كان فغضب سعيد وقال للرسول: إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء وتأول فأخطأ. فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته اتسخ ثوبه وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته وتزينه لبسه ومعروفه عطره ثم لا يبال بمن مات هزلاً من ذي لحمة أو حرمة. وأما منازعة التجارة قهرماني فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه لم يجد بداً من أن يكون ظالماً أو مظلوماً وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين فوصلته كل ذي رحم قاطعة وهنأته كرامته المنعم بها عليه وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف ولشرحبيل بن السمط بمثلها وليزيد بن شجرة بمثلها وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معولنا. فركب مسلم بن عقبة إلى معاوية فأعلمه. فقال: صدق ابن عمي فيما قال وأخطأت فيما انتهيت إليه فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها كما أنه فعل خيراً كوفئ عليه. ومن جوده أيضاً: أن معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يقارضه. فلما دخل على معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك - يعني مروان - قال: تركته منفذاً لأمرك مصلحاً لعملك. قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة كفى إنضاجها فأكلها. قال: كلا يا أمير المؤمنين إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا. ولا يحصدون إلى ما زرعوا. قال: فما الذي باعد بينك وبينه قال: خفته على شرفي وخافني على مثله. قال: فأي شيء كان له عندك قال: أسوءه حاراً وأسره غائباً. قال: يا أبا عثمان تركتنا في هذه الحروب. قال: حملت الثقل وكفيت الحزم. قال: فما أبطأ بك قال: غناك عني أبطأني عنك. وكنت قريباً لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك. قال: ذلك ظننا بك. فأقبل معاوية على أهل الشام فقال يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم. ثم قال: أخبرني عن مالك فقد نبئت أنك تتجر فيه. قال: يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل فإذا كان ما خرج قليلاً أنفقناه على قلته وإن كان كثيراً فكذلك غير أنا لا ندخر منه شيئاً عن معسر ولا طالب ولا مستحمل ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة شحم. قال: فكم يدوم لك هذا قال: من السنة نصفها. قال: فما تصنع باقيها قال: نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا. قال: ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك. قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال. فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروءتك. فقال سعيد: بل أشتري بها حمداً وذكراً باقياً أطعم بها الجائع وأزوج بها الأيم وأنك بها العاني وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار. فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم. فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته. ومن جوده أيضاً ما حكاه الأصمعي قال: كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم. فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال: حاجتك يا فتى فذكر أن عليه ديناً أربعة آلاف درهم فأمر له بها. وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه. جود عبيد الله بن أبي بكرة ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة: أنه أدلى إليه رجل بحرمة فأمر له بمائة ألف درهم. فقال: أصلحك الله ما وصلني أحد بمثلها قط. ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت ولا نور إلا جود عبيد الله بن معمر القرشي التيمي ومن جود عبيد الله بن معمر القرشي: أن رجلاً أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد أدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه. وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه فقالت لسيدها: إني أريد أن أذكر لك شيئاً أستحي منه إذ فيه جفاء مني غير أن يسهل ذلك علي ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال وهذا عبيد الله بن معمر قدم البصرة وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفه وجود نفسه فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك الله به وينهضك إن شاء الله. قال فبكى وجداً عليها وجزعاً لفراقها منه ثم قال لها: لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبداً. ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله فقال: أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية. فقال: مثلي لا يستهدي من ملك فهل لك في بيعها فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى قال: الذي تراه. قال: يقنعك مني عشرة بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور. فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه وقال للجارية: ادخلي الحجاب. فقال سيدها: أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال: نعم. فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان: أبوح بحزن من فراقك موجع أقاسي به ليلاً يطيل تفكري ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري عليك سلام لا زيادة بيننا ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال. فذهب بجاريته وماله فعاد غنياً. فهؤلاء أجواد الإسلام المشهورون في الجود المنسوبون إليه وهم أحد عشر رجلاً كما ذكرنا وسمينا وبعدهم طبقة أخرى من الأجواد قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم وحمدت أفعالهم. وسنذكر ما أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى. الطبقة الثانية من الأجواد الحكم بن حنطب قيل لنصيب بن رباح: خرف شعرك أبا محجن قال: لا ولكن خرف الكرم لقد رأيتني ومدحت بن حنطب فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة. وسأل أعرابي الحكم بن حنطب فأعطاه خمسمائة دينار فبكى الأعرابي فقال: ما يبكيك يا أعرابي لعلك استقللت ما أعطيناك قال: لا والله ولكني أبكي لما تأمل الأرض منك ثم أنشأ يقول: وكأن آدم حين حان وفاته أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم وكفيت آدم عيلة الأبناء العتبي قال: أخبرني رجل من أهل منبج قال: قدم علينا الحكم بن حنطب وهو مملق فأغنانا. قال: كيف أغناكم وهو مملق قال: علمنا المكارم فعاد غنينا على فقيرنا. معن بن زائدة وكان يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج وحدث عن معن ولا حرج. وأتاه رجل يسأله أن يحمله فقال: يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية وقال: لو عرفت مركوباً غير هؤلاء لأعطيتك. العتبي قال: لما قدم معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس أتاه مروان بن أبي حفصة أخذ بعضادتي الباب فأنشده شعره الذي قال فيه: فما أحجم الأعداء عنك بقية عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا له راحتان الحتف والجود فيهما أبى الله إلا أن يضر وينفعا يزيد بن المهلب وكان هشام بن حسان إذ ذكره قال: والله إن كانت السفن لتجري في جوده. وقيل ليزيد بن المهلب: مالك لا تبني داراً قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. ولما أتى يزيد بن عبد الملك برأس يزيد بن المهلب نال منه بعض جلسائه فقال له: مه! إن يزيد بن المهلب طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريماً. ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلب في الحبس فأنشده: صح في قيدك السماحة والجو د وفك العناة والإفضال وقال سليمان بن عبد الملك لموسى بن نصير: اغرم ديتك خمسين مرة. قال: ليس عندي ما أغرم. قال: والله لتغر من ديتك مائة مرة. قال يزيد بن المهلب: أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين. قال: اغرم فغرمها عنه مائة ألف. العتبي قال: أخبرني عوانة قال: استعمل الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظنة فلما استخلف سليمان أخذه بألفي ألف درهم. فاجتمعت القيسية في ذلك فتحملوا شطرها وضاقوا ذرعاً بالشطر الثاني ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق. فقال عمر بن هبيرة: عليكم بيزيد بن المهلب فما لها أحد غيره. فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن هبيرة والقعقاع بن حبيب والهذيل بن زفر بن الحارث وانتهوا إلى رواق يزيد. قال يحيى بن أقتل - وكان حاجباً ليزيد بن المهلب وكان رجلاً من الأزد -: فاستأذنت لهم فخرج يزيد إلى الرواق فقرب ورحب ثم دعاء بالغداء فأتوا بطعام ما أنكروا منه أكثر مما عرفوا. فلما تغدوا تكلم عثمان بن حيان وكان لساناً مفوهاً وقال: زادك الله في توفيقك أيها الأمير إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملاً عليها وأمرني بالغلظة على أهل الظنة وصخذ عليهم وإن سليمان أغرمني غرماً والله ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خف عليك وما بقي والله ثقيل علي. ثم تكلم كل منهم بما حضره وقد اختصرنا كلامهم فقال يزيد بن المهلب: مرحباً بكم وأهلاً إن خير المال ما قضيت فيه الحقوق وحملت به المغارم. وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني وأيم الله لو علمت أن أحداً أملأ بحاجتكم مني لهديتكم إليه فاحتكموا وأكثروا. فقال عثمان بن حيان: النصف أصلح الله الأمير. قال: نعم وكرامة اغدوا على مالكم فخذوه. فشكروا له وقاموا فخرجوا. فلما صاروا على باب السرادق قال عمر بن هبيرة: قبح الله رأيكم والله ما يبالي يزيد أنصفها تحمل أم كلها فمن لكم بالنصف الباقي قال القوم: هذا والله لرأي. وسمع يزيد مناجاتهم فقال لحاجبه: انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا. فرجعوا إليه. وقالوا: أقلنا. قال: قد فعلت. قالوا: فإن رأيت أن تحملها كلها فأنت أهلها وإن أبيت فما لها أحد غيرك. قال: قد فعلت. وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان. فقال: يا أمير المؤمنين أتاني عثمان بن حيان وأصحابه قال: أمسك في المال قال: نعم. قال سليمان: والله لآخذنه منهم.