العقد الفريد/الجزء الأول/18

وفود كثير والأحوص على عمر بن العزيز رضي الله عنه

حماد الراوية قال: قال لي كثير عزة: ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر قلت: نعم قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ونحن لا نشك أنه سيشر كنا في خلافته فلما رفعت لنا أعلام خناصرة لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب فسلمنا فرد ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر قلنا ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا فقال: إن يك ذو دين بنى مروان قد ولي وخشيتم حرمانه فإن ذا دنياها قد بقي ولكم عندي ما تحبون وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله. فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل وأكرم منزول عليه فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك رأيا ففعلت. فكان مما حفظت من كلامه: لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم في كلام كثير لا أحفظه. ثم قال: أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه وارتج المسجد وما حوله بالبكاء فانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما: خذا في شرج من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإن الرجل آخري وليس بدنيوي. إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة ما أذن للعامة فلما دخلت سلمت ثم قلت: يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب قال يا كثير " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " أفي واحد من هؤلاء أنت قلت: بلى ابن سبيل منقطع به وأنا ضاحك قال: ألست ضيف أبي سعيد قلت: بلى قال: ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعاً به قلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاء قال: نعم ولا تقل إلا حقاً فقلت: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي أتيت فأمسى راضياً كل مسلم ألا إنما الفتى بعد زيغة من الأود البادي ثقاف المقوم وقد لبست لبس الهلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحياناً بعين مريضة وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما سقتك مدوفاً من سمام وعلقم وقد كنت من أجبالها في ممنع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقاً إلى كل غاية بلغت بها أعلى البناء المقوم تركت الذي يفنى وإن كان مونقا وآثرت ما يبقى برأي مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الهول مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع سوى الله من مال رغيب ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول: أمير المؤمنين ظلمتني بأخذ للدينار ولا أخذ درهم ولا بسط كف لامرئ غير مجرم ولا السفك منه ظالماً ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير ندم فأربح بها من صفقة لمبايع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال: فأقبل علي وقال: إنك مسؤول عما قلت. ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد فقال: قل ولا تقل إلا حقاً فقال: وما الشعر إلا حكمة من مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ولا ترجعنا كالنساء الأرامل فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ومن ذا يرد الحق من قول قائل ومن ذا يرد السهم بعد مضائه على فوقه إذ عار من نزع نابل ولولا قد عودتنا خلائف غطاريف كانوا كالليوث البواسل لما وخدت شهراً برحلى شملة تقدمتون البيد بين الرواحل ولكن رجونا منك مثل الذي به حبينا زماناً من ذويك الأوائل فإن لم يكن للشعر عندك موضع وإن كان مثل الدر من نظم قائل وكان مصيباً صادقاً لا يعيبه سوى أنه يبنى بناء المنازل فإن لنا قربى ومحض مودة وميراث آباء مشوا بالمناصل فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد التمايل وقبلك ما أعطى الهنيدة جلة على الشعر كعباً من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره عليه سلام الضحى والأصائل فقال: إنك مسؤول عما قلت. قم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن الكبى: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز وعليه عمامة قد أرخى طرفيها وكانت له منه مكانة فصاح به جرير: يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن وحش المكانة من أهلي ومن لدى نائي المحلة عن داري وعن وطني قال: نعم أبا حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر قال: يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة قال: يا عون: مالي وللشعراء قال: يا أمير المؤمنين إن النبي : قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال: ومن مدحه قلت: عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه قال: وتروي قول قلت: نعم: ونورت بالبرهان أمراً مدمساً وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما فمن مبلغ عني النبي محمداً وكل امرئ يجزى بما قد تكلما تعالى علواً فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما قال: صدقت فم بالباب منهم قلت: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل: ألا ليت أني يوم حانت منيتي شممت الذي ما بين عينيك والفم وليت طهوري كان ريقك كله وليت حنوطي من مشاشك والدم ويا ليت سلمى في القبو ضجيعتي هنالك أو في جنة أو جهنم فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا ويعمل عملاً صالحاً والله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت: جميل بن معمر العذري قال: هو الذي يقول: ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها أظل نهاري لا أراها ويلتقي مع الليل روحي في المنام وروحها لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة راكعين سجودا اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت: الأحوص الأنصاري قال: أبعد الله ومحقه أليس هو القائل وقد أفسد على أهل المدينة جارية عرب بها منه: الله بيني وبين سيدها يفر عني بها وأتبع اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت: همام بن غالب الفرزدق قال: أليس هو القائل يفخر بالزنى: هما دلتاني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحي يرجى أم قتيل نحاذره وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت مغلقة دوني عليها دساكره فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا ووليت في أعقاب ليل أبادره اعزب به فوالله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت: الأخطل التغلبي قال: أليس هو القائل: فلست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لهم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح اعزب به فوالله لا وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر فمن الباب غير من ذكرت قلت: جرير بن الخطفي قال: أليس هو القائل: لولا مراقبة العيون أريتنا مقل المها وسوالف الآرام هل ينهينك أن قتلن مرقشا أو ما فعلن بعروة بن حزام ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام طرقتك صائدة القول وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهذا فأذن له فخرجت إليه فقلت: ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول: إن الذي بعث النبي محمداً جعل الخلافة في إمام عادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى وأقام ميل المائل والله أنزل في القرآن فريضة لابن السبيل وللفقير العائل إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل فلما مثل بين يديه قال: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً فأنشأ يقول: يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر خليفة الله ماذا تأمرن بنا لنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر فقال: يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وأملك إلا ثلثمائة فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقية فقال: والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته ثم خرج فقالوا له: ما وراءك قال: ما يسوؤكم خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقياً.

الوفود على ابن الزبير

وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى: الزبير بن بكار قاضي الحرمين قال: أقحمت السنة نابغة بني جعدة فوفد إلى ابن الزبير فدخل عليه في المسجد الحرام ثم أنشده: حكيت لنا الصديق لما وليتنا وعثمان والفاروق فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق فاستووا فعاد صباحاً حالك اللون مظلم أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى دجى الليل جواب الفلاة عثمثم لتجبر منه جانباً زعزعت به صروف الليالي والزمان المصمم فقال له ابن الزبير: هو عليك أبا ليلى فالشعر أدنى وسائل عندنا أما صفوة أموالنا فلآل الزبير وأما عفوته فإن بني أسد وتيماً تشغلها عنك ولكن لك في مال الله سهمان سهم برؤيتك رسول الله وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أخذ بيده ودخل به دار النعم فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً. فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفاً فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى! لقد بلغ به الجهد قال النابغة: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت ووعدت خيراً فأنجزت فأنا والنبيون فراط القاصفين. قال الزبير بن بكار: الفارط: الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرشاء والدلاء. والقاصف: الذي يتقدم لشراء الطعام.

وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمة الله تعالى

قال: لما قتل صعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد خرج حاجاً فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق فقال له: يا أمير المؤمنين جئتك بوجوه أهل العراق لم أدع لهم بها نظيراً لتعطيهم من هذا المال قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله! والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم قال لهم: يا أهل الكوفة وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم بل لكل عشرة رجلاً. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت قال: وما ذلك قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل علقتها عرضاً وعقلت رجلاً غيري وعلق أخرى غيرها الرجل أحببناك نحن وأحببت أنت أهل الشام وأحب أهل الشام عبد الملك. ثم انصرف القوم من عنده خائبين فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.

وفود رؤبة على أبي مسلم

الأصمعي قال: حدثنا رؤبة قال: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة فأنشدته فناداني: يا رؤية فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة فأجبت: لبيك إذ دعوتني لبيكا أحمد ربا ساقني إليكا الحمد والنعمة في يديكا قال: بل في يدي الله عز وجل قلت: وأنت لما أنعمت حمدت. ثم استأذنت في الإنشاد فأذن لي فأنشدته: ما زال يأتى الملك من أقطاره وعن يمينه وعن يساره مشمراً لا يصطلى بناره حتى أقر الملك في قرراه فقال: إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفضه الإنفاق وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة ومنك العود وعليك المعول والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بجنبيك الأسدة قال: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله.

وفود العتابي على المأمون

الشيباني قال: كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون فلما خرج إلى خراسان شيعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى فلما حاول وداعه قال له المأمون: لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء. فلما أفضت الخلافة إلى المأمون وفد إليه العتابي زائراً فحجب عنه فتعرض ليحيى بن أكثم فقال: أيها القاضي إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين فقال له يحيى: ما أنا بالحاجب قال له: قد علمت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. فدخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين أجرني من العتابي ولسانه فلم يأذن له وشغل عنه فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى كتب إليه: ما على ذاكنا افترقنا بسندا دولا هكذا رأينا الإخاء تضرب الناس بالمثقفة السم ر على غدرهم وتنسى الوفاء فلما قرأ أبياته دعا به فلما دنا منه سلم بالخلافة ووقف بين يديه فقال: يا عتابي بلغتنا وفاتك فغمتنا ثم انتهت إلينا وفادتك فسرننا فقال: يا أمير المؤمنين لو قسم هذا البر على أهل منى وعرفات لوسعهم فإنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك قال: سل حاجتك قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. فأحسن جائزته وانصرف وفود أبي عثمان المازني على الواثق أبو عثمان بكر بن محمد قال: وفدت على الواثق فلما دخلت وسلمت قال: هل خليت وراءك أحداً يهمك أمره قلت: أخية لي ربيتها فكأنها بنتي قال: ليس شعري! ما قالت حين فارقتها قلت: أنشدتني قول الأعشى: تقول ابنتي يوم جد الرحيل أرانا سواء ومن قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا نخاف بأن تخترم أرانا إذا أضمرتك البلا د نجفى وتقطع منا الرحم ثقي بالله ليس له شريك ومن عنده الخليفة بالنجاح قال: أتاك النجاح وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: حدثني حديثاً ترويه عن أبي مهدية مستظرفاً قلت: يا أمير المؤمنين حدثني الأصمعي قال: قال لي أبو مهدية: بلغني أن الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء قلت: نعم قال: فاقرأ: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ولا تقرأ الأعراب ولا يغرنك العزب وإن صام وصلى. فضحك الواثق حتى شغر رجله وقال: لقد لقي أبو مهدية من العزبة شراً وأمر له بخمسمائة دينار.

الوافدات على معاوية

وفود سودة بنت عمارة على معاوية عامر الشعبي قال: وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها فلما دخلت عليه سلمت فقال لها: كيف أنت يا بنة الأشتر قالت: بخير يا أمير المؤمنين قال لها: أنت القائلة لأخيك: شمر كفعل أبيك يا بن عمارة يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليا والحسين ورهطه واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخو النبي محمد علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش وسر أمام لوائه قدماً بأبيض صارم وسنان قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب فدع عنك تذكار ما قد نسي قال: هيهات ليس مثل مقام أخيك ينسى قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته قال: قد فعلت: فقولي حاجتك قالت: يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد والله سائلك عما افترض عليك من حقنا ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة هذا ابن أرطأة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته فشكرناك وإلا لا فعرفناك فقال معاوية: إياي تهددين بقومك! والله قد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك فسكتت ثم قالت: صلى الإله على روح تضمنه قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به ثمناً فصار بالحق والإيمان مقرونا قال: ومن ذلك قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قالت: وما أرى عليك منه أثراً قال: بلى أتيته يوماً في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائماً يصلي فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة وتعطف: ألك حاجة فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام. فأخذته منه يا أمير المؤمنين ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام. فقال معاوية: اكتبوا لها الإنصاف لها والعدل عليها فقالت: ألي خاصة أم لقومي عامة قال: وما أنت وغيرك قال: هي والله إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا يسعنى ما يسع قوي قال: هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون وغركم قوله: فلو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقوله: ناديت همدان والأبواب مغلقة ومثل همدان سنى فتحة الباب كالهنداوي لم تفلل مضاربه وجه جميل وقلب غير وجاب اكتبوا لها بحاجتها على معاوية استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال: كيف أنت يا خالة قالت: بخير يا أمير المؤمنين قال: غيرك الدهر قالت: كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر. قال عمرو بن العاص: هي والله والقائلة يا أمير المؤمنين: يا زيد دونك فاستشر من دارنا سيفاً حساماً في التراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة فاليوم أبرزه الزمان مصونا قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين: أترى ابن هند للخلافة مالكاً هيهات ذاك - وإن إراد - بعيد منتك نفسك في الخلاء ضلالة أغراك عمرو للشقا وسعيد قال سعيد بن العاصي: هي والله القائلة: قد كنت أطمع أن موت ولا أرى فوق المنابر من أمية خاطبة في كل يوم للزمان خطيبهم بين الجميع لآل أحمد عائباً ثم سكتوا. فقالت: يا معاوية كلاك أعشى بصري وقصر حجتي أنا والله قائلة ما قالوا وما خفي عليك مني أكثر فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك اذكري حاجتك. قالت: الآن فلا.

وفود الزرقاء على معاوية

عبيد الله بن عمرو الغساني عن الشعبي قال: حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا: بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد إذ ذكروا الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمدانية وكانت شهدت مع قومه صفين فقال: أيحكم يحفظ كلامها قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال: فأشيروا علي في أمرها فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها قال: بئس الرأي الذي أشرتم به علي أيحسن بمثلى أن يتحدى عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها! فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه ما ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاء ليناً ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة فأرسل إليها فأقرأها الكتاب فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي فإني لا آتية وإن كان حتم فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به فلما دخلت على معاوية قال: مرحباً وأهلاً قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك قالت: بخير يا أمير المؤمنين. أدام الله لك النعمة قال: كيف كنت في مسيرك قالت: ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً قال: بذلك أمرناهم أتدرين فيما بعثت إليك قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر والوقفة بين الصفين يوم الصفين تحضين على القتال. وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولم يعد ما ذهب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعد الأمر قال لها معاوية: صدقت. أتحفظين كلامك يوم صفين قالت: لا والله لا أحفظه ولقد أنسيته قال: لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين: أيها الناس ارعووا وارجعوا إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسع لناعقها ولا تنساق لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس ولا تنير الكواكب مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل ودمغ الحق باطله فلا يجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنى ليقض الله أمراً كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ولهذا اليوم ما بعده. والصبر خير في الأمور عواقبا أيهاً في الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين. ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه قالت: أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك بشر بخير وسر جليسه قال: أو يسرك ذلك قالت: نعم والله. لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته اذكري حاجتك قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميراً أعنت عليه أبداً ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة قال: صدقت وأمر لها وللذين جاؤوا معها بجوائز وكسا.

وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية

سعيد بن أبي حذافة قال: حبس مروان بن الحكم وهو والي المدينة غلاماً من بني ليث في جناية جناها فاتته جدة الغلام أم أبيه وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسب فعرفها فقال لها: مرحباً يا بنة خيثمة ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة وأحلاماً وافرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا ينتقمون بعد عفو وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال: صدقت نحن كذلك فكيف قولك: عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد والليل يصدر بالهموم ويورد يا آل مذحج لا مقام فشمروا إن العدو لآل أحمد يقصد هذا علي كالهلال تحفه وسط السماء من الكواكب أسعد خير الخلائق وابن عم محمد إن يهدكم بالنور منه تهتدوا ما زال مذ شهد الحروب مظفراً والنصر فوق لوائه ما يفقد قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفاً بعده. فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة: فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت فوق الغصون حمامة قمريا قد كنت بعد محمد خلفاً كما أوصى إليك بنا فكنت وفيا فاليوم لا خلف يؤمل بعده هيهات نأمل بعده إنسيا قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظننا فحظك الأوفر والله ما ورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا قال: وإنك لتقولين ذلك قالت: سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا كان والله علي أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك قال: ممن قالت: مروان بن الحكم وسعيد بن العاصي قال: وبم استحققت ذلك عندك قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك قال: فإنهما يطمعان في ذلك قال: والله لقد قاربت فما حاجتك قالت: يا أمير المؤمنين إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح. لا حكم بعدل ولا يقضي بسنة يتتبع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين حبس ابن ابني فأتيته فقال: كيت وكيت فألقمته أخشن من الحجر وألعقته أمر من الصاب ثم رجعت إلى نفس باللائمة وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً وعليه معديا قال: صدقت لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه قالت: يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي. فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم.

وفود عكرشة بنت الأطرش على معاوية رحمه الله تعالى

أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكاز لها فلمت عليه بالخلافة ثم جلست فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين قالت: نعم إذ لا علي حي قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها ولا يرهم من سكنها ولا يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم مستظهرين بالصبر على طلب حقهم إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة دعاهم بالدنيا فأجابوه واستدعاهم إلى الباطل فلبوه فالله الله عباد الله في دين الله وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم فكأني بكم غداً ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر وتروث روث العتاق. فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدراً مقدوراً فما حملك على ذلك قالت: يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " وإن اللبيب إذا كره أمراً لا يحب إعادته قال: صدقت فاذكري حاجتك قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا وإنا قد فقدنا ذلك فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان الخونة ولا استعمل الظلمة. قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق وبحور تنفهق قالت: يا سبحان الله والله ما فرض الله لنا حقاً فجعل فيه ضرراً على غيرنا وهو علام الغيوب قال معاوية: هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافها. مع معاوية رحمه الله تعالى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال: حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كناية كانت تنزل بالحجون يقال لها دارمية الحجونية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها فقال: ما حالك يا بنة حام فقالت: لست لحام إن عبتني أنا امرأة من بني كنانة قال: صدقت أتدرين لم بعثت إليك قالت: لا يعلم الغيب إلا الله قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبعضتني وواليته وعاديتني قالت: أوتعفيني يا أمير المؤمنين قال: لا أعفيك قالت: أما إذ أبيت فأني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق وواليت علياً على ما عقد له رسول الله من الولاء وحبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى قال: فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك قالت: يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي قال معاوية: يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيراً إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت. قال لها: يا هذه هل رأيت علياً قالت: إي والله قال: فكيف رأيته قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك قال: فهل سمعت كلامه قالت: نعم والله فكان يجلو القلب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست قال: صدقت فهل لك من حاجة قالت: أو تفعل إذا سألتك قال: نعم قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فحلها وراعيها قال: تصنعين بها ماذا قالت: أغذوا بألبانها الصغر وأستحيي بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب قالت: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا: سبحان الله أو دونه. فأنشأ معاوية يقول: إذ لم أعد بالحلم مني عليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد جزاك على حرب العداوة بالسلم ثم قال: أما والله لو كان علي حياً ما أعطاك منها شيئاً قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.

وفود أم الخير بنت الحريش

عبيد الله بن عمر الغساني عن الشعبي قال: كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيراً وبالشر شراً. فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بالخير خيراً وبالشر شراً فمالي عندك يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل ولا تؤيسك معرفتي بك أن يقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية فأنزلها مع الحرم ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير بحق ما دعوتني بهذا الاسم قالت: يا أمير المؤمنين مه فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه و لكل أجل كتاب قال: صدقت فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم قالت: يا أمير المؤمنين يعيذك الله من دحض المقال وما تردي عاقبته قال: ليس هذا أردنا أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر قالت: لم أكن زورته قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة فإن أحببت أن أحدث لك مقالاً عن ذلك فعلت قال: لا أشاء ذلك. فالتفت معاوية إلى جلسائه فقال: أيكم يحفظ كلامها فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين قال: هات قال: كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف النسيج وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفيرة وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إن الله قد أوضح لكم الحق وأبان الدليل وبين السبيل ورفع العلم ولم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة فأين تريدون رحمكم الله أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ". ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى واردد الحق إلى أهله هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضي التقي والصديق الأكبر إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها واثب حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس. ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة ولات حين مناص إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها واستطابوا الآخرة فسعوا لها فالله الله أيها الناس قبل أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله وصهره وأبي سبطيه خلق من طينته وتفرع من نبعته وخصه بسره وجعله باب مدينته وأبان ببغضه المنافقين وها هو ذا مغلق الهام ومكسر الأصنام صلى والناس مشركون. وأطاع والناس كارهون فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل الله به أهل خيبر وفرق بن جمع هوازن. فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقاً وردة وشقاقاً وزادت المؤمنين أيماناً قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله. فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي ولو قتلتك ما حرجت في ذلك قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه قال: هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان استخلفه الناس وهم به راضون وقتلوه وهم له كارهون قال معاوية: يا أم الخير هذا أصلك الذي تبينين عليه قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيداً ما أردت بعثمان نقصاً ولكن كان سابقاً إلى الخير وإنه لرفيع الدرجة غداً. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله قالت: وما عسى أن أقول في طلحة اغتيل من مأمنه وأتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله الجنة. قال: فما تقولين في الزبير قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله وحواريه وقد شهد له رسول الله بالجنة ولقد كان سباقاً إلى كل مكرمة في الإسلام. وأنا أسألك بحق الله يا معاوية - فإن قريشاً تحدثت أنك أحلمها - أن تسعني بفضل حلمك و أن تعفني من هذه المسائل وتسألني عما شئت من غيرها قال: نعم ونعمة عين قد أعفيتك منها ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردها مكرمة.

وفود أروى بنت عبد المطلب على معاوية رحمه الله

العباس بن مكار قال: حدثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة فلما رآها معاوية قال: مرحباً بك وأهلاً يا عمة فكيف كنت بعدنا فقالت: يا بن أخي لقد كفرت يد النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله فأتعس الله منك الجدود وأضرع منكم الخدود ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا هو المنصور فوليتم علينا من بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى فغايتنا الجنة وغايتكم النار. فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك! فقالت له: وأنت يا بن النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به. فقال مروان: كفى أيتها العجوز واقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضاً يا بن الزرقاء تتكلم! ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك فإن أمك القائلة في قتل حمزة: نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبة من صبر وشكر وحشى علي دهري حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها بنت عمي وهي تقول: خزيت في بدر وبعد بدر يا بنة جبار عظيم الكفر فقال معاوية: عفا الله عما سلف يا عمة هات حاجتك قالت: مالي إليك حاجة وخرجت عنه.

كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك

قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الوفود والوافدات ومقاماتهم بين يدي نبي الله وبين يدي الخلفاء والملوك ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك والتزلف إليهم بسحر البيان الذي يمازج الروح لطافة ويجري مع النفس رقة والكلام الرقيق مصايد القلوب وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظاً والمندمل حقداً حتى يطفئ جمرة غيظه ويسل دفائن حقده وإن منه لما يستميل قلب اللئيم ويأخذ بسمع الكريم وبصره وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة وشافعاً مقبولاً قال تبارك وتعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ". وسنذكر في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى من تخلص من أنشوطة الهلاك وتفلت من حبائل المنية بحسن التفصل ولطيف التوصل ولين الجواب ورقيق الاستعتاب حتى عادت سيآته حسنات وعيض بالثواب بدلاً من العقاب. وحفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه وألزم له من قوام بدنه. كل شيء كشف لك قناع المعنى الخفي حتى يتأدى إلى الفهم ويتقبله العقل فذلك البيان الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ومن به على عباده فقال تعالى: " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ". وسئل النبي : فيم الجمال فقال: في اللسان يريد البيان. وقال : إن من البيان لسحراً. وقالت العرب: أنفذ من الرمية كلمة فصيحة. وقال الراجز: لقد خشيت أن تكون ساحراً راوية طوراً وطوراً شاعراً. وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم. وقالوا: البيان بصر والعي عمى كما أن العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل. وقالوا: ليس لمنقوص البيان بهاء ولو حك بيافوخه عنان السماء. وقال صاحب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق المبين. وقال: الروح عماد البدن والعلم عماد تبجيل الملوك وتعظيمهم قال النبي : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وقالت العلماء: لا يؤم ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه. وقال زياد ابن أبيه: لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. وقال يحيى بن خالد بن برمك: مساءلة الملوك عن حالها من سجية النوكى فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير فقل: صبح الله الأمير بالنعمة والكرامة وإذا كان عليلاً فأردت أن تسأله عن حاله فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة فإن الملوك لا تسأل ولا تشمت ولا تكيف وأنشد: إن الملوك لا يخاطبونا ولا إذا ملوا يعاتبونا وفي المقال لا ينازعونا وفي العطاس لا يشمتونا وفي الخطاب لا يكيفونا يثنى عليهم ويبجلونا اعتل الفضل بن يحيى فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام عليه والدعاء له ويخفف في الجلوس ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه وكان غيره يطيل الجلوس. فلما أفاق من علقته قال: ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح. وقال أصحاب معاوية له: إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم. وقيل ذلك ليزيد فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل ذلك لعبد الملك بن مروان فقال: إذا وضعت الخيزرانة من يدي. ومن تمام خدمة الملوك أن يقرب الخادم إليه نعليه ولا يدعه يمشي إليهما ويجعل النعل اليمنى مقابلة الرجل اليمنى واليسرى مقابلة اليسرى وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن يؤمر فلا ينتظر في ذلك ويتفقد الدواة قبل أن يأمره وينفض عنها الغبار إذا قربها إليه وإن رأى بين يديه قرطاساً قد تباعد عنه قربه ووضعه بين يديه على كسره. ودخل الشعبي على الحجاج فقال له: كم عطاك قال: ألفين قال: ويحك! كما عطاؤك قال ألفان قال: فلم لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك قال: لحن الأمير فلحنت وأعرب الأمير فأعربت ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه فأكون كالمقرع له بلحنه والمستطيل عليه بفضل القول قبله. فأعجبه ذلك منه ووهبه مالاً. قبلة اليد ذكر عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقبل يد النبي . ومن حديث عبد الرحمن وكيع عن سفيان قال قال: قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ومن حديث الشعبي قال: لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فالتزمه وقبل ما بين عينيه. قال إياس بن دغفل: رأيت أبا نضرة يقبل خد الحسين. الشيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال: العتبي قال: دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقبل يده وقال: يدك يا أمير المؤمنين أحق يد بالتقبيل لعلوها في المكارم وطهرها من المآثم وإنك تقل التثريب وتصفح عن الذنوب فمن أراد بك سوءاً جعله الله حصيد سيفك وطريد خوفك. الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجري على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت فقبلت رأسك لعل الله يمسك علي ما بقي من أسناني قال: اختر بينها وبين الجائزة فقال: يا أمير المؤمنين أيسر علي من ذهاب الجائزة أن لا تبقى في فمي حاكة فضحك المنصور وأمر له بجائزة. ودخل جعفر بن يحيى في زي العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة معه ثمامة بن أشرس فقال ثمامة: هذا أبو الفضل فنهض إليه سليمان فقبل يده وقال له: بأبي أنت ما دعاك إلى أن تحمل عبدك ثقل هذه المنة التي لا أقوم بشكرها ولا أقدر أن أكافئ عليها. الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت فأخذ عبد الله بن عباس بركابه فقال له: لا تفعل يا بن عم رسول الله قال هكذا: أمرنا أن نفعل بلعمائنا فقال له زيد: أرني يدك فأخرج إليه يده فأخذها وقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. وقالوا: قبلة الإمام في اليد وقبلة الأب في الرأس وقبلة الأخ في الخد وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزوجة في الفم.


العقد الفريد - الجزء الأول لابن عبد ربه
العقد الفريد/الجزء الأول/1 | العقد الفريد/الجزء الأول/2 | العقد الفريد/الجزء الأول/3 | العقد الفريد/الجزء الأول/4 | العقد الفريد/الجزء الأول/5 | العقد الفريد/الجزء الأول/6 | العقد الفريد/الجزء الأول/7 | العقد الفريد/الجزء الأول/8 | العقد الفريد/الجزء الأول/9 | العقد الفريد/الجزء الأول/10 | العقد الفريد/الجزء الأول/11 | العقد الفريد/الجزء الأول/12 | العقد الفريد/الجزء الأول/13 | العقد الفريد/الجزء الأول/14 | العقد الفريد/الجزء الأول/15 | العقد الفريد/الجزء الأول/16 | العقد الفريد/الجزء الأول/17 | العقد الفريد/الجزء الأول/18 | العقد الفريد/الجزء الأول/19 | العقد الفريد/الجزء الأول/20 | العقد الفريد/الجزء الأول/21 | العقد الفريد/الجزء الأول/22 | العقد الفريد/الجزء الأول/23 | العقد الفريد/الجزء الأول/24 | العقد الفريد/الجزء الأول/25 | العقد الفريد/الجزء الأول/26 | العقد الفريد/الجزء الأول/27 | العقد الفريد/الجزء الأول/28