العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/14


شكوى الصوفية الشيخ إلى السلطان وأمره بحبسه

ولم يزل بمصر يعلم الناس ويفتيهم ويذكر بالله ويدعو إليه ويتكلم في الجوامع على المنابر بتفسير القرآن وغيره من بعد صلاة الجمعة إلى العصر إلى أن ضاق منه وانحصر واجتمع خلق كثير من أهل الخوانق والرط والزوايا واتفقوا على أن يشكو الشيخ إلى السلطان

فطلع منهم خلق إلى القلعة وكان منهم خلق تحت القلعة فكانت لهم ضجة شديدة حتى قال السلطان ما لهؤلاء فقيل له هؤلاء كلهم قد جاءوا من أجل الشيخ تقي الدين بن تيمية يشكون منه ويقولون إنه يسب مشايخهم ويضع من قدرهم عند الناس واستغاثوا منه وأجلبوا عليه ودخلوا على الأمراء في أمره ولم يبقوا ممكنا

وكان بعض الناس يأتون إلى الشيخ فيقولون له إن الناس قد جمعوا لك جمعا كثيرا

فيقول حسبنا الله ونعم الوكيل

وأمر من يعقد له مجلسا بدار العدل

فعقد مجلس يوم الثلاثاء في العشر الأول من شوال من سنة سبع وسبعمائة وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه وصدق توكله وبيان حجته ما يتجاوز الوصف وكان وقتا مشهودا ومجلسا عظيما

وقال له كبير من المخالفين من أين لك هذا

فقال له الشيخ من أين لا تعلمه

وذكر بعض من حضر ذلك المجلس أن الناس لما تفرقوا منه قام الشيخ ومعه جماعة من أصحابه

قال فجاء وجئت معه إلى موضع ذكره في دار العدل

قال فلما جلسنا استلقى الشيخ على ظهره وكان هناك حجر لأجل تثقيل الحصير فأخذه ووضعه تحت رأسه فاضطجع قليلا ثم جلس وقال له إنسان يا سيدي قد أكثر الناس عليك

فقال إن هم إلا كالذباب ورفع كفه إلى فيه ونفخ فيه

قال وقام وقمنا معه حتى خرجنا فأتي بحصان فركبه ويختل بذؤابته فلم أر أحدا أقوى قلبا ولا أشد بأسا منه

قال فلما أكثروا الشكاية منه والملام وأوسعوا من أجله الكلام رسم بتسفيره إلى بلاد الشأم

فخرج للسفر ليلة الخميس ثاني عشر الشهر إلى جهة الشأم ثم رد في يوم الخميس المذكور وحبس بسجن الحاكم بحارة الديلم في ليلة الجمعة تاسع عشر شوال

قال ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللعب يلتهون بها عما هم فيه كالشطرنج والنرد ونحو ذلك من تضييع الصلوات

فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشد الإنكار وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير وحضهم على ذلك حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرا من الزوايا والربط والخوانق والمدارس وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده وكثر المترددون إليه حتى كان السجن يمتلىء منهم

فلما كثر اجتماع الناس به وترددهم إليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم فسألوا نقله إلى الإسكندرية وظنوا أن قلوب أهلها عن محبته عرية وأرادوا أن يبعد عنهم خبره أو لعلهم يقتلونه فينقطع أثره

فأرسل به إلى ثغر الإسكندرية في ليلة يسفر صباحها عن يوم الجمعة سلخ صفر من سنة تسع وسبعمائة

ما ذكره البرزالي في حبس الشيخ بالإسكندرية

وذكر الشيخ البرزالي وغيره أن في شهر شوال من سنة سبع وسبعمائة شكا شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الأبلى وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة من الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة

فرد الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي

وعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت شيء منها لكنه قال إنه لا يستغاث إلا بالله حتى لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبادة ولكنه يتوسل به ويتشفع به إلى الله

فبعض الحاضرين قال ليس في هذا شيء

ورأى قاضي القضاة بدر الدين أن هذا فيه قلة أدب

فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك فقال القاضي قد قلت له ما يقال لمثله

ثم إن الدولة خيروه بين أشياء وهي الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس فاختار الحبس

فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط فأجابهم

فأركبوهم خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال

ثم أرسل خلفه من الغد بريدا آخر فرده وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء

فقال بعضهم له ما ترضى الدولة إلا بالحبس

وقال قاضي القضاة وفيه مصلحة له

واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه فتحير

فقال الشيخ أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة

فقال نور الدين المأذون له في الحكم فيكون في موضع يصلح لمثله

فقيل له ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس وأذن أن يكون عنده من يخدمه

وكان جميع ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس ويزورونه وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس

قال علم الدين وفي ليلة الأربعاء العشرين من شوال من سنة ثمان وسبعمائة طلب أخوا الشيخ تقي الدين فوجد زين الدين وعنده جماعة فرسم عليهم ولم يوجد شرف الدين ثم أطلق الجماعة سوى زين الدين فإنه حمل إلى المكان الذي فيه الشيخ وهو قاعة الترسيم بالقاهرة ثم إنه أخرج في خامس صفر سنة تسع وسبعمائة

قال وفي الليلة الأخيرة من شهر صفر هذا وهي ليلة الجمعة توجه الشيخ تقي الدين من القاهرة إلى الإسكندرية مع أمير مقدم ولم يمكن أحد من جماعته من السفر معه ووصل هذا الخبر إلى دمشق بعد عشرة أيام فحصل التألم لأصحابه ومحبيه وضاقت الصدور وتضاعف الدعاء له

وبلغنا أن دخوله الإسكندرية كان يوم الأحد دخل من باب الخوخة إلى دار السلطان ونقل ليلا إلى برج في شرقي البلد

ثم وصلت الأخبار أن جماعة من أصحابه توجهوا إليه بعد ذلك وصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويتحدثون معه وكان الموضع الذي هو فيه فسيحا متسعا

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
(مقدمة) | مصنفات الشيخ رحمه الله | (مبحث) | بحث ثان جرى | موقف من مواقف الشيخ في إبطال أهل الطر الدجالين | محنة الشيخ وقيام المبتدعين عليه لتأليفه الحموية | محنة الشيخ بدمشق | إحضار الشيخ بمجلس نائب السلطنة ومناقشته في العقيدة | فصل | كتاب السلطان بإرسال الشيخ إلى مصر | إرسال الشيخ كتابا من سجنه إلى دمشق | إخراج ابن مهنا الشيخ من الجب | كتاب الشيخ إلى والدته وإلى غيرها | كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق | شكوى الصوفية الشيخ إلى السلطان وأمره بحبسه | كتاب الشيخ شرف الدين إلى أخيه بدر الدين | إحضار الشيخ من سجن الإسكندرية إلى القاهرة | حلم الشيخ وعفوه عمن ظلمه | كتاب الشيخ إلى أقاربه بدمشق | قيام جماعة من الغوغاء على الشيخ بجامع مصر وضربه وقيام أهل الحسينية وغيرهم انتصارا للشيخ ثم صفحه هو عمن آذوه | ترجمة الشيخ عماد الدين ابن شيخ الحزاميين | فصل | سجن الشيخ بسبب فتياه في الطلاق | الكلام على شد الرحال إلى القبور | انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور | وفاة الشيخ رحمه الله بالقلعة وما كتب بها قبل موته | ما كتبه العلماء في وفاة الشيخ | صورة فتيا قدمت في مجلس تقى الدين رضي الله عنه