العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/7
إحضار الشيخ بمجلس نائب السلطنة ومناقشته في العقيدة
ثم بعد هذه الواقعة بمدة كثيرة وذلك يوم الاثنين ثامن رجب من سنة خمس وسبعمائة طلب القضاة والفقهاء وطلب الشيخ تقي الدين إلى القصر إلى مجلس نائب السلطنة الأفرم فاجتمعوا عنده وسأل الشيخ تقي الدين وحده عن عقيدته
وقال له هذا المجلس عقد لك وقد ورد مرسوم السلطان أن أسألك عن اعتقادك
فأحضر الشيخ عقيدته الواسطية وقال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشأم
فقرئت في المجلس وبحث فيها وبقي مواضع أخرت إلى مجلس آخر
ثم اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور وحضر المخالفون ومعهم الشيخ صفي الدين الهندي واتفقوا على أنه يتولى المناظرة مع الشيخ تقي الدين
فتكلم معه
ثم أنهم رجعوا عنه واتفقوا على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فناظر الشيخ وبحث معه وطال الكلام وخرجوا من هناك والأمر قد انفصل
وقد أظهر الله من قيام الحجة ما أعز به أهل السنة
وانصرف الشيخ تقي الدين إلى منزله
واختلفت نقول المخالفين للمجلس وحرفوه ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته فالله المستعان
والذي حمل نائب السلطنة على هذا الفعل كتاب ورد عليه من مصر في هذا المعنى
وكان القائم في ذلك بمصر القاضي ابن مخلوف المالكي والشيخ نصر المنبجي والقروي واستعانوا بركن الدين الجاشنكير
ثم بعد ذلك عزر بعض القضاة بدمشق شخصا يلوذ بالشيخ تقي الدين وطلب جماعة ثم أطلقوا ووقع هرج في البلد وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغاب نحو جمعة ثم حضر
وكان الحافظ جمال الدين المزي يقرأ صحيح البخاري لأجل الاستسقاء فقرأ يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب في أثناء ذلك فصلا في الرد على الجهمية وأن الله فوق العرش، من كتاب أفعال العباد تأليف البخاري، تحت النسر
فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا نحن المقصودون بهذا ورفعوا الأمر إلى قاضي القضاة الشافعي
فطلبه ورسم بحبسه
فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين فتألم له وأخرجه من الحبس بيده وخرج إلى القصر إلى ملك الأمراء وتخاصم هو والقاضي هناك وأثنى على الشيخ جمال الدين وغضب القاضي وانزعج
وقال لئن لم يرد إلى حبسي عزلت نفسي فأرضاه ملك الأمراء بأن أعاد الشيخ جمال الدين إلى حبسه فاعتقله بالقوصية أياما
وذكر الشيخ تقي الدين للنائب ما وقع في غيبته في حق بعض أصحابه من الأذى فرسم بحبس جماعة من أصحاب ابن الوكيل وأمر فنودي في البلد إنه من تكلم في العقائد حل دمه وماله ونهب داره وحانوته وقصد بذلك تسكين الفتن والشر
وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عقد للشيخ تقي الدين مجلس ثالث بالقصر ورضي الجماعة بالعقيدة
وفي هذا اليوم عزل قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني لا أحب حكايته
وفي اليوم السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب السلطان إلى القاضي باعادته إلى الحكم وفيه:
إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيوخ تقي الدين وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدنا بذلك إلا براءة ساحته
ملخص ما حصل للشيخ في تلك المجالس
وقد ذكر الشيخ رحمه الله صورة ما جرى في هذه المجالس ملخصا وعلق في ذلك شيئا مختصرا فقال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير ولا معين وأشهد أن محمدا عبده ورسول الذي أرسله إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وعلى سائر عباد الله الصالحين
أما بعد فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة فضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ ممن له حرمة وبه اعتداد وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة
فقال لي هذا المجلس عقد لك فقد ورد مرسوم السلطان أن أسألك عن اعتقادك وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد
وأظنه قال وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك
فقلت أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة فما كان في القرآن وجب اعتقاده وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم
وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك ولكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم
وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ دار السلطان يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته لكن علمت أن هذا مكذوب وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره فأجيبه بالكتاب والسنة وما كان عيه سلف الأمة
فقال نريد أن تكتب لنا عقيدتك
فقلت اكتبوا
فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب
وكتبت له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعيد والإمامة والتفضيل
وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وأنه ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن وأنه أمر بالطاعة ورضيها وأحبها ونهى عن المعصية وكرهها والعبد فاعل حقيقة والله خالق فعله وأن الأيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص وأن لا نكفرأحدا من أهل القبلة بالذنوب ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدا وأن الخلفاء بعد رسول الله أبو بكرثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وأن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار
وذكرت هذا ونحوه فإني الآن قد بعد عهدي ولم أحفظ لفظ ما أمليته إذ ذاك
ثم قلت للأمير والحاضرين أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي كما قد كذبوا علي غير مرة وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون كتم بعضه أو داهن ودارى فانا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشأم قلت قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به وغضبت غضبا شديدا لكني أذكر أني قلت أنا أعلم أن أقواما كذبوا علي وقالوا للسطان أشياء وتكلمت بكلام احتجت إليه مثل أن قلت من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري ومن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد فلا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه وقمت مظهرا لحجته مجاهدا عنه مرغبا فيه
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري
ولو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل قد أطلب الإنصاف منه وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليحاققوا على افترائهم
وقلت كلاما أطول من هذا من هذا الجنس لكن بعد عهدي به
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محيي الدين أن يكتب ذلك وقلت أيضا كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعدها
لكنني قلت أيضا بعد حضورها وقراءتها ما ذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف
ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنزل فحضرت العقيدة الواسطية
وقلت لهم هذه كان سبب كتابتها أنه قدم من ارض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له رضي الدين الواسطي قدم علينا حاجا وكان من أهل الخيروالدين وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته
فاستغفيت من ذلك وقلت قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة فألح في السؤال وقال ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت
فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر
وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين
فقرأها على الحاضرين حرفا حرفا والجماعة الحاضرون يسمعونها ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء والأمير أيضا يسأل عن مواضع فيها
وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه وبعضه بسبب الاعتقاد وبعضه بغير ذلك
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس فإنه كثير لا ينضبط لكن أكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك
ومع أنه كان يجري رفع أصوات ولغط لا ينضبط فكان مما اعترض عليه بعضهم لما ذكر في أولها ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد ص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل
فقال ما المراد بالتحريف والتعطيل
ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي يثبته أهل التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوبا وإما جوازا
فقلت تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله في كتابه وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى وكلم الله موسى تكليما أي جرحه بأظافيرالحكمة تجريحا
ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم فسكت وفي نفسه ما فيها
وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف ولأن من المعاني التي قد تسمى تأويلا ما هو صحيح منقول عن بعض السلف فلم أنف ما تقوم الحجة على صحته إذ ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف فليس من التحريف
وقلت له أيضا ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال ليس كمثله شيء وقال هل تعلم له سميا فكان أحب إلي من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعنى به معنى فاسد
ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، جعل بعض الحاضرين يمتعض من ذلك لاستشعاره ما في ذلك من الرد لما هو عليه ولكن لم يتوجه له ما يقوله
وأراد أن يدور علي بالأسئلة التي أعلمها فلم يتمكن لعلمه بالجواب ولما ذكرت آية الكرسي أظن سأل الأمير عن قولنا لا يقربه شيطان حتى يصبح
فذكرت له حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الذي كان يسرق صدقة الفطر وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا ويعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك
فقلت قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل وإنما أخذت هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
فاتفق هؤلاء على أن الكيف غير معلوم لنا فنفيت ذلك اتباعا لسلف الأمة وهو أيضا منفي بالنص فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل والمعنى والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله
وكذلك التمثيل ينفى بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف
فقال أحد كبراء المخالفين فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام
فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين إنما قيل إنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال
وأخذ بعض القضاة الحاضرين والمعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقوله فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم
فقلت قد ذكر فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل
وقلت في صدرها ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل
ثم قلت وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك
إلى أن قلت إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله بما يخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهو وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة
ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصبهم ورأى قلة المعاون منهم والناصر وخافهم قال أنت قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد فنقول هذا اعتقاد أحمد
يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه فإن هذا مذهب متبوع
وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم
فقلت ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجىء به الرسول لم نقبله وهذه عقيدة محمد
وقلت مرات قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي حيث قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك وعلي أن آتي بنقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة توافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية والصوفية وأهل الحديث وغيرهم
وقلت أيضا في غير هذا المجلس الإمام أحمد رضي الله عنه لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله أكثر مما انتهي إلى غيره وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره كان كلامه وعمله في هذا الباب أكثر من غيره فصار إماما في السنة أظهر من غيره وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء قال المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد بن حنبل
يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان وإظهار الحق ودفع الباطل ما ليس لبعض
ولما جاء حديث أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين عن النبي يقول الله يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار الحديث،
سألهم الأمير هل هذا الحديث صحيح
فقلت نعم هو في الصحيحين ولم يخالفوا في ذلك واحتاج المنازع إلى الإقرار به
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت لأن ذلك طلب منه
فقلت هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي كذب مفترى لم يقل ذلك أحمد ولا أحد من علماء المسلمين
وأخرجت كراسا كان قد أحضر مع العقيدة وفيه ما ذكره الشيخ أبو بكر الحلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد وما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام أحمد وكلام أئمة زمانه في أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع قلت فكيف بمن يقول لفظي قديم فكيف بمن يقول صوتي غير مخلوق فكيف بمن يقول صوتي قديم
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت قديما عنها فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف والصوت ومسألة الظاهر في العرش وقلت هذا جوابي
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضرا في المجلس فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم
وكانوا قد ظنوا أني إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله حصل مقصودهم من الشناعة وإن أجبت بما يقولونه هم حصل مقصودهم من الموافقة
فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة وليس هو ما يقولونه هم ولا ما ينقلونه عن أهل السنة إذ يقوله بعض الجهال بهتوا لذلك
وفيه إن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه ليس القرآن اسما لمجرد الحروف ولا لمجرد المعاني
ولما جاءت مسألة القرآن فقلت ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود وطلبوا تفسير ذلك
فقلت أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف مثل ما نقله عمرو بن دينار قال أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي والصحابة والتابعين
وأما معناه فإن قوله منه بدأ أي هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه ليس هو كما تقوله الجهمية إنه خلق في الهواء أو غيره أو بدأ من عند غيره
وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف
ووافق على ذلك غالب الحاضرين وسكت المنازعون
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادر بالله التي فيها إن القرآن كلام الله خرج منه فتوقف في هذا اللفظ
فقلت هكذا قال النبي وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه يعني القرآن
وقال خباب بن الأرت يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قرىء عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني رب
ومما فيها ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية أو عبارة عن كلام الله بل إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا
فامتعض بعضهم من كونه إثبات كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك
ولما ذكر فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا استحسنوا هذا الكلام وعظموه وأخذ أحد كبراء الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام وأنه أزال عنه الشبهات ويذكر أشياء من هذا النمط
ولما جاء ذكر ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر وتفصيله ونظمه استحسنوا ذلك وعظموه
وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين إلى غير ذلك مما فيه من القواعد الجليلة
وكذلك لما جاء الكلام في الفاسق الملي وفي الإيمان
لكن اعترضوا على ذلك بما سأذكره
وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها والبحث فيه أربعة أسئلة
السؤال الأول قولنا ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح
قالوا إذا قيل إن هذا من اصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق ومن يقول إن الإيمان هو التصديق والإقرار وإذا لم يكونوا ناجين لزم أن يكونوا هالكين
وأما الأسئلة الثلاثة وهي التي كانت عمدتهم فأوردوها على قولنا وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة ومن أنه سبحانه فوق سمواته وأنه على عرشه علي على خلقه هو معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير
وليس معنى قوله وهو معكم أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة
والسؤال الأول قال بعضهم نقر باللفظ الوارد مثل حديث العباس رضي الله عنه حديث الأوعال والله فوق العرش، ولا نقول فوق السموات ولا نقول على العرش
وقالوا أيضا نقول الرحمن على العرش استوى ولا نقول الله على العرش استوى ولا قول مستو
وأعادوا هذا المعنى مرارا أي إن اللفظ الذي ورد يقال اللفظ بعينه ولا يبدل بلفظ يرادفه ولا يفهم له معنى أصلا ولا يقال إنه يدل على صفة لله أصلا
وانبسط الكلام في هذا المجلس الثاني كما سنذكره إن شاء الله تعالى
والسؤال الثاني قالوا التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء يكون القمر في السماء
السؤال الثالث قالوا قولك حق على حقيقته الحقيقة هي المعنى اللغوي ولا يفهم من الحقية إلا استواء الأجسام وفوقيتها ولم تضع العرب ذلك إلا لها فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم ونفي التجسيم مع هذا تناقض أو مصانعة
فأجبتهم عن الأسئلة بأن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي بالنجاة حيث قال تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي وأصحابه وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية
فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال الإيمان يزيد وينقص
وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة رضي الله عنهم بالأسانيد الثابتة لفظه أو معناه وإذا خالفهم من بعدهم لم يضرني ذلك
ثم قلت لهم وليس كل مخالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله له خطأه وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والتائب وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا وقد لا يكون ناجيا كما قال من صمت نجا
وأما السؤال الثاني فأجبتهم أولا بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي مثل لفظ فوق السموات ولفظ على العرش وفوق العرش
وقلت اكتبوا الجواب فأخذ الكاتب في كتابته
ثم قال بعض الجماعة قد طال المجلس اليوم فيؤخر هذا إلى مجلس آخر
فتكتبون أنتم الجواب وتحضرونه في ذلك المجلس
وأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم
وكأن الخصوم كان لهم غرض في تأخير كتابة الجواب ليستعدوا لأنفسهم ويطالعوا ويحضروا من غاب من أصحابهم ويتأملوا العقيدة فيما بينهم ليتمكنوا من الطعن والاعتراض
فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة
وقمنا على ذلك
وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة ما أعز الله به السنة والجماعة وأرغم به أهل البدعة والضلالة وفي نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني
وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها ويتأملون ما أجيب به في مسائل تتعلق بالاعتقاد مثل المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية وغيرها