العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/26


ما كتبه العلماء في وفاة الشيخ

قال الشيخ علم الدين وفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة توفي الشيخ الإمام العلامة الفقيه الحافظ الزاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا الإمام المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي بقلعة دمشق التي كان محبوسا فيها

وحضر جمع إلى القلعة فأذن لهم في الدخول وجلس جماعة قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله ثم انصرفوا

وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن

واقتصر على من يغسل ويعين في غسله فلما فرغ من ذلك أخرج وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق وامتلأ الجامع وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة

وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام وصلى عليه أولا بالقلعة تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام ثم صلى عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر وحمل من باب البريد واشتد الزحام وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام وكل باب أعظم زحمة من الآخر

ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام لكن كان المعظم من الأبواب الأربعة باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة

ومن باب الفراديس ومن باب النصر وباب الجابية وعظم الأمر بسوق الخيل

وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن وحمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير

وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس أو من أعجزه الزحام

وحضرها نساء كثير بحيث حزرن بخمسة عشر ألفا وأما الرجال فحزروا بستين ألفا وأكثر إلى مائتي ألف وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به

وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم وقيل إن الخيط الذي فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل دفع فيه مائة وخمسون درهما وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء وتضرع وختمت له ختم كثيرة بالصالحية والبلد

وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا ورؤيت له منامات كثيرة صالحة ورثاه جماعة بقصائد جمة

وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة

وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير فسمع الحديث من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي والقاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي والشيخ جمال الدين ابن الصيرفي ومجد الدين بن عساكر والشيخ جمال الدين البغدادي والنجيب المقداد وابن أبي الخير وابن علان وأبي بكر الهروي والكمال عبد الرحيم والفخر علي وابن شيبان والشرف ابن القواس وزينب بنت مكي وخلق كثير

وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والأثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين واشتغل بالعلوم

وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه واختلاف العلماء والأصلين والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية وما تكلم معه فاضل في فن إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له

وأما الحديث فكان حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا من ذلك

وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الفروع والأصول كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه وجملة كثيرة لم يكملها وجملة كملها ولكن لم تبيض

وأثنى عليه وعلى فضائله جماعة من علماء عصره مثل القاضي الخوى وابن دقيق العيد وابن النحاس وابن الزملكاني وغيرهم

ووجدت بخط الشيخ جمال الدين بن الزملكاني أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين وكتب على تصنيف له هذه الأبيات الثلاثة من نظمه وهي

ماذا يقول الواصفون له ** وصفاته جالت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة ** هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية للخلق ظاهرة ** أنوارها أربت على الفجر

وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة

وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر وسماع الحديث والطلب من نحو خمسين سنة وله فضائل كثيرة

وأسماء مصنفاته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الكتاب

ولما مات كنت غائبا عن دمشق بطريق الحجاز الشريف وبلغنا خبره بعد موته بأكثر من خمسين يوما لما وصلنا إلى تبوك وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى

قلت وقد قيل إن الخلق الذين حضروا جنازة الشيخ كانوا أزيد مما ذكر

ومن الجنائز العظيمة في الإسلام جنازة الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل فإن الذين حضروها وصلوا عليه كانوا أكثر من ألف ألف إنسان

وقد قال الإمام أبو عثمان الصابوني سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول حضرت جنازةأبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكثير أقبل علينا وقال سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز

قال أبو عبد الرحمن على إثر هذه الحكاية أنه حزر الحزارون المصلين على جنازة أحمد فبلغ العدد بحزرهم ألف ألف وسبعمائة ألف سوى الذين كانوا في السفن وقد وجد بخط الشيخ أبيات قالها بالقلعة وهي

أنا الفقير إلى رب السماوات ** أنا المسكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ** والخير إن جاءنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفس جلب منفعة ** ولا عن النفس في دفع المضرات

وليس لي دونه مولى يدبرني ** ولا شفيع إلى رب البريات

إلا بإذن من الرحمن خالقنا ** رب السماء كما قد جاء في الآيات

ولست أملك شيئا دونه أبدا ** ولا شريك أنا في بعض ذراتي

ولا ظهير له كيما أعاونه ** كما يكون لأرباب الولايات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ** كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ** وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلبا من دون خالقه ** فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله ملء الكون أجمعه ** ما كان منه وما من بعده ياتي

ثم الصلاة على المختار من مضر ** خير البرية من ماض ومن آتي

وله أيضا

إن لله علينا أنعما ** يعجز الحصر عن العد لها

فله الحمد على أنعمه ** وله الحمد على الشكر لها

وقد مدح الشيخ رحمه الله بقصائد كثيرة في حياته ورثي بأكثر منها بعد وفاته

فمن القصائد التي مدح بها قصيدة نجم الدين اسحق بن أبي بكر ابن ألمى التركي وهي

ذراني من ذكرى سعاد وزينب ** ومن ندب أطلال اللوى والمحصب

ومن مدح آرام سنحن برامة ** ومن غزل في وصف سرب وربرب

ولا تنشداني غير شعر إلى العلا ** يظل ارتياحا يزدهيني ويطبي

وإن أنتما طارحتماني فليكن ** حديثكما في ذكر مجد ومنصب

بحب الأعالي لا بحب أم جندب ** أقضى لبانات الفؤاد المعذب

خلقت امرءا جلدا على حمل الهوى ** فلست أبالي بالقلى والتجنب

سواء أرى للوصل تعريض جؤذر ** وإعراض ظبي ألعس الثغر أشنب

ولم أصب في عصر الشبيبة والصبا ** فهل أصبون كهلا بلمة أشيب

يعنفني في بغيتي رتب العلا ** جهول أراه راكبا غير مركبي

له همة دون الحضيض محلها ** ولي همة تسمو على كل كوكب

فلو كان ذا جهل بسيط عذرته ** ولكنه يدلي بجهل مركب

يقول علام اخترت مذهب أحمد ** فقلت له إذ كان أحمد مذهب

وهل في ابن شيبان مقال لقائل ** وهل فيه من طعن لصاحب مضرب

أليس الذي قد طار في الأرض ذكره ** فطبقها ما بين شرق ومغرب

إمام الهدى الداعي إلى سنن الهدى ** وقد فاضت الأهواء من كل مسغب

أتوا بعظيم الإفك وانتصروا له ** بكل مقال بالدليل مكذب

وقالوا كلام الله خلقا وكذبوا ** بما صح نقلا عن أبي ومصعب

وأصبح أهل الحق بين معاقب ** وبين معد للأذى مترقب

فقام بما يوهي ثبيرا ويذبلا ** قيام هزبر للفريسة مغضب

ولم ينته عنهم ولما يصده ** عقوبة ذي ظلم وجور معذب

إلى أن بدا الإسلام أبلج ساطعا ** وكشف عن ظلمائهم كل غيهب

وهدم من أركانهم كل شامخ ** ودوخ من شجعانهم كل قرهب

ومزقهم أيدي سبا فتفرقت ** كتائبهم ما بين شرق ومغرب

وأصحابه أهل الهدى لا يضرهم ** على دينهم طعن امرىء جاهل غبي

هم الظاهرون القائمون بدينهم ** إلى الحشر لم يغلبهم ذو تغلب

لنا منهم في كل عصر أئمة ** هداة إلى العليا مصابيح مرقب

فأيدهم رب العلا من عصابة ** لإظهار دين الله أهل تعصب

وقد علم الرحمن أن زماننا ** تشعب فيه الرأي أي تشعب

فجاء بحبر عالم من سراتهم ** لسبع مئين بعد هجرة يثرب

يقيم قناة الدين بعد اعوجاجها ** وينقذها من قبضة المتغصب

فذاك فتى تيمية خير سيد ** نجيب أتانا من سلالة منجب

عليم بأدواء النفوس يسوسها ** بحكمته فعل الطبيب المجرب

بعيد من الفحشاء والبغي والأذى ** قريب إلى أهل التقى ذو تحبب

يغيب ولكن عن مساو وغيبة ** وعن مشهد الإحسان لم يتغيب

حليم كريم مشفق بيد أنه ** إذا لم يطع في الله لله يغضب

يرى نصرة الإسلام أكرم مغنم ** وإظهار دين الله أربح مكسب

ليوث أذا أهل الضلال تجمعوا ** لكل فتى منهم يعد بمقنب

لئن جحدت علياء فضلك حسد ** لعمر أبي قد زاد منهم تعجبي

وهل ممكن في العقل أن يجحد السنا ** ضحى وضياء الشمس لم يتحجب

أيا مطلبا حزناه من غير مهلك ** وكم مهلك صد الورى دون مطلب

بعزم تقي الدين أحمد تتقى ** صروف زمان بالفوادح مرعب

وفي الجدب نستسقي الغمام بوجهه ** فنصبح في روض كناديه مخصب

ربيب المعالى يافع الجود والندى ** فتى العلم كهل الحلم شيخ التأدب

مفصل ما قد جاء من جمل النهى ** وإيضاحه للفهم غير مقرب

بسيط معان في وجيز عبارة ** بتهذيبه تعجيز كل مهذب

وليس له في العلم والزهد مشبه ** سوى الحسن البصري وابن المسيب

ومن رام حبرا غيره اليوم في الورى ** فذاك الذي قد رام عنقاء مغرب

أليس هو الندب الذي بانتصاره ** حبا الدين حبي بالإمامة قد حبي

وجاهد في ذات الإله بنفسه ** وبالمال والأهلين والأم والأب

ووازره في حالتيه ابن أمه ** فذلك عبد الله نعم الفتى الأبي

عقاب المعالي ضيغم الغابة الذي ** فرى كل ذي غير بناب ومخلب

هما ناصرا دين الإله وحاميا ** حمى خير خلق الله من نسل يعرب

مقيمان كالإسلام في دار غربة ** فيا حبذا في الله حسن التغرب

وكم قد غدا بالقول والفعل مبطلا ** ضلالة كذاب ورأي مكذب

ولم تلق من عاداه غير منافق ** وآخر عن نهج السبيل منكب

لقد حاولوا منه الذي كان رامه ** من المصطفى قدما حيي بن أخطب

ولكن رأى من بأسه مثلما رأى ** من المصطفى في حربه رأس مرحب

تمسك أبا العباس بالدين واعتصم ** بحبل الهدى تقهر عداك وتغلب

ولا تخش من كيد الأعادي فما هم ** سوى حائر في أمره ومذبذب

جنودهم من طامع ومذلل ** مسيلمة منهم يلوذ بأشعب

وجند من أهل السماء ملائك ** يمدك منهم موكب بعد موكب

وكل امرىء قد باع لله نفسه ** فليس إذا يصغي لقول مؤنب

خدمتهما مني بعقد منضد ** بفكر سوائي دره لم يثقب

تشنف سمع الدهرحسنا إذا اغتدى ** به الناظم التركي أفصح معرب

وما جئت في مدحيهما متطلعا ** به عرضا يفنى ولا نيل منصب

ولكنني أبغي رضا الله خالقي ** وأرجو به غفران زلة مذنب

وأجعله لي في المعاد ذخيرة ** أفوز بها في الحشر من خطبه الوبي

نجزت وهي سبعة وستون بيتا بسم الله الرحمن الرحيم

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
(مقدمة) | مصنفات الشيخ رحمه الله | (مبحث) | بحث ثان جرى | موقف من مواقف الشيخ في إبطال أهل الطر الدجالين | محنة الشيخ وقيام المبتدعين عليه لتأليفه الحموية | محنة الشيخ بدمشق | إحضار الشيخ بمجلس نائب السلطنة ومناقشته في العقيدة | فصل | كتاب السلطان بإرسال الشيخ إلى مصر | إرسال الشيخ كتابا من سجنه إلى دمشق | إخراج ابن مهنا الشيخ من الجب | كتاب الشيخ إلى والدته وإلى غيرها | كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق | شكوى الصوفية الشيخ إلى السلطان وأمره بحبسه | كتاب الشيخ شرف الدين إلى أخيه بدر الدين | إحضار الشيخ من سجن الإسكندرية إلى القاهرة | حلم الشيخ وعفوه عمن ظلمه | كتاب الشيخ إلى أقاربه بدمشق | قيام جماعة من الغوغاء على الشيخ بجامع مصر وضربه وقيام أهل الحسينية وغيرهم انتصارا للشيخ ثم صفحه هو عمن آذوه | ترجمة الشيخ عماد الدين ابن شيخ الحزاميين | فصل | سجن الشيخ بسبب فتياه في الطلاق | الكلام على شد الرحال إلى القبور | انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور | وفاة الشيخ رحمه الله بالقلعة وما كتب بها قبل موته | ما كتبه العلماء في وفاة الشيخ | صورة فتيا قدمت في مجلس تقى الدين رضي الله عنه