مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن


فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن

وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله، وكما دعاهم النبي ، ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صَوْلهم بما يدفع صَوْل الإنس.

وصَرْعُهُم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولدK وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه، وكره أكثر العلماء مناكحة الجن. وقد يكون وهو كثير، أو الأكثر عن بغض ومجازاة، مثل أن يؤذيهم بعض الإنس، أو يظنوا أنهم يتعمدوا أذاهم إما ببول على بعضهم، وإما بصب ماء حارٍ، وإما بقتل بعضهم، وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك وفي الجن جهل وظلم فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه، وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس. وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من الفواحش التي حرمها الله تعالى، كما حرم ذلك على الإنس وإن كان برضي الآخر، فكيف إذا كان مع كراهته، فإنه فاحشة وظلم؟ فيخاطب الجن بذلك ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة، أو فاحشة وعدوان لتقوم الحجة عليهم بذلك، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن.

وما كان من القسم الثاني، فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم، ومن لم يتعمد الأذي لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه، فله أن يتصرف فيها بما يجوز، وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفَلَوَات؛ ولهذا يوجدون كثيرًا في الخراب والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات؛ كالحمامات والحُشُوش والمزابل والقمامين والمقابر. والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية، يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوي الشياطين.

وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها؛ لأنها مأوي الشياطين، والفقهاء منهم من علل النهى بكونها مظنة النجاسات. ومنهم من قال: إنه تَعَبُّدٌ لا يعقل معناه. والصحيح أن العلة في الحمام وأعْطَان الإبل، ونحو ذلك أنها مأوي الشياطين، وفي المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك، مع أن المقابر تكون أيضا مأوي للشياطين.

والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانًا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها؛ لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام، وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب، كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها؛ من تسبيح لها، ولباس، وبخور، وغير ذلك؛ فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها: روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم؛ إما قتل بعض أعدائهم، أو إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع.

والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها، فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يستخدم الجن بهذه، فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا. وآخرون قالوا: لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان، فَضَلَّ الفريقان، هؤلاء بقدحهم في سليمان، وهؤلاء باتباعهم السحر، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ }

إلى قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } 1، بين سبحانه أن هذا لا يضر ولا ينفع؛ إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح، والضرر هو الشر الخالص أو الراجح، وشر هذا إما خالص، وإما راجح.

والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، كما يفعل بالإنس؛ لأن الله يقول: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 2، وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } 3 ؛ ولهذا نهى النبي عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثًا، كما في صحيح مسلم، وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله : «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأي شيئًا من هذه العَوَامِر فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان».

وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي السائب مولي هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلى فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها، فأشار إلى أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أتري هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتي منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتي يستأذن رسول لله بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله : «خذ عليك سلاحك فإني أخشي عليك قريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأَهْوَى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غِيَرة. فقالت: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِيةً على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فَرَكَّزَه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتي؟ قال: فجئنا إلى رسول الله فذكرنا له ذلك، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، قال: » استغفروا لصاحبكم« ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان»، وفي لفظ آخر لمسلم أيضا: فقال رسول الله : «إن لهذه البيوت عَوَامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فَحَرِّجوا 4 عليه ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر» وقال لهم: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم».

وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدًا ولو كان كافرًا، بل قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } 5، والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتي الشيطان قريشًا في صورة سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ }، إلى قوله: { وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } 6.

وكما رُوِي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة: هل يقتلوا الرسول، أو يحبسوه، أو يخرجوه؟ كما قال تبارك وتعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } 7، فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنًا فتؤذن ثلاثًا فإن ذهبت وإلا قتلت، فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك، والعادي: هو الصَّائِل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلًا، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز.

وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض، تارة يبرون قسمه، وكثيرًا لا يفعلون ذلك، بأن يكون ذلك الجني معظمًا عندهم، وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك؛ إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه، وهذا تختلف أحواله، فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه، وقد يكون ذاك منيعًا، فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس، لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفي بالعهد، والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر.

والمقصود أن أرباب العزائم، مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر، لا تجوز العزيمة والقسم به، فهم كثيرًا ما يعجزون عن دفع الجني، وكثيرًا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه، ويكون ذلك تخييلًا وكذبًا، هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقًا في الرؤية، فإن عامة ما يعرفونه لمن يرى دون تعريفه؛ إما بالمكاشفة والمخاطبة، إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين، وإما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يرىدون تعريفه، فإذا رأي المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال، وقد يوهمونه أنه نفس المرئي، وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضإلىن من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين، إذا استغاث به بعض محبيه فقال: يا سيدي فلان، فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي، فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت، وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.


هامش

  1. [البقرة: 101103]
  2. [الإسراء: 15]
  3. [الأنعام: 130]
  4. [وقوله: حَرِّجوا أي: ضيقوا عليه]
  5. [المائدة: 8]
  6. [الأنفال: 48]
  7. [الأنفال: 30]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع عشر - أصول الفقه
فصل الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع | فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين | فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن | فصل في تصور الشيطان في صورة المدعو المستغاث به | فصل في الذب عن المظلوم ونصرته | فصل في جواز أن يكتب للمصاب شيئا من كتاب الله ويغسل به ويسقى | فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه | فصل في أول البدع ظهورا في الإسلام | أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه | فصل في الأمر باتباع الكتاب والحكمة | قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة | فصل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده | فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع | فصل في قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون | فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف | فصل فيما تنازع فيه العلماء | قاعدة في العلوم والاعتقادات | فصل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد | فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية | فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم | معارج الوصول | فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | فصل في العمليات أو الفروع | قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم | فصل في العلوم الشرعية والعقلية | فصل في حدود الأسماء التي علق الله بها الأحكام | فصل في اسم الحيض | فصل في المسح على الخفين | فصل في القصر والفطر في السفر | فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | فصل في مقدار الإطعام شرعا | فصل في الاستبراء | فصل في العاقلة ومقدار ما تحمله من الدية | فصل في خمس الغنيمة وتقسيمه | فصل في التقليد الذي حرمه الله ورسوله | سئل عمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة | فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة