مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في اسم الحيض
فصل في اسم الحيض
ومن ذلك اسم الحَيض، علق الله به أحكامًا متعددة في الكتاب والسنة، ولم يُقَدِّر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حدًا فقد خالف الكتاب والسنة، والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله، ثم يختلفون في التحديد. ومنهم من يحد أكثره دون أقله، والقول الثالث أصح: أنه لا حد له لأقله ولا لأكثره، بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، وإن قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض، وإن قدر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض. وأما إذا استمر الدم بها دائمًا فهذا قد علم أنه ليس بحيض؛ لأنه قد علم من الشرع واللغة أن المرأة تارة تكون طاهرًا، وتارة تكون حائضًا، ولطهرها أحكام، ولحيضها أحكام.
والعادة الغالبة أنها تحيض ربع الزمان ستة أو سبعة، وإلى ذلك رد النبي ﷺ المستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز، والطهر بين الحيضتين لا حد لأكثره باتفاقهم؛ إذ من النسوة من لا تحيض بحال، وهذه إذا تباعد ما بين أَقْرَائِها فهل يعتد بثلث حيض أو تكون كالمرتابة تحيض سنة؟ فيه قولان للفقهاء. وكذلك أقله على الصحيح لا حد له، بل قد تحيض المرأة في الشهر ثلاث حِيَضٍ، وإن قدر أنها حاضت ثلاث حيض في أقل من ذلك أمكن، لكن إذا ادعت انقضاء عدتها فيما يخالف العادة المعروفة، فلابد أن يشهد لها بطانة من أهلها، كما روي عن على رضي الله عنه فيمن ادعت ثلاث حيض في شهر.
والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتي يقوم دليل على أنه استحاضة؛ لأن ذلك هو الدم الأصلي الجِبِلِّي، وهو دم تَرْخِيه الرحم، ودم الفساد دم عرق ينفجر، وذلك كالمرض، والأصل الصحة لا المرض. فمتي رأت المرأة الدم جارٍ من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة. ومن قال: إنها تغتسل عقيب يوم وليلة فهو قول مخالف للمعلوم من السنة وإجماع السلف؛ فإنا نعلم أن النساء كن يحضن على عهد النبي ﷺ، وكل امرأة تكون في أول أمرها مبتدأة قد ابتدأها الحيض، ومع هذا فلم يأمر النبي ﷺ واحدة منهن بالاغتسال عقب يوم وليلة. ولو كان ذلك منقولا لكان ذلك حدًا لأقل الحيض، والنبي ﷺ لم يحد أقل الحيض باتفاق أهل الحديث. والمروي في ذلك ثلاث. وهي أحاديث مكذوبة عليه باتفاق أهل العلم بحديثه، وهذا قول جماهير العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أحمد.
وكذلك المرأة المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض، حتي يعلم أنه استحاضة باستمرار الدم؛ فإنها كالمبتدأة.
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء، كما جاء في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي ﷺ، وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث. ومن العلماء من أخذ بحديثين، ومنهم من لم يأخذ إلا بحديث، بحسب ما بلغه، وما أدي إليه اجتهاده رضي الله عنهم أجمعين.
والحامل إذا رأت الدم على الوجه المعروف لها فهو دم حيض بناء على الأصل.
والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره، فلو قدر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس، لكن إن اتصل فهو دم فساد. وحينئذ فالحد أربعون؛ فإنه منتهي الغالب جاءت به الآثار.
ولا حد لسِنٍّ تحيض فيه المرأة، بل لو قدر أنها بعد ستين أو سبعين رأت الدم المعروف من الرحم لكان حيضًا. واليأس المذكور في قوله: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ } 1، ليس هو بلوغ سن، لو كان بلوغ سن لبينه الله ورسوله، وإنما هو أن تَيْأس المرأة نفسها من أن تحيض، فإذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تَرَبَّصَتْ وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة، وإن عاودها بعد الأشهر الثلاثة فهو كما لو عاود غيرها من الآيسات والمستريبات. ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب إن جعله سنًا، وقوله مضطرب إن لم يحد اليأس لا بسن ولا بانقطاع طمع المرأة في المحيض، وبنفس الإنسان لا يعرف، وإذا لم يكن للنفاس قدر؛ فسواء ولدت المرأة تَوْأَمَين أو أكثر ما زالت تري الدم فهي نَفْسَاء، وما تراه من حين تشرع في الطَّلْقِ فهو نِفَاس، وحكم دم النفاس حكم دم الحيض.
ومن لم يأخذ بهذا، بل قَدَّر أقل الحيض بيوم، أو يوم وليلة، أو ثلاثة أيام، فليس معه في ذلك ما يعتمد عليه، فإن النقل في ذلك عن النبي ﷺ وأصحابه باطل عند أهل العلم بالحديث. والواقع لا ضابط له، فمن لم يعلم حيضًا إلا ثلاثًا قال غيره: قد علم يومًا وليلة، ومن لم يعلم إلا يومًا وليلة قد علم غيره يومًا، ونحن لا يمكننا أن ننفي ما لا نعلم، وإذا جعلنا حد الشرع ما علمناه فقلنا: لا حيض دون ثلاث أو يوم وليلة أو يوم؛ لأنا لم نعلم إلا ذلك، كان هذا وضع شرع من جهتنا بعد العلم؛ فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، ولو كان هذا حدًا شرعيًا في نفس الأمر لكان الرسول ﷺ أولي بمعرفته وبيانه منا، كما حَدَّ للأمة ما حده الله لهم من أوقات الصلوات والحج والصيام، ومن أماكن الحج، ومن نُصُبِ الزكاة وفرائضها، وعدد الصلوات وركوعها وسجودها. فلو كان للحيض وغيره مما لم يقدره النبي ﷺ حد عند الله ورسوله لبينه الرسول ﷺ، فلما لم يحده دل على أنه رد ذلك إلى ما يعرفه النساء ويسمي في اللغة حيضًا؛ ولهذا كان كثير من السلف إذا سئلوا عن الحيض قالوا: سلوا النساء فإنهن أعلم بذلك، يعني: هن يعلمن ما يقع من الحيض وما لا يقع.
والحكم الشرعي تعلق بالاسم الدال على الواقع، فما وقع من دم فهو حيض إذا لم يعلم أنه دم عِرْق أو جرح؛ فإن الدم الخارج؛ إما أن ترخيه الرحم، أو ينفجر من عرق من العروق، أو من جلد المرأة، أو لحمها، فيخرج منه. وذلك يخرج من عروق صِغَار، لكن دم الجرح الصغير لا يسيل سَيْلا مستمرًا كدم العرق الكبير؛ ولهذا قال النبي ﷺ للمستحاضة: «إن هذا دم عرق وليست بالحيضة». وإنما يسيل الجرح إذا انفجر عرق كما ذكرنا فَصْدَ الإنسان؛ فإن الدم في العروق الصغار والكبار.
هامش
- ↑ [الطلاق: 4]