مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن أحاديث هل هي صحيحة


سئل عن أحاديث هل هي صحيحة

وسئل عن أحاديث: هل هي صحيحة؟وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ وهي قوله: «أول ما خلق الله العقل قال له: أَقْبِل، فأقبل. ثم قال له: أَدْبِر، فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أكرم على منك. بك آخذ، وبك أعطي؛ وبك أثيب، وبك أعاقب». وقوله: «أمرت أن أخاطب الناس على قَدْر عقولهم». وهل هذا اللفظ هو لفظ حديث؟ أو فيه تحريف؟ أو زيادة أو نقص؟ وقوله: «إن الله مَنَّ على فيما مَنَّ على: أن أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، قسمتها بيني وبينك نصفين». وقوله: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار».

فأجاب:

أما الحديث الأول، فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة، وإنما يرويه مثل داود بن المحبر، وأمثاله من المصنفين في العقل، ويذكره أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم من المتفلسفة، وقد ذكره أبو حامد في بعض كتبه، وابن عربي، وابن سَبعين، وأمثال هؤلاء، وهو عند أهل العلم بالحديث كذب على النبي ، كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي، وأبو الفرج ابن الجوزي، وغيرهما من المصنفين في علم الحديث.

ومع هذا فلفظ الحديث: «أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر، فأدبر، قال: ما خلقت خلقًا أكرم على منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب»، وفي لفظ: «لما خلق الله العقل قال له: كذلك» ومعني هذا اللفظ أنه قال للعقل في أول أوقات خلقه، ليس فيه أن العقل أول المخلوقات، لكن المتفلسفة القائلون بقدم العالم أتباع أرسطو، هم ومن سلك سبيلهم من باطنية الشيعة، والمتصوفة، والمتكلمة، رَوَوْهُ أول ما خلق الله العقل بالضم، ليكون ذلك حجة لمذهبهم، في أن أول المبدعات هو العقل الأول، وهذا اللفظ لم يروه به أحد من أهل الحديث، بل اللفظ المروي مع ضعفه يدل على نقيض هذا المعني، فإنه قال: «ما خلقت خلقًا أكرم على منك» فدل على أنه قد خلق قبله غيره، والذي يسميه الفلاسفة العقل الأول، ليس قبله مخلوق عندهم.

وأيضا، فإنه قال: «بك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب»، فجعل به هذه الأعراض الأربعة، وعند أولئك المتفلسفة الباطنية، أن جميع العالم صدر عن العقل الأول، وهو رب السموات والأرض وما بينهما عندهم، وإن كان مربوبًا للواجب بنفسه، وهو عندهم متولد عن الله، لازم لذاته، وليس هذا قول أحد من أهل الملل، لا المسلمين ولا إليهود، ولا النصاري إلا مَنْ أَلْحَدَ منهم ولا هو قول المجوس، ولا جمهور الصابئين، ولا أكثر المشركين، ولا جمهور الفلاسفة، بل هو قول طائفة منهم.

وأيضا، فإن العقل في لغة المسلمين عَرَض من الأعراض، قائم بغيره وهو غريزة، أو علم، أو عمل بالعلم، ليس العقل في لغتهم جوهرًا قائمًا بنفسه، فيمتنع أن يكون أول المخلوقات عرضًا قائمًا بغيره، فإن العرض لا يقوم إلا بمحل، فيمتنع وجوده قبل وجود شيء من الأعيان، وأما أولئك المتفلسفة، ففي اصطلاحهم أنه جوهر قائم بنفسه، وليس هذا المعني هو معني العقل في لغة المسلمين، والنبي خاطب المسلمين بلغة العرب، لا بلغة اليونان، فعلم أن المعني الذي أراده المتفلسفة لم يقصده الرسول، لو كان تكلم بهذا اللفظ، فكيف إذا لم يتكلم به؟

وأما الحديث الثاني، وهو قوله: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية، وليس هو في شيء من كتبهم، وخطاب الله ورسوله للناس عام يتناول جميع المكلفين، كقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } 1، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } 2، { يَا عِبَادِ } 3 { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } 4 وكذلك النبي كان يخاطب الناس على منبره بكلام واحد يسمعه كل أحد، لكن الناس يتفاضلون في فهم الكلام بحسب ما يخص الله به كل واحد منهم من قوة الفهم، وحسن العقيدة.

ولهذا كان أبو بكر الصديق أعلمهم بمراده، كما في الصحيحين، عن أبي سعيد: أن النبي خطب الناس فقال: «إن عبدًا خَيَّره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بأنفسنا وأموالنا، فجعل الناس يعجبون منه، ويقولون: عجبًا لهذا الشيخ! بكى أن ذكر رسول الله عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، قال: فكان رسول الله هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به» فالنبي ذكر عبدًا مطلقًا لم يعينه، ولكن أبو بكر عرف عينه.

وما يرويه بعض الناس عن عمر، أنه قال: كان رسول الله وأبو بكر يتحدثان، وكنت كالزِّْنْجِي بينهما فهذا كذب مختلق. وكذلك ما يروي أنه أجاب أبا بكر بجواب، وأجاب عائشة بجواب، فهذا كذب باتفاق أهل العلم.


هامش

  1. [النساء: 1]
  2. [البقرة: 104]
  3. [الزخرف: 68]
  4. [البقرة: 47]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن عشر - الحديث
سئل ما حد الحديث النبوي | فصل تعريف الحديث الواحد | فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا | فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف | فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع | أن يسمع من لفظ المحدث | أن يقرأ على المحدث فيقر به | المناولة والمكاتبة | الإجازة | معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب | شرط البخاري ومسلم | قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح | الخبر ينقسم ثلاثة أقسام | فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا | أسباب تعمد الكذب | فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا | فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين | فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة | فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد | سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث | كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم | وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن | أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه | بعض الأخبار الموضوعة | وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن | سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي | فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا | فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته | فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته | فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار | فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني | فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم | فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم | فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين | شرح حديث إنما الأعمال بالنيات | فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | فصل في قوله وجلت قلوبهم | فصل في معنى حديث خطبة الحاجة | فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ | فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث | حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء | فصل حديث أعطيت جوامع الكلم | حديث الكرب اللهم إني عبدك | فصل حديث المرء مع من أحب | وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا | فصل حديث من يستغن يغنه الله | فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر | فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات | سئل عن أحاديث هل هي صحيحة | سئل عن بعض الأحاديث | سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا | وسئل عن قصة إبليس | بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار | سئل عن أحاديث يرويها قصاص | قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد | معنى حديث على كل مسلم صدقة | وسئل عن أحاديث يرويها القصاص